الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكم عَلى سَواءٍ وإنْ أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ﴾ ﴿إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ ويَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ﴾ ﴿وإنْ أدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكم ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ ﴿قالَ رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْرَدَ عَلى الكُفّارِ الحُجَجَ في أنْ لا إلَهَ سِواهُ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وبَيَّنَ أنَّهُ أرْسَلَ رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعالِمِينَ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَكُونُ إعْذارًا وإنْذارًا في مُجاهَدَتِهِمْ والإقْدامِ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنَّما يَقْصُرُ الحُكْمُ عَلى شَيْءٍ أوْ يَقْصُرُ الشَّيْءُ عَلى حُكْمٍ، كَقَوْلِكَ: إنَّما زِيدٌ قائِمٌ، أوْ إنَّما يَقُومُ زَيْدٌ، وقَدِ اجْتَمَعَ المِثالانِ في هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ: ﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ﴾ مَعَ فاعِلِهِ بِمَنزِلَةِ إنَّما يَقُومُ زَيْدٌ، و﴿أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ بِمَنزِلَةِ إنَّما زَيْدٌ قائِمٌ، وفائِدَةُ اجْتِماعِهِما الدَّلالَةُ عَلى أنَّ الوَحْيَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَقْصُورٌ عَلى إثْباتِ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى وفي قَوْلِهِ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أنَّ الوَحْيَ الوارِدَ عَلى هَذا السَّنَنِ يُوجِبُ أنْ تُخْلِصُوا التَّوْحِيدَ لَهُ، وأنْ تَتَخَلَّصُوا مِن نِسْبَةِ الأنْدادِ، وفِيهِ أنَّهُ يَجُوزُ إثْباتُ التَّوْحِيدِ بِالسَّمْعِ، فَإنْ قِيلَ: لَوْ دَلَّتْ إنَّما عَلى الحَصْرِ لَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمْ يُوحَ إلى الرَّسُولِ شَيْءٌ إلّا التَّوْحِيدَ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ فاسِدٌ، قُلْنا: المَقْصُودُ مِنهُ المُبالَغَةُ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكم عَلى سَواءٍ﴾ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: آذَنَ مَنقُولٌ مِن أذِنَ إذا عَلِمَ، ولَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في الجَرْيِ مَجْرى الإنْذارِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩] . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: الإيذانُ عَلى السَّواءِ الدُّعاءُ إلى الحَرْبِ مُجاهَرَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] وفائِدَةُ ذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَجُوزُ أنْ يُقَدِّرَ عَلى مَن أشْرَكَ مِن قُرَيْشٍ أنَّ حالَهم مُخالِفٌ لِسائِرِ الكُفّارِ في المُجاهَدَةِ، فَعَرَّفَهم بِذَلِكَ أنَّهم كالكُفّارِ في ذَلِكَ. وثانِيها: أنَّ المُرادَ فَقَدْ أعْلَمْتُكم ما هو الواجِبُ عَلَيْكم مِنَ التَّوْحِيدِ وغَيْرِهِ عَلى السَّواءِ، فَلَمْ أُفَرِّقْ في الإبْلاغِ والبَيانِ بَيْنَكم؛ لِأنِّي بُعِثْتُ مُعَلِّمًا. والغَرَضُ مِنهُ إزاحَةُ العُذْرِ لِئَلّا يَقُولُوا: ﴿رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا﴾ [طه: ١٣٤] . وثالِثُها: عَلى سَواءٍ عَلى إظْهارٍ وإعْلانٍ. ورابِعُها: عَلى مَهَلٍ، والمُرادُ أنِّي لا أُعاجِلُ بِالحَرْبِ الَّذِي آذَنْتُكم بِهِ، بَلْ أُمْهِلُ وأُؤَخِّرُ رَجاءَ الإسْلامِ مِنكم. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنْ أدْرِي أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما: ﴿أقَرِيبٌ أمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ﴾ مِن يَوْمِ القِيامَةِ، ومِن عَذابِ الدُّنْيا، ثُمَّ قِيلَ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ: ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ﴾ [الأنبياء: ٩٧] يَعْنِي مِنهُما، فَإنَّ مِثْلَ هَذا الخَبَرِ لا يَجُوزُ نَسْخُهُ. وثانِيهِما: المُرادُ أنَّ الَّذِي آذَنَهم فِيهِ مِنَ الحَرْبِ لا يَدْرِي هو قَرِيبٌ (p-٢٠٢)أمْ بَعِيدٌ، لِئَلّا يُقَدَّرَ أنَّهُ يَتَأخَّرُ كَأنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِأنْ يُنْذِرَهم بِالجِهادِ الَّذِي يُوحى إلَيْهِ أنْ يَأْتِيَهُ مِن بَعْدُ ولَمْ يُعَرِّفْهُ الوَقْتَ؛ فَلِذَلِكَ أمَرَهُ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ لا يَعْلَمُ قُرْبَهُ أمْ بُعْدَهُ؛ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وكانَ الأمْرُ بِالجِهادِ بَعْدَ الهِجْرَةِ. وثالِثُها: ”أنَّ ما يُوعَدُونَ بِهِ“ مِن غَلَبَةِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ كائِنٌ لا مَحالَةَ، ولا بُدَّ أنْ يَلْحَقَهم بِذَلِكَ الذُّلُّ والصَّغارُ، وإنْ كُنْتُ لا أدْرِي مَتى يَكُونُ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ ويَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ﴾ فالمَقْصُودُ مِنهُ الأمْرُ بِالإخْلاصِ وتَرْكُ النِّفاقِ؛ لِأنَّهُ تَعالى إذا كانَ عالِمًا بِالضَّمائِرِ وجَبَ عَلى العاقِلِ أنْ يُبالِغَ في الإخْلاصِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ أدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكم ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: لَعَلَّ تَأْخِيرَ العَذابِ عَنْكم. وثانِيها: لَعَلَّ إبْهامَ الوَقْتِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمُ العَذابُ فِيهِ فِتْنَةٌ لَكم أيْ بَلِيَّةٌ واخْتِبارٌ لَكم لِيَرى صُنْعَكم، وهَلْ تُحْدِثُونَ تَوْبَةً ورُجُوعًا عَنْ كُفْرِكم أمْ لا. وثالِثُها: قالَ الحَسَنُ: لَعَلَّ ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ الدُّنْيا بَلِيَّةٌ لَكم، والفِتْنَةُ البَلْوى والِاخْتِبارُ. ورابِعُها: لَعَلَّ تَأْخِيرَ الجِهادِ فِتْنَةٌ لَكم؛ إذا أنْتُمْ دُمْتُمْ عَلى كُفْرِكم؛ لِأنَّ ما يُؤَدِّي إلى الضَّرَرِ العَظِيمِ يَكُونُ فِتْنَةً، وإنَّما قالَ: لا أدْرِي لِتَجْوِيزِ أنْ يُؤْمِنُوا فَلا يَكُونُ تَبْقِيَتُهم فِتْنَةً، بَلْ يَنْكَشِفُ عَنْ نِعْمَةٍ ورَحْمَةٍ. وخامِسُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ وإنْ أدْرِي لَعَلَّ ما بَيَّنْتُ وأعْلَمْتُ وأوْعَدْتُ فِتْنَةٌ لَكم؛ لِأنَّهُ زِيادَةٌ في عَذابِكم إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا؛ لِأنَّ المُعْرِضَ عَنِ الإيمانِ مَعَ البَيانِ حالًا بَعْدَ حالٍ يَكُونُ عَذابُهُ أشَدَّ، وإذا مَتَّعَهُ اللَّهُ تَعالى بِالدُّنْيا يَكُونُ ذَلِكَ كالحُجَّةِ عَلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ: ”قُلْ رَبِّ احْكم بِالحَقِّ“ عَلى الِاكْتِفاءِ بِالكَسْرَةِ ”ورَبُّ احْكم“ عَلى الضَّمِّ ”ورَبِّي أحْكَمُ“ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ ”ورَبِّيَ أحْكَمَ“ مِنَ الإحْكامِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أيْ رَبِّي اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَ قَوْمِي بِالحَقِّ أيْ بِالعَذابِ، كَأنَّهُ قالَ: اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَ مَن كَذَّبَنِي بِالعَذابِ، وقالَ قَتادَةُ: أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَقْتَدِيَ بِالأنْبِياءِ في هَذِهِ الدَّعْوَةِ وكانُوا يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩] فَلا جَرَمَ حَكَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِالقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ. وثانِيها: افْصِلْ بَيْنِي وبَيْنَهم بِما يُظْهِرُ الحَقَّ لِلْجَمِيعِ، وهو أنْ تَنْصُرَنِي عَلَيْهِمْ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أيْ مِنَ الشِّرْكِ والكُفْرِ وما تُعارِضُونَ بِهِ دَعْوَتِي مِنَ الأباطِيلِ والتَّكْذِيبِ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: قُلْ داعِيًا لِي: ﴿رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ﴾ وقُلْ مُتَوَعِّدًا لِلْكُفّارِ: ﴿ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِالياءِ المَنقُوطَةِ مِن تَحْتٍ، أيْ قُلْ لِأصْحابِكَ المُؤْمِنِينَ، ورَبُّنا الرَّحْمَنُ المُسْتَعانُ عَلى ما يَصِفُ الكُفّارُ مِنَ الأباطِيلِ، أيْ مِنَ العَوْنِ عَلى دَفْعِ أباطِيلِهِمْ. وثانِيها: كانُوا يَطْمَعُونَ أنْ تَكُونَ لَهُمُ الشَّوْكَةُ والغَلَبَةُ فَكَذَّبَ اللَّهُ ظُنُونَهم وخَيَّبَ آمالَهم ونَصَرَ رَسُولَهُ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، وخَذَلَهم قالَ القاضِيَ: إنَّما خَتَمَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ﴾ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَدْ بَلَغَ في البَيانِ الغايَةَ لَهم، وبَلَغُوا النِّهايَةَ في أذِيَّتِهِ وتَكْذِيبِهِ، فَكانَ قُصارى أمْرِهِ تَعالَ بِذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ وتَعْرِيفًا أنَّ المَقْصُودَ مَصْلَحَتُهم، فَإذا أبَوْا إلّا التَّمادِيَ في كُفْرِهِمْ، فَعَلَيْكَ بِالِانْقِطاعِ إلى رَبِّكَ لِيَحْكُمَ بَيْنَكَ وبَيْنَهم بِالحَقِّ، إمّا بِتَعْجِيلِ العِقابِ بِالجِهادِ أوْ بِغَيْرِهِ، وإمّا بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ، فَإنَّ أمْرَهم وإنْ تَأخَّرَ فَما هو كائِنٌ قَرِيبٌ، وما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَقُولُ ذَلِكَ في حُرُوبِهِ كالدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى أمَرَهُ أنْ يَقُولَ هَذا القَوْلَ (p-٢٠٣)كالِاسْتِعْجالِ لِلْأمْرِ بِمُجاهَدَتِهِمْ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وصَلاتُهُ عَلى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وآلِهِ وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا آمِينَ. تَمَّ الجُزْءُ الثّانِي والعِشْرُونَ، ويَلِيهِ الجُزْءُ الثّالِثُ والعِشْرُونَ، وأوَّلُهُ سُورَةُ الحَجِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب