الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿فَأخْرَجْنا﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ هَذا مِن تَمامِ كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَأنَّهُ يَقُولُ: رَبِّيَ الَّذِي جَعَلَ لَكم كَذا وكَذا فَأخْرَجْنا نَحْنُ مَعاشِرَ عِبادِهِ بِذَلِكَ الماءِ بِالحِراثَةِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى. وثانِيها: أنَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ تَمَّ كَلامُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ مُتَّصِلًا بِالكَلامِ الأوَّلِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ﴾ ثُمَّ يَدُلُّ عَلى هَذا الِاحْتِمالِ قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا وارْعَوْا أنْعامَكُمْ﴾ . وثالِثُها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ انْتَقَلَ فِيهِ مِن لَفْظِ الغَيْبَةِ إلى لَفْظِ المُتَكَلِّمِ المُطاعِ لِلْإيذانِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مُطاعٌ تَنْقادُ الأشْياءُ المُخْتَلِفَةُ لِأمْرِهِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا ألْوانُها﴾ [فاطر: ٢٧]، ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ﴾ [النمل: ٦٠] واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأخْرَجْنا﴾ إمّا أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أوْ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿كُلُوا وارْعَوْا أنْعامَكم إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى﴾ ﴿مِنها خَلَقْناكم وفِيها نُعِيدُكُمْ﴾ لا يَلِيقُ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ لا يَلِيقُ بِمُوسى لِأنَّ أكْثَرَ ما في قُدْرَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ صَرْفُ المِياهِ إلى سَقْيِ الأراضِي، وأمّا إخْراجُ النَّباتِ عَلى اخْتِلافِ ألْوانِها وطَبائِعِها فَلَيْسَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَثَبَتَ أنَّ هَذا كَلامُ اللَّهِ ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: كَلامُ اللَّهِ ابْتِداؤُهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ لِأنَّ الفاءَ يَتَعَلَّقُ بِما قَبْلَهُ فَلا يَجُوزُ جَعْلُ هَذا كَلامَ اللَّهِ تَعالى وجَعْلُ ما قَبْلَهُ كَلامَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ كَلامَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ ثُمَّ ابْتُدِئَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا﴾ ويَكُونُ التَّقْدِيرُ هو الَّذِي ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا﴾ فَيَكُونُ ”الَّذِي“ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ويَكُونُ الِانْتِقالُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ التِفاتًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما يُخْرِجُ النَّباتَ مِنَ الأرْضِ بِواسِطَةِ إنْزالِ الماءِ فَيَكُونُ لِلْماءِ فِيهِ أثَرٌ وهَذا بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لا يَقْدَحُ في شَيْءٍ مِن أُصُولِ الإسْلامِ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الَّذِي أعْطاها هَذِهِ الخَواصَّ والطَّبائِعَ، لَكِنَّ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ يُنْكِرُونَهُ ويَقُولُونَ: لا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ ألْبَتَّةَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أزْواجًا﴾ أيْ أصْنافًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها مُزْدَوَجَةٌ مَقْرُونَةٌ بَعْضُها مَعَ بَعْضٍ ﴿شَتّى﴾ صِفَةٌ لِلْأزْواجِ جَمْعُ شَتِيتٍ كَمَرِيضٍ ومَرْضى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّباتِ، والنَّباتُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ النّابِتُ كَما يُسَمّى بِالنَّبْتِ، فاسْتَوى فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ يَعْنِي أنَّها شَتّى مُخْتَلِفَةُ النَّفْعِ والطَّعْمِ والطَّبْعِ، بَعْضُها يَصْلُحُ لِلنّاسِ وبَعْضُها يَصْلُحُ لِلْبَهائِمِ أمّا قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا وارْعَوْا أنْعامَكُمْ﴾ فَهو حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في أخْرَجْنا، والمَعْنى أخْرَجْنا أصْنافَ النَّباتِ آذِنِينَ في الِانْتِفاعِ بِها مُبِيحِينَ أنْ تَأْكُلُوا بَعْضَها وتَعْلِفُوا بَعْضَها. وقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا﴾ سائِرَ وُجُوهِ المَنافِعِ فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠]، وقَوْلُهُ: ﴿كُلُوا﴾ أمْرُ إباحَةٍ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ فِيما ذَكَرْتُ مِن هَذِهِ (p-٦١)النِّعَمِ ﴿لَآياتٍ﴾ أيْ لَدَلالاتٍ لِذَوِي النُّهى أيِ العُقُولِ، والنُّهْيَةُ العَقْلُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: النُّهى يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالهُدى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعًا أمّا قَوْلُهُ: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ مَنافِعَ الأرْضِ والسَّماءِ بَيَّنَ أنَّها غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِذاتِها بَلْ هي مَطْلُوبَةٌ لِكَوْنِها وسائِلَ إلى مَنافِعِ الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى خَلَقَنا مِن نُطْفَةٍ عَلى ما بَيَّنَ ذَلِكَ في سائِرِ الآياتِ. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا خَلَقَ أصْلَنا وهو آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ التُّرابِ عَلى ما قالَ: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] لا جَرَمَ أطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْنا. الثّانِي: أنَّ تَوَلُّدَ الإنْسانِ إنَّما هو مِنَ النُّطْفَةِ ودَمِ الطَّمْثِ وهُما يَتَوَلَّدانِ مِنَ الأغْذِيَةِ، والغِذاءُ إمّا حَيَوانِيٌّ أوْ نَباتِيٌّ، والحَيَوانِيُّ يَنْتَهِي إلى النَّباتِ، والنَّباتُ إنَّما يَحْدُثُ مِنِ امْتِزاجِ الماءِ والتُّرابِ، فَصَحَّ أنَّهُ تَعالى خَلَقَنا مِنها وذَلِكَ لا يُنافِي كَوْنَنا مَخْلُوقِينَ مِنَ النُّطْفَةِ. والثّالِثُ: ذَكَرْنا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ﴾ [آل عمران: ٦] خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ مَلَكَ الأرْحامِ أنْ يَكْتُبَ الأجَلَ والرِّزْقَ والأرْضَ الَّتِي يُدْفَنُ فِيها وأنَّهُ يَأْخُذُ مِن تُرابِ تِلْكَ البُقْعَةِ ويَذَرُهُ عَلى النُّطْفَةِ ثُمَّ يُدْخِلُها في الرَّحِمِ. السُّؤالُ الثّانِي: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مَخْلُوقًا مِنَ الشَّيْءِ، وظاهِرُ قَوْلِ المُتَكَلِّمِينَ يَأْباهُ. والجَوابُ: إنْ كانَ المُرادُ مِن خَلْقِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ إزالَةَ صِفَةِ الشَّيْءِ الأوَّلِ عَنِ الذّاتِ وإحْداثَ صِفَةِ الشَّيْءِ الثّانِي فِيهِ فَذَلِكَ جائِزٌ؛ لِأنَّهُ لا مُنافاةَ فِيهِ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِيها نُعِيدُكُمْ﴾ فَلا شُبْهَةَ في أنَّ المُرادَ الإعادَةُ إلى القُبُورِ حَتّى تَكُونَ الأرْضُ مَكانًا وظَرْفًا لِكُلِّ مَن ماتَ إلّا مَن رَفَعَهُ اللَّهُ إلى السَّماءِ، ومَن هَذا حالُهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُعادَ إلَيْها أيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنها نُخْرِجُكم تارَةً أُخْرى﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: وهو الأقْرَبُ: ﴿ومِنها نُخْرِجُكُمْ﴾ يَوْمَ الحَشْرِ والبَعْثِ. وثانِيها: ومِنها نُخْرِجُكم تُرابًا وطِينًا ثُمَّ نُحْيِيكم بَعْدَ الإخْراجِ وهَذا مَذْكُورٌ في بَعْضِ الأخْبارِ. وثالِثُها: المُرادُ عَذابُ القَبْرِ عَنِ البَراءِ قالَ: ”«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جِنازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ فَذَكَرَ عَذابَ القَبْرِ وما يُخاطَبُ بِهِ المُؤْمِنُ والكافِرُ وأنَّهُ تُرَدُّ رُوحُهُ في جَسَدِهِ ويُرَدُّ إلى الأرْضِ وأنَّهُ تَعالى يَقُولُ عِنْدَ إعادَتِهِمْ إلى الأرْضِ: إنِّي وعَدْتُهم أنِّي مِنها خَلَقْتُهم وفِيها أُعِيدُهم ومِنها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى» “، واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَدَّدَ في هَذِهِ الآياتِ مَنافِعَ الأرْضِ وهي أنَّهُ تَعالى جَعَلَها لَهم فِراشًا ومِهادًا يَتَقَلَّبُونَ عَلَيْها وسَوّى لَهم فِيها مَسالِكَ يَتَرَدَّدُونَ فِيها كَيْفَ أرادُوا، وأنْبَتَ فِيها أصْنافَ النَّباتِ الَّتِي مِنها أقْواتُهم وعَلَفُ دَوابِّهِمْ وهي أصْلُهُمُ الَّذِي مِنهُ يَتَفَرَّعُونَ ثُمَّ هي كِفاتُهم إذا ماتُوا، ومِن ثَمَّ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«بِرُّوا بِالأرْضِ فَإنَّها بِكم بَرَّةٌ» “ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب