الباحث القرآني

(p-١٠٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ ياآدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ ﴿فَأكَلا مِنها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ أنَّهُ عَظَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلائِكَةِ، وبَيَّنَ أنَّهُ عَرَّفَهُ شِدَّةَ عَداوَةِ إبْلِيسَ لَهُ ولِزَوْجِهِ وأنَّهُ لِعَداوَتِهِ يَدْعُوهم إلى المَعْصِيَةِ الَّتِي إذا وقَعَتْ زالَتْ تِلْكَ النِّعَمُ بِأسْرِها، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اتَّفَقَ مِنهُ ومِن حَوّاءَ الإقْدامُ عَلى الزَّلَّةِ ما اتَّفَقَ، والعَجَبُ ما رُوِيَ عَنْ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ قالَ: ”لَوْ أنَّ أحْلامَ بَنِي آدَمَ إلى قِيامِ السّاعَةِ وُضِعَتْ في كِفَّةِ مِيزانٍ ووُضِعَ حُلْمُ آدَمَ في الأُخْرى لَرَجَحَ حُلْمُهُ بِأحْلامِهِمْ“ ولَكِنَّ المُكادَحَةَ مَعَ قَضاءِ اللَّهِ تَعالى مُمْتَنَعَةٌ، واعْلَمْ أنَّ واقِعَةَ آدَمَ عَجِيبَةٌ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى رَغَّبَهُ في دَوامِ الرّاحَةِ وانْتِظامِ المَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ ﴿إنَّ لَكَ ألّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ ورَغَّبَهُ إبْلِيسُ أيْضًا في دَوامِ الرّاحَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ﴾ وفي انْتِظامِ المَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ فَكانَ الشَّيْءُ الَّذِي رَغَّبَ اللَّهُ آدَمَ فِيهِ هو الَّذِي رَغَّبَهُ إبْلِيسُ فِيهِ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى وقَّفَ ذَلِكَ عَلى الِاحْتِراسِ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وإبْلِيسَ وقَّفَهُ عَلى الإقْدامِ عَلَيْها، ثُمَّ إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ كَمالِ عَقْلِهِ وعِلْمِهِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى مَوْلاهُ وناصِرُهُ ومُرَبِّيهِ أعْلَمَهُ بِأنَّ إبْلِيسَ عَدُوُّهُ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ وعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلَّعْنَةِ بِسَبَبِ عَداوَتِهِ، كَيْفَ قَبِلَ في الواقِعَةِ الواحِدَةِ والمَقْصُودِ الواحِدِ قَوْلَ إبْلِيسَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَمالِ عَداوَتِهِ لَهُ وأعْرَضَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ هو النّاصِرُ والمُرَبِّي. ومَن تَأمَّلَ في هَذا البابِ طالَ تَعَجُّبُهُ وعَرَفَ آخِرِ الأمْرِ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ كالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لا دافِعَ لِقَضاءِ اللَّهِ ولا مانِعَ مِنهُ، وأنَّ الدَّلِيلَ وإنْ كانَ في غايَةِ الظُّهُورِ ونِهايَةِ القُوَّةِ فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ إلّا إذا قَضى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ وقَدَّرَهُ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطانُ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ أنَّهُ كَيْفَ وسْوَسَ، وبِماذا وسْوَسَ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ عَدّى وسْوَسَ تارَةً بِاللّامِ في قَوْلِهِ: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ﴾ وأُخْرى بِإلى ؟ قُلْنا: قَوْلُهُ: ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ﴾ مَعْناهُ لِأجْلِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ﴾ مَعْناهُ أنْهى إلَيْهِ الوَسْوَسَةَ كَقَوْلِهِ حَدَّثَ لَهُ وأسَرَّ إلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ تِلْكَ الوَسْوَسَةَ كانَتْ بِتَطْمِيعِهِ في أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ﴾ أضافَ الشَّجَرَةَ إلى الخُلْدِ وهو الخُلُودُ لِأنَّ مَن أكَلَ مِنها صارَ مُخَلَّدًا بِزَعْمِهِ. الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ أيْ مَن أكَلَ مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ دامَ مُلْكُهُ، قالَ القاضِي: لَيْسَ في الظّاهِرِ أنَّ آدَمَ قَبِلَ ذَلِكَ مِنهُ، بَلْ لَوَ وُجِدَتْ هَذِهِ الوَسْوَسَةُ حالَ كَوْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيًّا لاسْتَحالَ أنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنهُ، لِأنَّهُ لا بُدَّ وأنْ تَحْصُلَ بَيْنَ حالِ التَّكْلِيفِ وحالِ المُجازاةِ فَتْرَةٌ بِالمَوْتِ، وبِالمَعْنى فَآدَمُ لَمّا كانَ نَبِيًّا امْتَنَعَ أنْ لا يَعْلَمَ ذَلِكَ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ بِأنَّهُ لا بُدَّ مِن حُصُولِ هَذِهِ الفَتْرَةِ بَيْنَ حالِ التَّكْلِيفِ وحالِ المُجازاةِ، ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: لا حاجَةَ إلى الفَتْرَةِ أصْلًا، وإنْ كانَ ولا بُدَّ فَيَكْفِي حُصُولُ الفَتْرَةِ بِغَشْيٍ أوْ نَوْمٍ خَفِيفٍ، ثُمَّ إنْ كانَ ولا بُدَّ مِن حُصُولِ الفَتْرَةِ بِالمَوْتِ فَلِمَ قُلْتَ: النَّبِيُّ لا بُدَّ وأنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ، ألَيْسَ قَوْمٌ مِنكم يَقُولُونَ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما سَألَ الرُّؤْيَةَ لِأنَّهُ ما كانَ يَعْرِفُ امْتِناعَها عَلى اللَّهِ تَعالى فَإذا جازَ ذَلِكَ الجَهْلُ فَلِمَ لا يَجُوزُ هَذا الجَهْلُ، ثُمَّ ما الدَّلِيلُ عَلى أنَّ آدَمَ كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ فَإنَّ مَذْهَبَنا أنَّ واقِعَةَ الزَّلَّةِ إنَّما حَصَلَتْ قَبْلَ رِسالَتِهِ لا بَعْدَها، ثُمَّ إنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبِلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى عَقِيبَ ذِكْرِ الوَسْوَسَةِ ﴿فَأكَلا مِنها﴾ وهَذا التَّرْتِيبُ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: ”زَنى ماعِزٌ فَرُجِمَ“، ”وسَها رَسُولُ اللَّهِ (p-١١٠)فَسَجَدَ“ فَإنَّ هَذِهِ الفاءَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّجْمَ كالمُسَبَّبِ لِلزِّنا والسُّجُودَ كالمُسَبَّبِ لِلسَّهْوِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا يَجِبُ أنْ يَكُونَ الأكْلُ كالمُعَلَّلِ بِاسْتِماعِ قَوْلِهِ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ وإنَّما يَحْصُلُ هَذا التَّعْلِيلُ لَوْ قَبِلَ آدَمُ ذَلِكَ مِنهُ، فَإنَّهُ لَوْ رَدَّ قَوْلَهُ لَما أقْدَمَ عَلى الأكْلِ بِناءً عَلى قَوْلِهِ، فَثَبَتَ أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِن إبْلِيسَ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ أنَّهُما لَمّا أكَلا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَرِيا مِنَ النُّورِ الَّذِي كانَ اللَّهُ ألْبَسَهُما حَتّى بَدَتْ فُرُوجُهُما، وإنَّما جَمَعَ فَقِيلَ سَوْآتُهُما كَما قالَ: ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التَّحْرِيمِ: ٤] فَإنْ قِيلَ: هَلْ كانَ ظُهُورُ سَوْآتِهِما كالجَزاءِ عَلى مَعْصِيَتِهِما ؟ قُلْنا: لا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ كالمُعَلَّقِ عَلى ذَلِكَ الأكْلِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أنْ لا يَكُونَ عِقابًا عَلَيْهِ، بَلْ إنَّما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب