الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ خُذْها ولا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَها الأُولى﴾ فَفِيهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لَمّا نُودِيَ مُوسى وخُصَّ بِتِلْكَ الكَراماتِ العَظِيمَةِ وعَلِمَ أنَّهُ مَبْعُوثٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى إلى الخَلْقِ فَلِمَ خافَ ؟ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ ذَلِكَ الخَوْفَ كانَ مِن نَفْرَةِ الطَّبْعِ؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما شاهَدَ مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ. وأيْضًا فَهَذِهِ الأشْياءُ مَعْلُومَةٌ بِدَلائِلِ العُقُولِ. وعِنْدَ الفَزَعِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ الإنْسانُ عَنْهُ. قالَ الشَّيْخُ أبُو القاسِمِ الأنْصارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى وذَلِكَ الخَوْفُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى صِدْقِهِ في النُّبُوَّةِ؛ لِأنَّ السّاحِرَ يَعْلَمُ أنَّ الَّذِي أتى بِهِ تَمْوِيهٌ فَلا يَخافُهُ البَتَّةَ. وثانِيها: قالَ بَعْضُهم: خافَها؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَرَفَ ما لَقِيَ آدَمُ مِنها. وثالِثُها: أنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ: (لا تَخَفْ) لا يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الخَوْفِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ﴾ لا يَدُلُّ عَلى وُجُودِ تِلْكَ الطّاعَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا﴾ [النمل: ١٠] يَدُلُّ عَلَيْهِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ الخَوْفَ إنَّما ظَهَرَ لِيَظْهَرَ الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أظْهَرَ تَعَلُّقَ القَلْبِ بِالعَصا والنَّفْرَةَ عَنِ الثُّعْبانِ، وأمّا مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَما أظْهَرَ الرَّغْبَةَ في الجَنَّةِ ولا النَّفْرَةَ عَنِ النّارِ. السُّؤالُ الثّانِي: مَتى أخَذَها، بَعْدَ انْقِلابِها عَصًا أوْ قَبْلَ ذَلِكَ ؟ والجَوابُ: رُوِيَ أنَّهُ أدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ أسْنانِها فانْقَلَبَتْ خَشَبَةً والقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا بِقَوْلِهِ: ﴿سَنُعِيدُها سِيرَتَها الأُولى﴾ وذَلِكَ يَقَعُ في الِاسْتِقْبالِ، وأيْضًا فَهَذا أقْرَبُ لِلْكَرامَةِ؛ لِأنَّهُ كَما أنَّ انْقِلابَ العَصا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ فَكَذَلِكَ إدْخالُ يَدِهِ في فَمِها مِن غَيْرِ ضَرَرِ مُعْجِزَةٌ وانْقِلابُها (p-٢٦)خَشَبًا مُعْجِزٌ آخَرُ فَيَكُونُ فِيهِ تَوالِي المُعْجِزاتِ فَيَكُونُ أقْوى في الدَّلالَةِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: كَيْفَ أخَذَهُ، أمَعَ الخَوْفِ أوْ بِدُونِهِ ؟ والجَوابُ: رُوِيَ مَعَ الخَوْفِ ولَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ لِأنَّ بَعْدَ تَوالِي الدَّلائِلِ يَبْعُدُ ذَلِكَ. وإذا عَلِمَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ تَعالى عِنْدَ الأخْذِ سَيُعِيدُها سِيرَتَها الأُولى فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّ خَوْفُهُ، وقَدْ عَلِمَ صِدْقَ هَذا القَوْلِ وقالَ بَعْضُهم لَمّا قالَ لَهُ رَبُّهُ: ﴿ولا تَخَفْ﴾ بَلَغَ مِن ذَلِكَ ذَهابُ خَوْفِهِ وطُمَأْنِينَةُ نَفْسِهِ إلى أنْ أدْخَلَ يَدَهُ في فَمِها وأخَذَ بِلَحْيَيْها. السُّؤالُ الرّابِعُ: ما مَعْنى (سِيرَتَها الأُولى) ؟ والجَوابُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: السِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كالرُّكْبَةِ مِنَ الرُّكُوبِ يُقالُ: سارَ فُلانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتُّسِعَ فِيها فَنُقِلَتْ إلى مَعْنى المَذْهَبِ والطَّرِيقَةِ. السُّؤالُ الخامِسُ: عَلامَ انْتَصَبَ (سِيرَتَها) ؟ الجَوابُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: بِنَزْعِ الخافِضِ يَعْنِي إلى سِيرَتِها. وثانِيهِما: أنْ يَكُونَ ”سَنُعِيدُها“ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِـ”سِيرَتِها“ بِمَعْنى أنَّها كانَتْ أوَّلًا عَصًا فَصارَتْ حَيَّةً فَسَنَجْعَلُها عَصًا كَما كانَتْ فَنُصِبَ (سِيرَتَها) بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أيْ تَسِيرُ سِيرَتَها الأُولى يَعْنِي سَنُعِيدُها سائِرَةً بِسِيرَتِها الأُولى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْها ولَكَ فِيها المَآرِبُ الَّتِي عَرَفْتَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب