الباحث القرآني
(p-٧٧)
قوله تعالى: ﴿قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ والَّذِي فَطَرَنا فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ إنَّما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ ﴿إنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وما أكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأبْقى﴾ ﴿إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيا﴾ ﴿ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلا﴾ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ جَزاءُ مَن تَزَكّى﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى تَهْدِيدَ فِرْعَوْنَ لِأُولَئِكَ حَكى جَوابَهم عَنْ ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى حُصُولِ اليَقِينِ التّامِّ والبَصِيرَةِ الكامِلَةِ لَهم في أُصُولِ الدِّينِ، فَقالُوا: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِرْعَوْنَ طَلَبَ مِنهُمُ الرُّجُوعَ عَنِ الإيمانِ وإلّا فَعَلَ بِهِمْ ما أوْعَدَهم فَقالُوا: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ جَوابًا لِما قالَهُ وبَيَّنُوا العِلَّةَ وهي أنَّ الَّذِي جاءَهم بَيِّناتٌ وأدِلَّةٌ، والَّذِي يَذْكُرُهُ فِرْعَوْنُ مَحْضُ الدُّنْيا، ومَنافِعُ الدُّنْيا ومَضارُّها لا تُعارِضُ مَنافِعَ الآخِرَةِ ومَضارَّها، أمّا قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي فَطَرَنا﴾ فَفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ التَّقْدِيرَ لَنْ نُؤْثِرَكَ يا فِرْعَوْنُ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ وعَلى الَّذِي فَطَرَنا أيْ وعَلى طاعَةِ الَّذِي فَطَرَنا وعَلى عِبادَتِهِ.
الوَجْهُ الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَفْضًا عَلى القَسَمِ. واعْلَمْ أنَّهم لَمّا عَلِمُوا أنَّهم مَتى أصَرُّوا عَلى الإيمانِ فَعَلَ فِرْعَوْنُ ما أوْعَدَهم بِهِ فَقالُوا: ﴿فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ﴾ لا عَلى مَعْنى أنَّهم أمَرُوهُ بِذَلِكَ لَكِنْ أظْهَرُوا أنَّ ذَلِكَ الوَعِيدَ لا يُزِيلُهُمُ البَتَّةَ عَنْ إيمانِهِمْ وعَمّا عَرَفُوهُ مِنَ الحَقِّ عِلْمًا وعَمَلًا، ثُمَّ بَيَّنُوا ما لِأجْلِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِمِ احْتِمالُ ذَلِكَ فَقالُوا: ﴿إنَّما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ وقُرِئَ: ”تُقْضى هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا“ ووَجْهُها أنَّ الحَياةَ في القِراءَةِ المَشْهُورَةِ مُنْتَصِبَةٌ عَلى الظَّرْفِ فاتُّسِعَ في الظَّرْفِ بِإجْرائِهِ مُجْرى المَفْعُولِ بِهِ كَقَوْلِكَ: في صُمْتُ يَوْمَ الجُمُعَةِ صِيمَ، والمَعْنى أنَّ قَضاءَكَ وحُكْمَكَ إنَّما يَكُونُ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا وهي كَيْفَ كانَتْ فانِيَةً وإنَّما مَطْلَبُنا سَعادَةُ الآخِرَةِ وهي باقِيَةٌ، والعَقْلُ يَقْتَضِي تَحَمُّلَ الضَّرَرِ الفانِي المُتَوَصَّلِ بِهِ إلى السَّعادَةِ الباقِيَةِ ثُمَّ قالُوا: ﴿إنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا﴾ ولَمّا كانَ أقْرَبُ خَطاياهم عَهْدًا ما أظْهَرُوهُ مِنَ السِّحْرِ، قالُوا: ﴿وما أكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ وذَكَرُوا في ذَلِكَ الإكْراهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ المُلُوكَ في ذَلِكَ الزَّمانِ كانُوا يَأْخُذُونَ البَعْضَ مِن رَعِيَّتِهِمْ ويُكَلِّفُونَهم تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَإذا شاخَ بَعَثُوا إلَيْهِ أحْداثًا لِيُعَلِّمَهم لِيَكُونَ في كُلِّ وقْتٍ مَن يُحْسِنُهُ فَقالُوا هَذا القَوْلَ لِأجْلِ ذَلِكَ أيْ كُنّا في التَّعَلُّمِ أوَّلًا والتَّعْلِيمِ ثانِيًا مُكْرَهِينَ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
وثانِيها: أنَّ رُؤَساءَ السَّحَرَةِ كانُوا اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ، اثْنانِ مِنَ القِبْطِ، والباقِي مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَقالُوا لِفِرْعَوْنَ: أرِنا مُوسى نائِمًا فَرَأوْهُ فَوَجَدُوهُ تَحْرُسُهُ عَصاهُ فَقالُوا: ما هَذا بِساحِرٍ، السّاحِرُ إذا نامَ بَطَلَ سِحْرُهُ فَأبى إلّا أنْ يُعارِضُوهُ.
وثالِثُها: قالَ الحَسَنُ: إنَّ السَّحَرَةَ حُشِرُوا مِنَ المَدائِنِ لِيُعارِضُوا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَأُحْضِرُوا بِالحَشْرِ وكانُوا مُكْرَهِينَ في الحُضُورِ ورُبَّما كانُوا مُكْرَهِينَ أيْضًا في إظْهارِ السِّحْرِ.
ورابِعُها: قالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: دَعْوَةُ السُّلْطانِ إكْراهٌ وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ دَعْوَةَ السُّلْطانِ إذا لَمْ يَكُنْ (p-٧٨)مَعَها خَوْفٌ لَمْ تَكُنْ إكْراهًا، ثُمَّ قالُوا: ﴿واللَّهُ خَيْرٌ﴾ ثَوابًا لِمَن أطاعَهُ. ﴿وأبْقى﴾ عِقابًا لِمَن عَصاهُ، وهَذا جَوابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولَتَعْلَمُنَّ أيُّنا أشَدُّ عَذابًا وأبْقى﴾ . قالَ الحَسَنُ: سُبْحانَ اللَّهِ القَوْمُ كُفّارٌ وهم أشَدُّ الكافِرِينَ كُفْرًا ثَبَتَ في قُلُوبِهِمِ الإيمانُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ فَلَمْ يَتَعاظَمْ عِنْدَهم أنْ قالُوا: ﴿فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ﴾ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى، واللَّهِ إنَّ أحَدَكُمُ اليَوْمَ لَيَصْحَبُ القُرْآنَ سِتِّينَ عامًا ثُمَّ إنَّهُ يَبِيعُ دِينَهُ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ، ثُمَّ خَتَمُوا هَذا الكَلامَ بِشَرْحِ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ وأحْوالِ المُجْرِمِينَ في عَرْصَةِ القِيامَةِ، فَقالُوا في المُجْرِمِينَ: ﴿إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الهاءُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ﴾ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَعْنِي أنَّ الأمْرَ والشَّأْنَ كَذا وكَذا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ في القَطْعِ عَلى وعِيدِ أصْحابِ الكَبائِرِ قالُوا: صاحِبُ الكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وكُلُّ مُجْرِمٍ فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ وكَلِمَةُ ”مَن“ في مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ العُمُومَ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْناءُ كُلِّ واحِدٍ مِنها والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ، واعْتَرَضَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ مِن أصْحابِنا عَلى هَذا الكَلامِ، فَقالَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ المُجْرِمَ في مُقابَلَةِ المُؤْمِنِ فَإنَّهُ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ﴾ وقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٢٩] وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: ﴿فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيا﴾ والمُؤْمِنُ صاحِبُ الكَبِيرَةِ وإنْ عُذِّبَ بِالنّارِ لا يَكُونُ بِهَذا الوَصْفِ، وفي الخَبَرِ الصَّحِيحِ: ”«يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ» “ .
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الِاعْتِراضاتِ ضَعِيفَةٌ، أمّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ المُجْرِمَ في مُقابَلَةِ المُؤْمِنِ فَهَذا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذا إنَّما يَنْفَعُ لَوْ ثَبَتَ أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، ومَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ أنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهَذا المُعْتَرِضُ كَأنَّهُ بَنى هَذا الِاعْتِراضَ عَلى مَذْهَبِ نَفْسِهِ وذَلِكَ ساقِطٌ، قَوْلُهُ ثانِيًا: إنَّهُ لا يَلِيقُ بِصاحِبِ الكَبِيرَةِ أنْ يُقالَ في حَقِّهِ: إنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ فَإنَّ عَذابَ جَهَنَّمَ في غايَةِ الشِّدَّةِ قالَ تَعالى: ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢]، وأمّا الحَدِيثُ فَيُقالُ: ”القُرْآنُ مُتَواتِرٌ فَلا يُعارِضُهُ خَبَرُ الواحِدِ“ . ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ ولِلْخَصْمِ أنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ: ذَلِكَ يُفِيدُ الظَّنَّ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ في العَمَلِيّاتِ، وهَذِهِ المَسْألَةُ لَيْسَتْ مِنَ العَمَلِيّاتِ بَلْ مِنَ الِاعْتِقاداتِ، فَلا يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْها هَهُنا. فَإنِ اعْتَرَضَ إنْسانٌ آخَرُ، وقالَ: أجْمَعْنا عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَشْرُوطَةٌ بِنَفْيِ التَّوْبَةِ وبِأنْ لا يَكُونَ عِقابُهُ مُحْبَطًا بِثَوابِ طاعَتِهِ، والقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ هو أنْ لا يُوجَدَ ما يُحْبِطُ ذَلِكَ العِقابَ ولَكِنْ عِنْدَنا العَفْوُ مُحْبِطٌ لِلْعِقابِ، وعِنْدَنا أنَّ المُجْرِمَ الَّذِي لا يُوجَدُ في حَقِّهِ العَفْوُ لا بُدَّ وأنْ يَدْخُلَ جَهَنَّمَ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاعْتِراضَ أيْضًا ضَعِيفٌ أمّا شَرْطُ نَفْيِ التَّوْبَةِ فَلا حاجَةَ إلَيْهِ لِأنَّهُ قالَ: ﴿مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ أيْ حالَ كَوْنِهِ مُجْرِمًا والتّائِبُ لا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ أتى رَبَّهُ حالَ كَوْنِهِ مُجْرِمًا. وأمّا صاحِبُ الصَّغِيرَةِ فَلِأنَّهُ لا يُسَمّى مُجْرِمًا لِأنَّ المُجْرِمَ اسْمٌ لِلذَّمِّ فَلا يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى صاحِبِ الصَّغِيرَةِ، بَلِ الِاعْتِراضُ الصَّحِيحُ أنْ نَقُولَ: عُمُومُ هَذا الوَعِيدِ مُعارَضٌ بِما جاءَ بَعْدَهُ مِن عُمُومِ الوَعْدِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلا﴾ وكَلامُنا فِيمَن أتى بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ ثُمَّ أتى بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ الكَبائِرِ. فَإنْ قِيلَ: عِقابُ المَعْصِيَةِ يُحْبِطُ ثَوابَ الطّاعَةِ، قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: ثَوابُ الإيمانِ يَدْفَعُ عِقابَ المَعْصِيَةِ فَإنْ قالُوا: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ لَعْنُهُ وإقامَةُ الحَدِّ عَلَيْهِ. قُلْنا: أمّا (p-٧٩)اللَّعْنُ لِلْغَيْرِ جائِزٌ عِنْدَنا، وأمّا إقامَةُ الحَدِّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَكُونُ عَلى سَبِيلِ المِحْنَةِ كَما في حَقِّ التّائِبِ، وقَدْ تَكُونُ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٣٨] فاللَّهُ تَعالى نَصَّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إقامَةُ الحَدِّ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَدْحِ والتَّعْظِيمِ، وإذا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ الثَّوابُ كَما قُلْنا. فَدَلَّنا ذَلِكَ عَلى أنَّ عِقابَ الكَبِيرَةِ أوْلى بِإزالَةِ ثَوابِ الطّاعَةِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ الطّاعاتِ بِدَفْعِ عِقابِ الكَبِيرَةِ الطّارِئَةِ. هَذا مُنْتَهى كَلامِهِمْ في مَسْألَةِ الوَعِيدِ قُلْنا حاصِلُ الكَلامِ يَرْجِعُ إلى أنَّ النَّصَّ الدّالَّ عَلى إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ صارَ مُعارِضًا لِلنُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوابِ، فَلِمَ كانَ تَرْجِيحُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ أوْلى مِنَ العَكْسِ ؟ وذَلِكَ لِأنَّ المُؤْمِنَ كانَ يَنْقَسِمُ إلى السّارِقِ وغَيْرِ السّارِقِ، فالسّارِقُ يَنْقَسِمُ إلى المُؤْمِنِ وإلى غَيْرِ المُؤْمِنِ فَلَمْ يَكُنْ لِأحَدِهِما مَزِيَّةٌ عَلى الآخَرِ في العُمُومِ والخُصُوصِ، فَإذا تَعارَضا تَساقَطا. ثُمَّ نَقُولُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ كَلِمَةَ ”مَن“ في إفادَةِ العُمُومِ قَطْعِيَّةٌ بَلْ ظَنِّيَّةٌ، ومَسْألَتُنا قَطْعِيَّةٌ؛ فَلا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلى ما ذَكَرْتُهُ، وتَمامُ الكَلامِ فِيهِ مَذْكُورٌ في كِتابِ المَحْصُولِ في الأُصُولِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَتِ المُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ فَقالُوا: الجِسْمُ إنَّما يَأْتِي رَبَّهُ لَوْ كانَ الرَّبُّ في المَكانِ. وجَوابُهُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ إتْيانَهم مَوْضِعَ الوَعْدِ إتْيانًا إلى اللَّهِ مَجازًا كَقَوْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: ٩٩] .
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الجِسْمُ الحَيُّ لا بُدَّ وأنْ يَبْقى إمّا حَيًّا أوْ يَصِيرُ مَيِّتًا فَخُلُوُّهُ عَنِ الوَصْفَيْنِ مُحالٌ، فَمَعْناهُ في الآيَةِ أنَّهُ يَكُونُ في جَهَنَّمَ بِأسْوَأِ حالٍ لا يَمُوتُ مَوْتَةً مُرِيحَةً ولا يَحْيا حَياةً مُمْتِعَةً. ثُمَّ ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلا﴾ . واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ آتِيًا بِكُلِّ الصّالِحاتِ. وذَلِكَ بِالِاتِّفاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ولا مُمْكِنٍ فَيَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى أداءِ الواجِباتِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ مَن أتى بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُ الدَّرَجاتُ العُلى، ثُمَّ فَسَّرَها فَقالَ: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ وفي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى حُصُولِ العَفْوِ لِأصْحابِ الكَبائِرِ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ الدَّرَجاتِ العُلى مِنَ الجَنَّةِ لِمَن أتى رَبَّهُ بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَسائِرُ الدَّرَجاتِ الَّتِي هي غَيْرُ عالِيَةٍ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِمْ. ما هم إلّا العُصاةُ مِن أهْلِ الإيمانِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿وذَلِكَ جَزاءُ مَن تَزَكّى﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأقُولُ: لَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ الدَّرَجاتِ العالِيَةَ هي جَزاءُ مَن تَزَكّى أيْ تَطَهَّرَ عَنِ الذُّنُوبِ وجَبَ بِحُكْمِ ذَلِكَ الخِطابِ أنَّ الدَّرَجاتِ الَّتِي لا تَكُونُ عالِيَةً أنْ لا تَكُونَ جَزاءَ مَن تَزَكّى فَهي لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَكُونُ قَدْ أتى بِالمَعاصِي وعَفا اللَّهُ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ عَنْهم، واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ أنَّ فِرْعَوْنَ فَعَلَ بِأُولَئِكَ القَوْمِ المُؤْمِنِينَ ما أوْعَدَهم بِهِ، ولَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ في الأخْبارِ.
{"ayahs_start":72,"ayahs":["قَالُوا۟ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلَّذِی فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ","إِنَّاۤ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِیَغۡفِرَ لَنَا خَطَـٰیَـٰنَا وَمَاۤ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَیۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤ","إِنَّهُۥ مَن یَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمࣰا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا یَمُوتُ فِیهَا وَلَا یَحۡیَىٰ","وَمَن یَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنࣰا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلۡعُلَىٰ","جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ مَن تَزَكَّىٰ"],"ayah":"وَمَن یَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنࣰا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلۡعُلَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق