الباحث القرآني

(p-١١٢) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ . اعْلَمْ أنَّ عَلى أوَّلِ هَذِهِ الآيَةِ سُؤالًا وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اهْبِطا﴾، إمّا أنْ يَكُونَ خِطابًا مَعَ شَخْصَيْنِ أوْ أكْثَرَ فَإنْ كانَ خِطابًا لِشَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾ وهو خِطابُ الجَمْعِ وإنْ كانَ خِطابًا لِأكْثَرَ مِن شَخْصَيْنِ فَكَيْفَ قالَ: ﴿اهْبِطا﴾ ؟ وذَكَرُوا في جَوابِهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: الخِطابُ لِآدَمَ ومَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ ولِإبْلِيسَ ومَعَهُ ذُرِّيَّتُهُ فَلِكَوْنِهِما جِنْسَيْنِ صَحَّ قَوْلُهُ: ﴿اهْبِطا﴾ ولِأجْلِ اشْتِمالِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الجِنْسَيْنِ عَلى الكَثْرَةِ صَحَّ قَوْلُهُ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ . ثانِيها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَمّا كانَ آدَمُ وحَوّاءُ عَلَيْهِما السَّلامُ أصْلًا لِلْبَشَرِ والسَّبَبِ اللَّذَيْنِ مِنهُما تَفَرَّعُوا جُعِلا كَأنَّهُما البَشَرُ أنْفُسُهم فَخُوطِبا مُخاطَبَتَهم فَقالَ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ عَلى لَفْظِ الجَماعَةِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ فَقالَ القاضِي: يَكْفِي في تَوْفِيَةِ هَذا الظّاهِرِ حَقَّهُ أنْ يَكُونَ إبْلِيسُ والشَّياطِينُ أعْداءً لِلنّاسِ والنّاسُ أعْداءً لَهم، فَإذا انْضافَ إلى ذَلِكَ عَداوَةُ بَعْضِ الفَرِيقَيْنِ لِبَعْضٍ لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ في الكَلامِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ﴾ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ الذُّرِّيَّةُ، وقَدِ اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالهُدى، فَقالَ بَعْضُهم: الرُّسُلُ، وبَعْضُهم قالَ: الآخَرُ والأدِلَّةُ، وبَعْضُهم قالَ: القُرْآنُ، والتَّحْقِيقُ أنَّ الهُدى عِبارَةٌ عَنِ الدَّلالَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالهُدى الَّذِي ضَمِنَ اللَّهُ عَلى اتِّباعِهِ ذَلِكَ اتِّباعُ الأدِلَّةِ، واتِّباعُها لا يَتَكامَلُ إلّا بِأنْ يَسْتَدِلَّ بِها وبِأنْ يَعْمَلَ بِها، ومِن هَذا حالُهُ فَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ تَعالى لَهُ أنْ لا يَضِلَّ ولا يَشْقى، وفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: لا يَضِلُّ في الدُّنْيا ولا يَشْقى في الآخِرَةِ. وثانِيها: لا يَضِلُّ ولا يَشْقى في الآخِرَةِ لِأنَّهُ تَعالى يَهْدِيهِ إلى الجَنَّةِ ويُمَكِّنُهُ فِيها. وثالِثُها: لا يَضِلُّ ولا يَشْقى في الدُّنْيا فَإنْ قِيلَ: المُتَّبِعُ لِهُدى اللَّهِ قَدْ يَلْحَقُهُ الشَّقاءُ في الدُّنْيا، قُلْنا: المُرادُ لا يَضِلُّ في الدِّينِ ولا يَشْقى بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإنْ حَصَلَ الشَّقاءُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلا بَأْسَ، ولَمّا وعَدَ اللَّهُ تَعالى مَن يَتَّبِعُ الهُدى أتْبَعَهُ بِالوَعِيدِ فِيمَن أعْرَضَ، فَقالَ: ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ والذِّكْرُ يَقَعُ عَلى القُرْآنِ وعَلى سائِرِ كُتُبِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بِهِ الأدِلَّةُ، وقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ فالضَّنْكُ أصْلُهُ الضِّيقُ والشِّدَّةُ وهو مَصْدَرٌ ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ فَيُقالُ: مَنزِلٌ ضَنْكٌ، وعَيْشٌ ضَنْكٌ، فَكَأنَّهُ قالَ: مَعِيشَةٌ ذاتُ ضَنْكٍ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الضِّيقَ المُتَوَعَّدَ بِهِ إمّا أنْ يَكُونَ في الدُّنْيا أوْ في القَبْرِ أوْ في الآخِرَةِ أوْ في الدِّينِ أوْ في كُلِّ ذَلِكَ أوْ أكْثَرِهِ. أمّا الأوَّلُ: فَقالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ وذَلِكَ لِأنَّ المُسْلِمَ لِتَوَكُّلِهِ عَلى اللَّهِ يَعِيشُ في الدُّنْيا عَيْشًا طَيِّبًا كَما قالَ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النَّحْلِ: ٩٧] والكافِرُ بِاللَّهِ يَكُونُ حَرِيصًا عَلى الدُّنْيا طالِبًا لِلزِّيادَةِ أبَدًا فَعِيشَتُهُ ضَنْكٌ (p-١١٣)وحالَتُهُ مُظْلِمَةٌ، وأيْضًا فَمِنَ الكَفَرَةِ مَن ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ والمَسْكَنَةَ لِكُفْرِهِ قالَ تَعالى: ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٦١] وقالَ: ﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ لَأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ [المائِدَةِ: ٦٦] وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [الأعْرافِ: ٩٦] وقالَ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ ﴿ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [نُوحٍ: ١٠ - ١٢] وقالَ: ﴿وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ [الجِنِّ: ١٦] . وأمّا الثّانِي: وهو عَذابُ القَبْرِ، فَهَذا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ ورَفَعَهُ أبُو هُرَيْرَةَ إلى النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«إنَّ عَذابَ القَبْرِ لِلْكافِرِ قالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ في قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ تِنِّينًا» “ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: نَزَلَتِ الآيَةُ في الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ العُزّى المَخْزُومِيِّ، والمُرادُ ضَغْطَةُ القَبْرِ تَخْتَلِفُ فِيها أضْلاعُهُ. وأمّا الثّالِثُ: وهو الضِّيقُ في الآخِرَةِ في جَهَنَّمَ، فَإنَّ طَعامَهم فِيها الضَّرِيعُ والزَّقُّومُ، وشَرابَهُمُ الحَمِيمُ والغِسْلِينُ فَلا يَمُوتُونَ فِيها ولا يَحْيَوْنَ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ والكَلْبِيِّ. وأمّا الرّابِعُ: وهو الضِّيقُ في أحْوالِ الدِّينِ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المَعِيشَةُ الضَّنْكُ هي أنْ تُضَيَّقَ عَلَيْهِ أبْوابُ الخَيْرِ فَلا يَهْتَدِي لِشَيْءٍ مِنها، سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا رَأيْتُمْ أهْلَ البَلاءِ فاسْألُوا اللَّهَ العافِيَةَ» “، فَقالَ: أهْلُ البَلاءِ هم أهْلُ الغَفَلاتِ عَنِ اللَّهِ تَعالى فَعُقُوبَتُهم أنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ تَعالى إلى أنْفُسِهِمْ، وأيُّ مَعِيشَةٍ أضْيَقُ وأشَدُّ مِن أنْ يُرَدَّ الإنْسانُ إلى نَفْسِهِ، وعَنْ عَطاءٍ قالَ: المَعِيشَةُ الضَّنْكُ هي مَعِيشَةُ الكافِرِ لِأنَّهُ غَيْرُ مُوقِنٍ بِالثَّوابِ والعِقابِ. وأمّا الخامِسُ: وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ الضِّيقُ في كُلِّ ذَلِكَ أوْ أكْثَرِهِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«عُقُوبَةُ المَعْصِيَةِ ثَلاثَةٌ: ضِيقُ المَعِيشَةِ، والعُسْرُ في الشِّدَّةِ، وأنْ لا يَتَوَصَّلَ إلى قُوَّتِهِ إلّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى» “ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: هَذا مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسْراءِ: ٩٧] وكَما فُسِّرَتِ الزُّرْقَةُ بِالعَمى، ثُمَّ قِيلَ: إنَّهُ يُحْشَرُ بَصِيرًا فَإذا سِيقَ إلى المَحْشَرِ عَمِيَ والكَلامُ فِيهِ وعَلَيْهِ قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿زُرْقًا﴾ . وثانِيها: قالَ مُجاهِدٌ والضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: يَعْنِي أعْمى عَنِ الحُجَّةِ، وهي رِوايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ القاضِي: هَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ لِأنَّ في القِيامَةِ لا بُدَّ أنْ يُعْلِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى بُطْلانَ ما كانُوا عَلَيْهِ حَتّى يَتَمَيَّزَ لَهُمُ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ، ومَن هَذا حالُهُ لا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلّا مَجازًا، والمُرادُ بِهِ أنَّهُ كانَ مِن قَبْلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ ولا يَلِيقُ بِهَذا قَوْلُهُ: ﴿وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ولَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ في حالِ الدُّنْيا. أقُولُ ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا الِاعْتِراضَ أنَّهُ تَعالى عَلَّلَ ذَلِكَ العَمى بِما أنَّ المُكَلَّفَ نَسِيَ الدَّلائِلَ في الدُّنْيا فَلَوْ كانَ العَمى الحاصِلُ في الآخِرَةِ بَيْنَ ذَلِكَ النِّسْيانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، كَما أنَّهُ ما كانَ لَهُ في الدُّنْيا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَرَرٌ، واعْلَمْ أنَّ تَحْقِيقَ الجَوابِ عَنْ هَذا الِاعْتِراضِ مَأْخُوذٌ مِن أمْرٍ آخَرَ وهو أنَّ الأرْواحَ الجاهِلَةَ في الدُّنْيا المُفارَقِةَ عَنْ أبْدانِها عَلى جَهالَتِها تَبْقى عَلى تِلْكَ الجَهالَةِ في الآخِرَةِ وأنَّ تِلْكَ الجَهالَةَ تَصِيرُ هُناكَ سَبَبًا لِأعْظَمِ الآلامِ الرُّوحانِيَّةِ. وبَيْنَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وبَيْنَ طَرِيقَةِ القاضِي المَبْنِيَّةِ عَلى أُصُولِ الِاعْتِزالِ بَوْنٌ شَدِيدٌ. وثالِثُها: قالَ الجُبّائِيُّ: المُرادُ مِن حَشْرِهِ أعْمى أنَّهُ لا يَهْتَدِي يَوْمَ القِيامَةِ إلى طَرِيقٍ يَنالُ مِنهُ خَيْرًا بَلْ يَبْقى واقِفًا مُتَحَيِّرًا كالأعْمى الَّذِي لا يَهْتَدِي إلى شَيْءٍ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ فَفي تَقْرِيرِ هَذا الجَوابِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى إنَّما أنْزَلَ بِهِ هَذا (p-١١٤)العَمى جَزاءً عَلى تَرْكِهِ اتِّباعَ الهُدى والإعْراضِ عَنْهُ. والثّانِي: هو أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ إذا فارَقَتْ أبْدانَها جاهِلَةً ضالَّةً عَنِ الِاتِّصالِ بِالرُّوحانِيّاتِ بَقِيَتْ عَلى تِلْكَ الحالَةِ بَعْدَ المُفارَقَةِ وعَظُمَتِ الآلامُ الرُّوحانِيَّةُ، فَلِهَذا عَلَّلَ اللَّهُ تَعالى حُصُولَ العَمى في الآخِرَةِ بِالإعْراضِ عَنِ الدَّلائِلِ في الدُّنْيا، ومَن فَسَّرَ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ بِالضِّيقِ في الدُّنْيا، قالَ: إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ مَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ في الدُّنْيا فَلَهُ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ في الدُّنْيا والعَمى في الآخِرَةِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَبَعْضُهم قالَ: أشْرَكَ وكَفَرَ، وبَعْضُهم قالَ: أسْرَفَ في أنْ عَصى اللَّهَ، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى المُرادَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ كالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: أسْرَفَ وبَيَّنَ أنَّهُ يَجْزِي مَن هَذا حالُهُ بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ والعَمى وبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ عَذابَ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى؛ أمّا الأشَدُّ فَلِعِظَمِهِ، وأمّا الأبْقى فَلِأنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب