الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ قَدْ أنْجَيْناكم مِن عَدُوِّكم وواعَدْناكم جانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ ونَزَّلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكم غَضَبِي ومَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى﴾ ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أنْعَمَ عَلى قَوْمِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْواعِ النِّعَمِ ذَكَّرَهم إيّاها ولا شَكَّ أنَّ إزالَةَ المَضَرَّةِ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلى إيصالِ المَنفَعَةِ، ولا شَكَّ أنَّ إيصالَ المَنفَعَةِ الدِّينِيَّةِ أعْظَمُ في كَوْنِهِ نِعْمَةً مِن إيصالِ المَنفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلِهَذا بَدَأ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أنْجَيْناكم مِن عَدُوِّكُمْ﴾ وهو إشارَةٌ إلى إزالَةِ الضَّرَرِ فَإنَّ فِرْعَوْنَ كانَ يُنْزِلُ بِهِمْ مِن أنْواعِ الظُّلْمِ كَثِيرًا مِنَ القَتْلِ والإذْلالِ والإخْراجِ والإتْعابِ في الأعْمالِ، ثُمَّ ثَنّى بِذِكْرِ (p-٨٣)المَنفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وهي قَوْلُهُ: ﴿وواعَدْناكم جانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ﴾ ووَجْهُ المَنفَعَةِ فِيهِ أنَّهُ أنْزَلَ في ذَلِكَ الوَقْتِ عَلَيْهِمْ كِتابًا فِيهِ بَيانُ دِينِهِمْ وشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ المَنفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وهي قَوْلُهُ: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ ثُمَّ زَجَرَهم عَنِ العِصْيانِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكم غَضَبِي﴾ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ مَن عَصى ثُمَّ تابَ كانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ﴾ وهَذا بَيانُ المَقْصُودِ مِنَ الآيَةِ ثُمَّ هَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”قَدْ أنْجَيْتُكم ووَعَدْتُكم“ إلى قَوْلِهِ: ﴿مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ كُلَّها بِالتّاءِ إلّا قَوْلَهُ: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ فَإنَّها بِالنُّونِ، وقَرَأ الباقُونَ كُلَّها بِالنُّونِ، وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ ”وواعَدْناكم“ وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”وواعَدْتُكم“ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الكَلْبِيُّ: لَمّا جاوَزَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِبَنِي إسْرائِيلَ البَحْرَ قالُوا لَهُ: ألَيْسَ وعَدْتَنا أنْ تَأْتِيَنا مِن رَبِّنا بِكِتابٍ فِيهِ الفَرائِضُ والأحْكامُ. قالَ: بَلى، ثُمَّ تَعَجَّلَ مُوسى إلى رَبِّهِ لِيَأْتِيَهم بِالكِتابِ ووَعَدَهم أنْ يَأْتِيَهم إلى أرْبَعِينَ لَيْلَةً مِن يَوْمِ انْطَلَقَ، وإنَّما قالَ: ﴿وواعَدْناكُمْ﴾ لِأنَّهُ إنَّما واعَدَ مُوسى أنْ يُؤْتِيَهُ التَّوْراةَ لِأجْلِهِمْ وقالَ مُقاتِلٌ: إنَّما قالَ: واعَدْناكم لِأنَّ الخِطابَ لَهُ ولِلسَّبْعِينَ المُخْتارَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ المُفَسِّرُونَ: لَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ ولا يَسارٌ بَلِ المُرادُ أنَّ طُورَ سَيْناءَ عَنْ يَمِينِ مَنِ انْطَلَقَ مِن مِصْرَ إلى الشّامِ وقُرِئَ الأيْمَنِ بِالجَرِّ عَلى الجِوارِ نَحْوَ ”جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ“ وانْتِفاعُ القَوْمِ بِذَلِكَ إمّا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَيْهِمْ وفِيها شَرْحُ دِينِهِمْ، وإمّا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا كَلَّمَ مُوسى عَلى الطُّورِ حَصَلَ لِلْقَوْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا﴾ لَيْسَ أمْرَ إيجابٍ بَلْ أمْرَ إباحَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢] . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في الطَّيِّباتِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: اللَّذائِذُ لِأنَّ المَنَّ والسَّلْوى مِن لَذائِذِ الأطْعِمَةِ. والثّانِي: وهو قَوْلُ الكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ الحَلالُ لِأنَّهُ شَيْءٌ أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِمْ ولَمْ تَمَسَّهُ يَدُ الآدَمِيِّينَ، ويَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ لِأنَّ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ مَعْنًى مُشْتَرَكًا. وتَمامُ القَوْلِ في هَذِهِ القِصَّةِ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَطْغَوْا﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لا تَطْغَوْا، أيْ لا يَظْلِمْ بَعْضُكم بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِن صاحِبِهِ. وثانِيها: قالَ مُقاتِلٌ والضَّحّاكُ: لا تَظْلِمُوا فِيهِ أنْفُسَكم بِأنْ تَتَجاوَزُوا حَدَّ الإباحَةِ. وثالِثُها: قالَ الكَلْبِيُّ: لا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أيْ لا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي عَلى مُخالَفَتِي ولا تُعْرِضُوا عَلى الشُّكْرِ ولا تَعْدِلُوا عَنِ الحَلالِ إلى الحَرامِ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَرَأ الأعْمَشُ والكِسائِيُّ ”فَيَحُلَّ، ومَن يَحْلُلْ“ كِلاهُما بِالضَّمِّ، ورَوى الأعْمَشُ عَنْ أصْحابِ عَبْدِ اللَّهِ ”فَيَحِلَّ“ بِالكَسْرِ ”ومَن يَحْلُلْ“ بِالرَّفْعِ، وقِراءَةُ العامَّةِ بِالكَسْرِ في الكَلِمَتَيْنِ، أمّا مَن كَسَرَ فَمَعْناهُ الوُجُوبُ مِن حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ إذا وجَبَ أداؤُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] والمَضْمُومُ في مَعْنى النُّزُولِ وقَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ هَوى﴾ أيْ شَقِيَ وقِيلَ: فَقَدْ وقَعَ في الهاوِيَةِ، يُقالُ: هَوى يَهْوِي هَوِيًّا إذا سَقَطَ مِن عُلُوٍّ إلى أسْفَلَ. (p-٨٤)المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غافِرًا وغَفُورًا وغَفّارًا، وبِأنَّ لَهُ غُفْرانًا ومَغْفِرَةً وعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ والأمْرِ. أمّا إنَّهُ وصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ غافِرًا فَقَوْلُهُ: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ﴾ [غافر: ٣] وأمّا كَوْنُهُ غَفُورًا فَقَوْلُهُ: ﴿ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الكهف: ٥٨] وأمّا كَوْنُهُ غَفّارًا فَقَوْلُهُ: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ﴾ وأمّا الغُفْرانُ فَقَوْلُهُ: ﴿غُفْرانَكَ رَبَّنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] وأمّا المَغْفِرَةُ فَقَوْلُهُ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ﴾ [الرعد: ٦] وأمّا صِيغَةُ الماضِي فَقَوْلُهُ: في حَقِّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ [ص: ٢٥] وأمّا صِيغَةُ المُسْتَقْبَلِ فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] وقَوْلُهُ في حَقِّ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ [الفتح: ٢] وأمّا لَفْظُ الِاسْتِغْفارِ فَقَوْلُهُ: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [محمد: ١٩] وفي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] وفي المَلائِكَةِ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ [الشورى: ٥] واعْلَمْ أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كُلَّهم طَلَبُوا المَغْفِرَةَ أمّا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: ﴿وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، وأمّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: ﴿وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي﴾ [هود: ٤٧]، وأمّا إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٨٢] وطَلَبَها لِأبِيهِ: ﴿سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧] وأمّا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ في إخْوَتِهِ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف: ٩٢] وأمّا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَفي قِصَّةِ القِبْطِيِّ: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: ١٥] وأمّا داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ [ص: ٢٤] أمّا سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا﴾ [ص: ٣٥] وأمّا عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨] وأمّا مُحَمَّدٌ ﷺ فَقَوْلُهُ: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [محمد: ١٩] وأمّا الأُمَّةُ فَقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولِإخْوانِنا﴾ [الحشر: ١٠] . واعْلَمْ أنَّ بَسْطَ الكَلامِ هَهُنا أنْ نُبَيِّنَ أوَّلًا حَقِيقَةَ المَغْفِرَةِ ثُمَّ نَتَكَلَّمَ في كَوْنِهِ تَعالى غافِرًا وغَفُورًا وغَفّارًا، ثُمَّ نَتَكَلَّمَ في أنَّ مَغْفِرَتَهُ عامَّةٌ، ثُمَّ نُبَيِّنَ أنَّ مَغْفِرَتَهُ في حَقِّ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كَيْفَ تُعْقَلُ مَعَ أنَّهُ لا ذَنْبَ لَهم، ويَتَفَرَّعُ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ اسْتِدْلالُ أصْحابِنا في إثْباتِ العَفْوِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ الذَّنْبَ إمّا أنْ يَكُونَ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا بَعْدَ التَّوْبَةِ أوْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، والقِسْمانِ الأوَّلانِ يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ عَذابُهُما ويَجِبُ عَلَيْهِ التَّجاوُزُ عَنْهُما، وتَرْكُ القَبِيحِ لا يُسَمّى غُفْرانًا فَتَعَيَّنَ أنْ لا يَتَحَقَّقَ الغُفْرانُ إلّا في القِسْمِ الثّالِثِ وهو المَطْلُوبُ، فَإنْ قِيلَ: هَذا يُناقِضُ صَرِيحَ الآيَةِ لِأنَّهُ أثْبَتَ الغُفْرانَ في حَقِّ مَنِ اسْتَجْمَعَ أُمُورًا أرْبَعَةً: التَّوْبَةُ والإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ والِاهْتِداءُ، قُلْنا: إنَّ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى ثُمَّ أذْنَبَ بَعْدَ ذَلِكَ كانَ تائِبًا ومُؤْمِنًا وآتِيًا بِالعَمَلِ الصّالِحِ، ومُهْتَدِيًا ومَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مُذْنِبًا فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ كَلامُنا، وهَهُنا نُكْتَةٌ: وهي أنَّ العَبْدَ لَهُ أسْماءٌ ثَلاثَةٌ: الظّالِمُ والظَّلُومُ والظَّلّامُ. فالظّالِمُ: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] والظَّلُومُ: ﴿إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] والظَّلّامُ إذا كَثُرَ ذَلِكَ مِنهُ، ولِلَّهِ في مُقابَلَةِ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأسْماءِ اسْمٌ فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: إنْ كُنْتَ ظالِمًا فَأنا غافِرٌ وإنْ كُنْتَ ظَلُومًا فَأنا غَفُورٌ، وإنْ كُنْتَ ظَلّامًا فَأنا غَفّارٌ: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ﴾ . المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: كَثُرَ اخْتِلافُ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ وسَبَبُ ذَلِكَ أنَّ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا، فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الأشْياءِ ؟ والوُجُوهُ المُلَخَّصَةُ فِيهِ ثَلاثَةٌ: أحَدُها: المُرادُ مِنهُ الِاسْتِمْرارُ عَلى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ إذِ المُهْتَدِي في الحالِ لا يَكْفِيهِ ذَلِكَ في الفَوْزِ بِالنَّجاةِ حَتّى يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ في المُسْتَقْبَلِ ويَمُوتَ عَلَيْهِ، ويُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ (p-٨٥)[فصلت: ٣٠] وكَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّراخِي في هَذِهِ الآيَةِ ولَيْسَتْ لِتَبايُنِ المَرْتَبَتَيْنِ بَلْ لِتَبايُنِ الوَقْتَيْنِ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: الإتْيانُ بِالتَّوْبَةِ والإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ مِمّا قَدْ يَتَّفِقُ لِكُلِّ أحَدٍ ولا صُعُوبَةَ في ذَلِكَ إنَّما الصُّعُوبَةُ في المُداوَمَةِ عَلى ذَلِكَ والِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ. وثانِيها: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ أيْ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ بِهِدايَةِ اللَّهِ وتَوْفِيقِهِ وبَقِيَ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ في إدامَةِ ذَلِكَ مِن غَيْرِ تَقْصِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وثالِثُها: المُرادُ مِنَ الإيمانِ الِاعْتِقادُ المَبْنِيُّ عَلى الدَّلِيلِ، والعَمَلُ الصّالِحُ إشارَةٌ إلى أعْمالِ الجَوارِحِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَتَعَلَّقُ بِتَطْهِيرِ القَلْبِ مِنَ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ وهو المُسَمّى بِالطَّرِيقَةِ في لِسانِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ انْكِشافُ حَقائِقِ الأشْياءِ لَهُ وهو المُسَمّى بِالحَقِيقَةِ في لِسانِ الصُّوفِيَّةِ فَهاتانِ المَرْتَبَتانِ هُما المُرادَتانِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ . المَسْألَةُ العاشِرَةُ: مِنهم مَن قالَ: تَجِبُ التَّوْبَةُ عَنِ الكُفْرِ أوَّلًا ثُمَّ الإتْيانُ بِالإيمانِ ثانِيًا واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَإنَّهُ تَعالى قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلى الإيمانِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَمَلَ الصّالِحَ غَيْرُ داخِلٍ في الإيمانِ لِأنَّهُ تَعالى عَطَفَ العَمَلَ الصّالِحَ عَلى الإيمانِ، والمَعْطُوفُ مُغايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب