الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قالُوا إنْ هَذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِما ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلى﴾ ﴿فَأجْمِعُوا كَيْدَكم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى﴾ . وفي الآيَةِ مَسائِلُ: (p-٦٥)المَسْألَةُ الأُولى: القِراءَةُ المَشْهُورَةُ: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ ومِنهم مَن تَرَكَ هَذِهِ القِراءَةَ وذَكَرُوا وُجُوهًا أُخَرَ: أحَدُها: قَرَأ أبُو عَمْرٍو وعِيسى بْنُ عُمَرَ: ”إنَّ هَذَيْنِ لَساحِرانِ“ قالُوا: هي قِراءَةُ عُثْمانَ وعائِشَةَ وابْنِ الزُّبَيْرِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم واحْتَجَّ أبُو عَمْرٍو وعِيسى عَلى ذَلِكَ بِما رَوى هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّها سُئِلَتْ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ وعَنْ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئُونَ والنَّصارى﴾ [المائدة: ٦٩] في المائِدَةِ، وعَنْ قَوْلِهِ: ﴿لَكِنِ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ مِنهُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ والمُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [النساء: ١٦٢] فَقالَتْ: يا ابْنَ أخِي هَذا خَطَأٌ مِنَ الكاتِبِ، ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ أنَّهُ نَظَرَ في المُصْحَفِ فَقالَ: أرى فِيهِ لَحْنًا وسَتُقِيمُهُ العَرَبُ بِألْسِنَتِها، وعَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قالَ: إنِّي لَأسْتَحْيِي أنْ أقْرَأ: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ . وثانِيها: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ”إنْ هَذانِّ“ بِتَخْفِيفِ ”إنَّ“ وتَشْدِيدِ نُونِ ”هَذانِ“ . وثالِثُها: قَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”إنْ هَذانِ“ بِتَخْفِيفِ النُّونَيْنِ. ورابِعُها: قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: (وأسَرُّوا النَّجْوى، أنْ هَذانِ ساحِرانِ) بِفَتْحِ الألِفِ وجَزْمِ نُونِهِ [ و] ساحِرانِ بِغَيْرِ لامٍ. وخامِسُها: عَنِ الأخْفَشِ: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ خَفِيفَةٌ في مَعْنى ثَقِيلَةٍ وهي لُغَةُ قَوْمٍ يَرْفَعُونَ بِها ويُدْخِلُونَ اللّامَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَها وبَيْنَ الَّتِي تَكُونُ في مَعْنى ما. وسادِسُها: رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ”ما هَذانِ إلّا ساحِرانِ“، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا: [ إنْ هَذانِ لَساحِرانِ ] وعَنِ الخَلِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ، وعَنْ أُبَيِّ أيْضًا: [ إنْ ذانِ لَساحِرانِ ] فَهَذِهِ هي القِراءاتُ الشّاذَّةُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ، واعْلَمْ أنَّ المُحَقِّقِينَ قالُوا: هَذِهِ القِراءاتُ لا يَجُوزُ تَصْحِيحُها لِأنَّها مَنقُولَةٌ بِطَرِيقِ الآحادِ، والقُرْآنُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَنقُولًا بِالتَّواتُرِ إذْ لَوْ جَوَّزْنا إثْباتَ زِيادَةٍ في القُرْآنِ بِطَرِيقِ الآحادِ لَما أمْكَنَنا القَطْعُ بِأنَّ هَذا الَّذِي هو عِنْدَنا كُلُّ القُرْآنِ لِأنَّهُ لَمّا جازَ في هَذِهِ القِراءاتِ أنَّها مَعَ كَوْنِها مِنَ القُرْآنِ ما نُقِلَتْ بِالتَّواتُرِ جازَ في غَيْرِها ذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّ تَجْوِيزَ كَوْنِ هَذِهِ القِراءاتِ مِنَ القُرْآنِ يَطْرُقُ جَوازَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والتَّغْيِيرِ إلى القُرْآنِ وذَلِكَ يُخْرِجُ القُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً ولَمّا كانَ ذَلِكَ باطِلًا فَكَذَلِكَ ما أدّى إلَيْهِ، وأمّا الطَّعْنُ في القِراءَةِ المَشْهُورَةِ فَهو أسْوَأُ مِمّا تَقَدَّمَ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَمّا كانَ نَقْلُ هَذِهِ القِراءَةِ في الشُّهْرَةِ كَنَقْلِ جَمِيعِ القُرْآنِ فَلَوْ حَكَمْنا بِبُطْلانِها جازَ مِثْلُهُ في جَمِيعِ القُرْآنِ وذَلِكَ يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّواتُرِ وإلى القَدْحِ في كُلِّ القُرْآنِ وأنَّهُ باطِلٌ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ صَيْرُورَتُهُ مُعارِضًا بِخَبَرِ الواحِدِ المَنقُولِ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ. وثانِيها: أنَّ المُسْلِمِينَ أجْمَعُوا عَلى أنَّ ما بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلامُ اللَّهِ تَعالى وكَلامُ اللَّهِ تَعالى لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَحْنًا وغَلَطًا فَثَبَتَ فَسادُ ما نُقِلَ عَنْ عُثْمانَ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ فِيهِ لَحْنًا وغَلَطًا. وثالِثُها: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّ الصَّحابَةَ هُمُ الأئِمَّةُ والقُدْوَةُ فَلَوْ وجَدُوا في المُصْحَفِ لَحْنًا لَما فَوَّضُوا إصْلاحَهُ إلى غَيْرِهِمْ مِن بَعْدِهِمْ مَعَ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الِابْتِداعِ وتَرْغِيبِهِمْ في الِاتِّباعِ، حَتّى قالَ بَعْضُهُمُ: اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ. فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَصْحِيحِ القِراءَةِ المَشْهُورَةِ. واخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وذَكَرُوا وُجُوهًا: الوَجْهُ الأوَّلُ: وهو الأقْوى أنَّ هَذِهِ لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ وقالَ بَعْضُهم هي لُغَةُ بَلْحارِثِ بْنِ كَعْبٍ، والزَّجّاجُ نَسَبَها إلى كِنانَةَ، وقُطْرُبٌ نَسَبَها إلى بَلْحارِثِ بْنِ كَعْبٍ ومُرادٍ وخَثْعَمَ وبَعْضِ بَنِي عُذْرَةَ، ونَسَبَها ابْنُ جِنِّي إلى بَعْضِ بَنِي رَبِيعَةَ أيْضًا وأنْشَدَ الفَرّاءُ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ: ؎فَأطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولَوْ يَرى مَساغًا لِناباهُ الشُّجاعُ لَصَمَّما وأنْشَدَ غَيْرُهُ: ؎تَزَوُّدَ مِنّا بَيْنَ أُذُناهُ ضَرْبَةً ∗∗∗ دَعَتْهُ إلى هابِي التُّرابِ عَقِيمِ قالَ الفَرّاءُ: وحَكى بَعْضُ بَنِي أسَدٍ أنَّهُ قالَ هَذا خَطُّ يَدا أخِي أعْرِفُهُ. وقالَ قُطْرُبٌ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ: رَأيْتُ رَجُلانِ (p-٦٦)واشْتَرَيْتُ ثَوْبانِ، قالَ رَجُلٌ مِن بَنِي ضَبَّةَ جاهِلِيٌّ: ؎أعْرِفُ مِنها الجِيدَ والعَيْنانا ∗∗∗ ومَنخِرَيْنِ أشْبَها ظَبْيانا وقَوْلُهُ: ومَنخِرَيْنِ عَلى اللُّغَةِ الفاشِيَةِ، وما وراءَ ذَلِكَ عَلى لُغَةِ هَؤُلاءِ. وقالَ آخَرُ: ؎طارُوا عَلاهُنَّ فَطِرْ عَلاها ∗∗∗ واشْدُدْ بِمَثْنى حَقَبٍ حَقْواها وقالَ آخَرُ: ؎كَأنَّ صَرِيفَ ناباهُ إذا ما ∗∗∗ أمَرَّهُما صَرِيرَ الأخْطَبانِ قالَ بَعْضُهُمُ: الأخْطَبانِ ذَكَرُ الصِّرْدانِ، فَصَيَّرَهُما واحِدًا فَبَقِيَ الِاسْتِدْلالُ بِقَوْلِهِ: صَرِيفُ ناباهُ، قالَ: وأنْشَدَنِي يُونُسُ لِبَعْضِ بَنِي الحارِثِ: ؎كَأنَّ يَمِينا سَحْبَلٍ ومَصِيفَهُ ∗∗∗ مُراقُ دَمٍ لَنْ يَبْرَحَ الدَّهْرُ ثاوِيا وأنْشَدُوا أيْضًا: ؎إنَّ أباها وأبا أباها ∗∗∗ قَدْ بَلَغا في المَجْدِ غايَتاها وقالَ ابْنُ جِنِّي رَوَيْنا عَنْ قُطْرُبٍ: ؎هُناكَ أنْ تَبْكِي بِشَعْشَعانِ ∗∗∗ رَحْبِ الفُؤادِ طائِلِ اليَدانِ ثُمَّ قالَ الفَرّاءُ وذَلِكَ وإنْ كانَ قَلِيلًا أقْيَسُ لِأنَّ ما قَبْلَ حَرْفِ التَّثْنِيَةِ مَفْتُوحٌ، فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ما بَعْدَهُ ألِفًا، ولَوْ كانَ ما بَعْدَهُ ياءً يَنْبَغِي أنْ تَنْقَلِبَ ألِفًا لِانْفِتاحِ ما قَبْلَها، وقُطْرُبٌ ذَكَرَ أنَّهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِرارًا إلى الألِفِ الَّتِي هي أخَفُّ حُرُوفِ المَدِّ. هَذا أقْوى الوُجُوهِ في هَذِهِ الآيَةِ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ أيْضًا: الألِفُ في هَذا مِن جَوْهَرِ الكَلِمَةِ، والحَرْفُ الَّذِي يَكُونُ مِن جَوْهَرِ الكَلِمَةِ لا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِسَبَبِ التَّثْنِيَةِ والجَمْعِ؛ لِأنَّ ما بِالذّاتِ لا يَزُولُ بِالعَرَضِ فَهَذا الدَّلِيلُ يَقْتَضِي أنْ لا يَجُوزَ أنْ يُقالَ: ”إنَّ هَذَيْنِ“ فَلَمّا جَوَّزْناهُ فَلا أقَلَّ مِن أنْ يُجَوَّزَ مَعَهُ أنْ يُقالَ: إنْ هَذانِ. الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ أنْ يُقالَ: إنْ هَهُنا بِمَعْنى نَعَمْ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا ∗∗∗ كَ وقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنْهُ أيْ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فالهاءُ في ”إنْهُ“ هاءُ السَّكْتِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٩] وقالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎شابَ المَفارِقُ إنْ إنَّ مِنَ البِلى ∗∗∗ شَيْبُ القَذالِ مَعَ العِذارِ الواصِلِ أيْ نَعَمْ إنَّ مِنَ البِلى، فَصارَ ”إنْ“ كَأنَّهُ قالَ: نَعَمْ هَذانِ لَساحِرانِ، واعْتَرَضُوا عَلَيْهِ فَقالُوا: اللّامُ لا تَدْخُلُ في الخَبَرِ عَلى الِاسْتِحْسانِ إلّا إذا كانَتْ ”إنَّ“ داخِلَةً في المُبْتَدَأِ، فَأمّا إذا لَمْ تَدْخُلْ ”إنَّ“ عَلى المُبْتَدَأِ فَمَحَلُّ اللّامِ المُبْتَدَأُ إذْ يُقالُ: لَزَيْدٌ أعْلَمُ مِن عَمْرٍو، ولا يُقالُ: زَيْدٌ لَأعْلَمُ مِن عَمْرٍو، وأجابُوا عَنْ هَذا الِاعْتِراضِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ اللّامَ لا يَحْسُنُ دُخُولُها عَلى الخَبَرِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(p-٦٧) ؎أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ∗∗∗ تَرْضى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ وقالَ آخَرُ: ؎خالِي لَأنْتَ ومَن جَرِيرٌ خالُهُ ∗∗∗ يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرَمُ الأخْوالا وأنْشَدَ قُطْرُبٌ: ؎ألَمْ تَكُنْ حَلَفْتَ بِاللَّهِ العَلِيِّ ∗∗∗ أنَّ مَطاياكَ لَمِن خَيْرِ المَطِيِّ وإنْ رُوِيَتْ ”إنَّ“ بِالكَسْرِ لَمْ يَبْقَ الِاسْتِدْلالُ إلّا أنَّ قُطْرُبًا قالَ: سَمِعْناهُ مَفْتُوحَ الهَمْزَةِ وأيْضًا فَقَدْ أُدْخِلَتِ اللّامُ في خَبَرِ أمْسى، قالَ ابْنُ جِنِّي أنْشَدَنا أبُو عَلِيٍّ: ؎مَرُّوا عُجالى فَقالُوا كَيْفَ صاحِبُكم ∗∗∗ فَقالَ مَن سُئِلُوا أمْسى لَمَجْهُودا وقالَ قُطْرُبٌ وسَمِعْنا بَعْضَ العَرَبِ يَقُولُ: أُراكَ المُسالِمِيَّ وإنِّي رَأيْتُهُ لَشَيْخًا وزَيْدٌ واللَّهِ لَواثِقٌ بِكَ وقالَ كُثَيِّرٌ: ؎وما زِلْتُ مِن لَيْلى لَدُنْ أنْ عَرَفْتُها ∗∗∗ لَكالهائِمِ المُقْصى بِكُلِّ بِلادِ وقالَ آخَرُ: ؎ولَكِنَّنِي مِن حُبِّها لَعَمِيدُ وقالَ المُعْتَرِضُ: هَذِهِ الأشْعارُ مِنَ الشَّواذِّ وإنَّما جاءَتْ كَذا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وجَلَّ كَلامُ اللَّهِ تَعالى عَنِ الضَّرُورَةِ، وإنَّما تَقَرَّرَ هَذا الكَلامُ إذا بَيَّنّا أنَّ المُبْتَدَأ إذا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إنْ وجَبَ إدْخالُ اللّامِ عَلَيْهِ لا عَلى الخَبَرِ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ اللّامَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَوْصُوفِيَّةِ المُبْتَدَأِ بِالخَبَرِ، واللّامُ تَدُلُّ عَلى حالَةٍ مِن حالاتِ المُبْتَدَأِ وصِفَةٍ مِن صِفاتِهِ فَوَجَبَ دُخُولُها عَلى المُبْتَدَأِ لِأنَّ العِلَّةَ المُوجِبَةَ لِحُكْمٍ في مَحَلٍّ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ المَحَلِّ، لا يُقالُ: هَذا مُشْكِلٌ بِما إذا دَخَلَتْ ”إنَّ“ عَلى المُبْتَدَأِ فَإنَّ هَهُنا يَجِبُ إدْخالُ اللّامِ عَلى الخَبَرِ مَعَ أنَّ ما ذَكَرْتُمُوهُ حاصِلٌ فِيهِ لِأنّا نَقُولُ ذَلِكَ لِأجْلِ الضَّرُورَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ كَلِمَةَ ”إنَّ“ لِلتَّأْكِيدِ واللّامَ لِلتَّأْكِيدِ، فَلَوْ قُلْنا: إنَّ لَزَيْدًا قائِمٌ لَكُنّا قَدْ أدْخَلْنا حَرْفَ التَّأْكِيدِ عَلى حَرْفِ التَّأْكِيدِ وذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمّا تَعَذَّرَ إدْخالُها عَلى المُبْتَدَأِ لا جَرَمَ أدْخَلْناها عَلى الخَبَرِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وأمّا إذا لَمْ يَدْخُلْ حَرْفُ إنَّ عَلى المُبْتَدَأِ كانَتْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ زائِلَةً فَوَجَبَ إدْخالُ اللّامِ عَلى المُبْتَدَأِ لا يُقالُ: إذا جازَ إدْخالُ حَرْفِ النَّفْيِ عَلى حَرْفِ النَّفْيِ في قَوْلِهِ: ؎ما إنْ رَأيْتُ ولا سَمِعْتُ بِهِ ∗∗∗ كاليَوْمِ طالَبَنِي أنِيقٌ أجْرَبُ والغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَلِمَ لا يَجُوزُ إدْخالُ حَرْفِ التَّأْكِيدِ عَلى حَرْفِ التَّأْكِيدِ، والغَرَضُ بِهِ تَأْكِيدُ الإثْباتِ لِأنّا نَقُولُ: الفَرْقُ بَيْنَ البابَيْنِ أنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ قائِمٌ يَدُلُّ عَلى الحُكْمِ بِمَوْصُوفِيَّةِ زَيْدٍ بِالقِيامِ، فَإذا قُلْتَ: إنَّ زَيْدًا قائِمٌ، فَكَلِمَةُ ”إنَّ“ تُفِيدُ تَأْكِيدَ ذَلِكَ الحُكْمِ، فَلَوْ ذَكَرْتَ مُؤَكِّدًا آخَرَ مَعَ كَلِمَةِ ”إنَّ“ صارَ عَبَثًا، أمّا لَوْ قُلْتَ: رَأيْتُ فُلانًا، فَهَذا لِلثُّبُوتِ، فَإذا أدْخَلْتَ عَلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ أفادَ حَرْفُ النَّفْيِ مَعْنى النَّفْيِ ولا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لِأنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِإفادَةِ الأصْلِ، فَكَيْفَ يُفِيدُ الزِّيادَةَ، فَإذا ضَمَمْتَ إلَيْهِ حَرْفَ نَفْيٍ آخَرَ صارَ الحَرْفُ الثّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأوَّلِ فَلا يَكُونُ عَبَثًا، فَهَذا هو الفَرْقُ بَيْنَ البابَيْنِ، فَهَذا مُنْتَهى تَقْرِيرِ هَذا الِاعْتِراضِ وهو عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأنَّ الكُلَّ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا اجْتَمَعَ النَّقْلُ والقِياسُ فالنَّقْلُ أوْلى، ولِأنَّ هَذِهِ العِلَلَ في نِهايَةِ الضَّعْفِ فَكَيْفَ يُدْفَعُ بِها النَّقْلُ الظّاهِرُ. الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ عَنْ قَوْلِهِمُ: اللّامُ لا يَحْسُنُ دُخُولُها عَلى الخَبَرِ إلّا إذا دَخَلَتْ كَلِمَةُ ”إنَّ“ عَلى المُبْتَدَأِ كَما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ فَقالَ: إنْ وقَعَتْ مَوْقِعَ نَعَمْ واللّامُ في مَوْقِعِها، والتَّقْدِيرُ (p-٦٨)نَعَمْ هَذانِ لَهُما ساحِرانِ، فَكانَتِ اللّامُ داخِلَةً عَلى المُبْتَدَأِ لا عَلى الخَبَرِ. قالَ: وعَرَضْتُ هَذا القَوْلَ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ وعَلى إسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ فارْتَضَياهُ، وذَكَرا أنَّهُ أجْوَدُ ما سَمِعْناهُ في هَذا. قالَ ابْنُ جِنِّي: هَذا القَوْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الأصْلَ أنَّ المُبْتَدَأ إنَّما يَجُوزُ حَذْفُهُ لَوْ كانَ أمْرًا مَعْلُومًا جَلِيًّا ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ في حَذْفِهِ مَعَ الجَهْلِ بِهِ ضَرْبٌ مِن تَكْلِيفِ عِلْمِ الغَيْبِ لِلْمُخاطَبِ، وإذا كانَ مَعْرُوفًا فَقَدِ اسْتَغْنى بِمَعْرِفَتِهِ عَنْ تَأْكِيدِهِ بِاللّامِ لِأنَّ التَّأْكِيدَ إنَّما يَحْتاجُ إلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ العِلْمُ بِهِ حاصِلًا. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الحَذْفَ مِن بابِ الِاخْتِصارِ، والتَّأْكِيدَ مِن بابِ الإطْنابِ، فالجَمْعُ بَيْنَهُما غَيْرُ جائِزٍ، ولِأنَّ ذِكْرَ المُؤَكَّدِ وحَذْفَ التَّأْكِيدِ أحْسَنُ في العُقُولِ مِنَ العَكْسِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: امْتِناعُ أصْحابِنا البَصْرِيِّينَ مِن تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ العائِدِ عَلى المُبْتَدَأِ في نَحْوِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ فَلا يُجِيزُونَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ نَفْسَهُ، عَلى أنْ يُجْعَلَ النَّفْسُ تَوْكِيدًا لِلْهاءِ المُؤَكِّدَةِ المُقَدَّرَةِ في ”ضَرَبْتُ“ أيْ ضَرَبْتُهُ؛ لِأنَّ الحَذْفَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ التَّحْقِيقِ والعِلْمِ بِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدِ اسْتَغْنى عَنْ تَأْكِيدِهِ فَكَذا هَهُنا. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ جَمِيعَ النَّحْوِيِّينَ حَمَلُوا قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ عَلى أنَّ الشّاعِرَ أدْخَلَ اللّامَ عَلى الخَبَرِ ضَرُورَةً ولَوْ كانَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّجّاجُ جائِزًا لَما عَدَلَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ، ولَما حَمَلُوا الكَلامَ عَلَيْهِ عَلى الِاضْطِرارِ إذا وجَدُوا لَهُ وجْهًا ظاهِرًا، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنِ اعْتِراضِ ابْنِ جِنِّي بِأنَّهُ إنَّما حَسُنَ حَذْفُ المُبْتَدَأِ لِأنَّ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ: ”هَذانِ“ أمّا لَوْ حُذِفَ التَّأْكِيدُ فَلَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلا جَرَمَ كانَ حَذْفُ المُبْتَدَأِ أوْلى مِن حَذْفِ التَّأْكِيدِ، وأمّا امْتِناعُهم مِن تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ نَفْسَهُ، فَذاكَ إنَّما كانَ لِأنَّ إسْنادَ الفِعْلِ إلى المُظْهَرِ أوْلى مِن إسْنادِهِ إلى المُضْمَرِ، فَإذا قالَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُ نَفْسَهُ كانَ قَوْلُهُ: ”نَفْسَهُ“ مَفْعُولًا، فَلا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَتَأْكِيدُ المَحْذُوفِ إنَّما امْتَنَعَ هَهُنا لِهَذِهِ العِلَّةِ، لا لِأنَّ تَأْكِيدَ المَحْذُوفِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ، وأمّا قَوْلُهُ: النَّحْوِيُّونَ حَمَلُوا قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ عَلى أنَّ الشّاعِرَ أدْخَلَ اللّامَ عَلى الخَبَرِ ضَرُورَةً، فَلَوْ جازَ ما قالَهُ الزَّجّاجُ لَما عَدَلَ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ، فَهَذا اعْتِراضٌ في نِهايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ ذُهُولَ المُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذا الوَجْهِ لا يَقْتَضِي كَوْنَهُ باطِلًا، فَما أكْثَرَ ما ذَهَلَ المُتَقَدِّمُ عَنْهُ وأدْرَكَهُ المُتَأخِّرُ فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في شَرْحِ هَذا. الوَجْهُ الثّالِثُ: في الجَوابِ أنَّ كَلِمَةَ ”إنَّ“ ضَعِيفَةٌ في العَمَلِ لِأنَّها تَعْمَلُ بِسَبَبِ مُشابَهَةِ الفِعْلِ فَوَجَبَ كَوْنُها ضَعِيفَةً في العَمَلِ، وإذا ضَعُفَتْ جازَ بَقاءُ المُبْتَدَأِ عَلى إعْرابِهِ الأصْلِيِّ وهو الرَّفْعُ. المُقَدِّمَةُ الأُولى: أنَّها تُشْبِهُ الفِعْلَ، وهَذِهِ المُشابَهَةُ حاصِلَةٌ في اللَّفْظِ والمَعْنى. أمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّها تَرَكَّبَتْ مِن ثَلاثَةِ أحْرُفٍ وانْفَتَحَ آخِرُها ولَزِمَتِ الأسْماءَ كالأفْعالِ، وأمّا المَعْنى فَلِأنَّها تُفِيدُ حُصُولَ مَعْنًى في الِاسْمِ وهو تَأْكِيدُ مَوْصُوفِيَّتِهِ بِالخَبَرِ كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: قامَ زَيْدٌ، فَقَوْلُكَ قامَ أفادَ حُصُولَ مَعْنًى في الِاسْمِ. المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: أنَّها لَمّا أشْبَهَتِ الأفْعالَ وجَبَ أنْ تُشْبِهَها في العَمَلِ فَذَلِكَ ظاهِرٌ بِناءً عَلى الدَّوَرانِ. المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ: أنَّها لَمْ تَنْصِبِ الِاسْمَ وتَرْفَعِ الخَبَرَ، فَتَقْرِيرُهُ أنْ يُقالَ: إنَّها لَمّا صارَتْ عامِلَةً فَإمّا أنْ تَرْفَعَ المُبْتَدَأ والخَبَرَ مَعًا، أوْ تَنْصِبَهُما مَعًا، أوْ تَرْفَعَ المُبْتَدَأ وتَنْصِبَ الخَبَرَ، أوْ بِالعَكْسِ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ المُبْتَدَأ والخَبَرَ كانا قَبْلَ دُخُولِ إنَّ عَلَيْهِما مَرْفُوعَيْنِ فَلَوْ بَقِيا كَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِها عَلَيْهِما لَما ظَهَرَ لَهُ أثَرٌ البَتَّةَ، ولِأنَّها أُعْطِيَتْ عَمَلَ الفِعْلِ، والفِعْلُ لا يَرْفَعُ الِاسْمَيْنِ فَلا مَعْنى لِلِاشْتِراكِ. والقِسْمُ الثّانِي: أيْضًا باطِلٌ لِأنَّ هَذا أيْضًا مُخالِفٌ لِعَمَلِ الفِعْلِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ لا يَنْصِبُ شَيْئًا مَعَ خُلُوِّهِ عَمّا يَرْفَعُهُ. والقِسْمُ الثّالِثُ: أيْضًا باطِلٌ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ. فَإنَّ الفِعْلَ يَكُونُ عَمَلُهُ في الفاعِلِ أوَّلًا بِالرَّفْعِ وفي المَفْعُولِ بِالنَّصْبِ فَلَوْ جُعِلَ النَّصْبُ هَهُنا كَذَلِكَ لَحَصَلَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ (p-٦٩)الأصْلِ والفَرْعِ، ولَمّا بَطَلَتِ الأقْسامُ الثَّلاثَةُ تَعَيَّنَ القِسْمُ الرّابِعُ: وهو أنَّها تَنْصِبُ الِاسْمَ وتَرْفَعُ الخَبَرَ، وهَذا مِمّا يُنَبِّهُ عَلى أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ دَخِيلَةٌ في العَمَلِ لا أصِيلَةٌ لِأنَّ تَقْدِيمَ المَنصُوبِ عَلى المَرْفُوعِ في بابِ العَمَلِ عُدُولٌ عَنِ الأصْلِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَمَلَ بِهَذِهِ الحُرُوفِ لَيْسَ بِثابِتٍ بِطَرِيقِ الأصالَةِ بَلْ بِطَرِيقٍ عارِضٍ. المُقَدِّمَةُ الرّابِعَةُ: لَمّا ثَبَتَ أنَّ تَأْثِيرَها في نَصْبِ الِاسْمِ بِسَبَبِ هَذِهِ المُشابَهَةِ وجَبَ جَوازُ الرَّفْعِ أيْضًا، وذَلِكَ لِأنَّ كَوْنَ الِاسْمِ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ، ودُخُولُ ”إنَّ“ عَلى المُبْتَدَأِ لا يُزِيلُ عَنْهُ وصْفَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً لِأنَّهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ ما كانَ لا زَوالَ ما كانَ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وصْفُ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ، وحَرْفُ ”إنَّ“ يَقْتَضِي النَّصْبَ، ولَكِنَّ المُقْتَضى الأوَّلَ أوْلى بِالِاقْتِضاءِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ وصْفَ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً صِفَةٌ أصْلِيَّةٌ لِلْمُبْتَدَأِ، ودُخُولَ إنَّ عَلَيْهِ صِفَةٌ عَرَضِيَّةٌ، والأصْلُ راجِحٌ عَلى العارِضِ. والثّانِي: أنَّ اقْتِضاءَ وصْفِ المُبْتَدَأِ لِلرَّفْعِ أصْلِيٌّ واقْتِضاءَ حَرْفِ ”إنَّ“ لِلنَّصْبِ صِفَةٌ عارِضَةٌ بِسَبَبِ مُشابَهَتِها بِالفِعْلِ، فَيَكُونُ الأوَّلُ أوْلى فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ ما قَرَّرْنا أنَّ الرَّفْعَ أوْلى مِنَ النَّصْبِ فَإنْ لَمْ تَحْصُلِ الأوْلَوِيَّةُ فَلا أقَلَّ مِن أصْلِ الجَوازِ؛ ولِهَذا السَّبَبِ إذا جِئْتَ بِخَبَرِ ”إنَّ“ ثُمَّ عَطَفْتَ عَلى الِاسْمِ اسْمًا آخَرَ جازَ فِيهِ الرَّفْعُ والنَّصْبُ مَعًا. الوَجْهُ الرّابِعُ: في الجَوابِ قالَ الفَرّاءُ: هَذا أصْلُهُ ”ذا“ زِيدَتِ الهاءُ لِأنَّ ”ذا“ كَلِمَةٌ مَنقُوصَةٌ فَكُمِّلَتْ بِالهاءِ عِنْدَ التَّنْبِيهِ، وزِيدَتْ ألِفًا لِلتَّثْنِيَةِ فَصارَتْ هَذاانِ فاجْتَمَعَ ساكِنانِ مِن جِنْسٍ واحِدٍ فاحْتِيجَ إلى حَذْفِ واحِدٍ، ولا يُمْكِنُ حَذْفُ ألِفِ الأصْلِ لِأنَّ أصْلَ الكَلِمَةِ مَنقُوصَةٌ فَلا تُجْعَلُ أنْقَصَ فَحُذِفَ ألِفُ التَّثْنِيَةِ؛ لِأنَّ النُّونَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلا جَرَمَ لَمْ تَعْمَلْ ”إنَّ“ لِأنَّ عَمَلَها في ألِفِ التَّثْنِيَةِ، وقالَ آخَرُونَ: الألِفُ الباقِي إمّا ألِفُ الأصْلِ أوْ ألِفُ التَّثْنِيَةِ. فَإنْ كانَ الباقِي ألِفَ الأصْلِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُها لِأنَّ العامِلَ الخارِجِيَّ لا يَتَصَرَّفُ في ذاتِ الكَلِمَةِ، وإنْ كانَ الباقِي ألِفَ التَّثْنِيَةِ فَلا شَكَّ أنَّهم أنابُوها مَنابَ ألِفِ الأصْلِ، وعِوَضُ الأصْلِ أصْلٌ لا مَحالَةَ، فَهَذا الألِفُ أصْلٌ فَلا يَجُوزُ حَذْفُهُ ويَرْجِعُ حاصِلُ هَذا إلى الجَوابِ الأوَّلِ. الوَجْهُ الخامِسُ: في الجَوابِ حَكى الزَّجّاجُ عَنْ قُدَماءِ النَّحْوِيِّينَ أنَّ الهاءَ هَهُنا مُضْمَرَةٌ، والتَّقْدِيرُ ”إنَّهُ هَذانِ لَساحِرانِ“، وهَذِهِ الهاءُ كِنايَةٌ عَنِ الأمْرِ والشَّأْنِ، فَهَذا ما قِيلَ في هَذا المَوْضِعِ، فَأمّا مَن خَفَّفَ فَقَرَأ ”إنْ هَذانِ لَساحِرانِ“ فَهو حَسَنٌ، فَإنَّ ما بَعْدَ الخَفِيفَةِ رَفْعٌ واللّامُ بَعْدَها في الخَبَرِ لازِمَةٌ واجِبَةٌ، وإنْ كانَتْ في ”إنَّ“ الثَّقِيلَةِ جائِزَةً لِيَظْهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ ”إنَّ“ المُؤَكِّدَةِ و”إنْ“ النّافِيَةِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنْ مالِكٌ لَلْمُرْتَجى إنْ تَضَعْضَعَتْ ∗∗∗ رَحا الحَرْبِ أوْ دارَتْ عَلَيَّ خُطُوبُ وقالَ آخَرُ: ؎إنَّ القَوْمَ والحَيَّ الَّذِي أنا مِنهم ∗∗∗ لَأهْلُ مَقاماتٍ وشاءٍ وجامِلِ الجامِلُ جَمْعُ جَمَلٍ، ثُمَّ مِنَ العَرَبِ مَن يُعْمِلُ ”إنْ“ ناقِصَةً كَما يُعْمِلُها تامَّةً اعْتِبارًا بَكانَ فَإنَّها تَعْمَلُ، وإنْ نَقَصَتْ في قَوْلِكَ: لَمْ يَكُنْ لِبَقاءِ مَعْنى التَّأْكِيدِ، وإنْ زالَ الشَّبَهُ اللَّفْظِيُّ بِالفِعْلِ لِأنَّ العِبْرَةَ لِلْمَعْنى، وهَذِهِ اللُّغَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ العِبْرَةَ في بابِ الإعْمالِ الشَّبَهُ المَعْنَوِيُّ بِالفِعْلِ وهو إثْباتُ التَّوْكِيدِ دُونَ الشَّبَهِ اللَّفْظِيِّ، كَما أنَّ التَّعْوِيلَ في بابِ ”كانَ“ عَلى المَعْنى دُونَ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ فِعْلًا مَحْضًا، وأمّا اللُّغَةُ الظّاهِرَةُ وهي تَرْكُ إعْمالِ ”إنِ“ الخَفِيفَةِ دالَّةٌ عَلى أنَّ الشَّبَهَ اللَّفْظِيَّ في ”إنَّ“ الثَّقِيلَةِ أحَدُ جُزْأيِ العِلَّةِ في حَقِّ عَمَلِها وعِنْدَ الخِفَّةِ زالَ الشَّبَهُ فَلَمْ تَعْمَلْ بِخِلافِ السُّكُونِ فَإنَّهُ عامِلٌ بِمَعْناهُ لِكَوْنِهِ فِعْلًا مَحْضًا ولا عِبْرَةَ لِلَفْظِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب