الباحث القرآني

(p-١٠٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ أوْ يُحْدِثُ لَهم ذِكْرًا﴾ ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ﴾ أيْ ومِثْلُ ذَلِكَ لا نَزالُ وعَلى نَهْجِهِ أنْزَلْنا القُرْآنَ كُلَّهُ، ثُمَّ وصَفَ القُرْآنَ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: كَوْنُهُ عَرَبِيًّا لِتَفْهَمَهُ العَرَبُ فَيَقِفُوا عَلى إعْجازِهِ ونَظْمِهِ وخُرُوجِهِ عَنْ جِنْسِ كَلامِ البَشَرِ. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ﴾ أيْ كَرَّرْناهُ وفَصَّلْناهُ. ويَدْخُلُ تَحْتَ الوَعِيدِ بَيانُ الفَرائِضِ والمَحارِمِ لِأنَّ الوَعِيدَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ فَتَكْرِيرُهُ يَقْتَضِي بَيانَ الأحْكامِ فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ والمُرادُ اتِّقاءُ المُحَرَّماتِ وتَرْكُ الواجِباتِ ولَفْظُ لَعَلَّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١] أمّا قَوْلُهُ: ﴿أوْ يُحْدِثُ لَهم ذِكْرًا﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المَعْنى إنّا إنَّما أنْزَلْنا القُرْآنَ لِأجْلِ أنْ يَصِيرُوا مُتَّقِينَ أيْ مُحْتَرِزِينَ عَمّا لا يَنْبَغِي، أوْ يُحْدِثُ القُرْآنُ لَهم ذِكْرًا يَدْعُوهم إلى الطّاعاتِ وفِعْلِ ما يَنْبَغِي، وعَلَيْهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: القُرْآنُ كَيْفَ يَكُونُ مُحْدِثًا لِلذِّكْرِ ؟ الجَوابُ: لَمّا حَصَلَ الذِّكْرُ عِنْدَ قِراءَتِهِ أُضِيفَ الذِّكْرُ إلَيْهِ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ أُضِيفَ الذِّكْرُ إلى القُرْآنِ وما أُضِيفَتِ التَّقْوى إلَيْهِ ؟ الجَوابُ: أنَّ التَّقْوى عِبارَةٌ عَنْ أنْ لا يُفْعَلَ القَبِيحُ، وذَلِكَ اسْتِمْرارٌ عَلى العَدَمِ الأصْلِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إسْنادُهُ إلى القُرْآنِ، أمّا حُدُوثُ الذِّكْرِ فَأمْرٌ حَدَثَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ فَجازَتْ إضافَتُهُ إلى القُرْآنِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: كَلِمَةُ أوْ لِلْمُنافاةِ ولا مُنافاةَ بَيْنَ التَّقْوى وحُدُوثِ الذِّكْرِ بَلْ لا يَصِحُّ الِاتِّقاءُ إلّا مَعَ الذِّكْرِ فَما مَعْنى كَلِمَةِ أوْ ؟ الجَوابُ: هَذا كَقَوْلِهِمْ جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابْنَ سِيرِينَ أيْ لا تَكُنْ خالِيًا مِنهُما فَكَذا هَهُنا. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يُقالَ: إنّا أنْزَلْنا القُرْآنَ لِيَتَّقُوا فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلا أقَلَّ مِن أنْ يُحْدِثَ القُرْآنُ لَهم ذِكْرًا وشَرَفًا وصِيتًا حَسَنًا، فَعَلى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ إنْزالُهُ تَقْوى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا عَظَّمَ أمْرَ القُرْآنِ رَدَفَهُ بِأنْ عَظَّمَ نَفْسَهُ فَقالَ: ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ﴾ تَنْبِيهًا عَلى ما يَلْزَمُ خَلْقَهُ مِن تَعْظِيمِهِ وإنَّما وصْفُهُ بِالحَقِّ لِأنَّ مُلْكَهُ لا يَزُولُ ولا يَتَغَيَّرُ ولَيْسَ بِمُسْتَفادٍ مِن قِبَلِ الغَيْرِ ولا غَيْرُهُ أوْلى بِهِ فَلِهَذا وُصِفَ بِذَلِكَ، وتَعالى تَفاعَلَ مِنَ العُلُوِّ وقَدْ ثَبَتَ أنَّ عُلُوَّهُ وعَظَمَتَهُ ورُبُوبِيَّتَهُ بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو اتِّصافُهُ بِنُعُوتِ الجَلالِ وأنَّهُ لا تَكْفِيهِ الأوْهامُ ولا تُقَدِّرُهُ العُقُولُ وهو مُنَزَّهٌ عَنِ المَنافِعِ والمَضارِّ فَهو تَعالى إنَّما أنْزَلَ القُرْآنَ لِيَحْتَرِزُوا عَمّا لا يَنْبَغِي ولْيُقْدِمُوا عَلى ما يَنْبَغِي، وأنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّكَمُّلِ بِطاعاتِهِمْ والتَّضَرُّرِ بِمَعاصِيهِمْ، فالطّاعاتُ إنَّما تَقَعُ بِتَوْفِيقِهِ وتَيْسِيرِهِ، والمَعاصِي إنَّما تَقَعُ عَدْلًا مِنهُ، وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِهِ بِما قَبْلَهُ وجْهانِ. الوَجْهُ الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: إنَّ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ﴾ إلى هَهُنا يَتِمُّ الكَلامُ ويَنْقَطِعُ ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ﴾ خِطابٌ مُسْتَأْنَفٌ فَكَأنَّهُ قالَ: ويَسْألُونَكَ ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ. الوَجْهُ الثّانِي: رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَخافُ مِن أنْ يَفُوتَهُ مِنهُ شَيْءٌ فَيَقْرَأُ مَعَ المَلَكِ فَأمَرَهُ بِأنْ يَسْكُتَ حالَ قِراءَةِ المَلَكِ ثُمَّ يَأْخُذَ بَعْدَ فَراغِهِ في القِراءَةِ فَكَأنَّهُ تَعالى شَرَحَ كَيْفِيَّةِ نَفْعِ القُرْآنِ لِلْمُكَلَّفِينَ، وبَيَّنَ أنَّهُ سُبْحانَهُ مُتَعالٍ عَنْ كُلِّ ما لا يَنْبَغِي وأنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالإحْسانِ والرَّحْمَةِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَصُونَ رَسُولَهُ عَنِ السَّهْوِ والنِّسْيانِ في أمْرِ الوَحْيِ، وإذْ حَصَلَ الأمانُ عَنِ السَّهْوِ والنِّسْيانِ قالَ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ﴾ . (p-١٠٦)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ﴾ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ لا تَعْجَلْ بِقِراءَتِهِ في نَفْسِكَ، ويَحْتَمِلُ أنْ لا تَعْجَلَ في تَأْدِيَتِهِ إلى غَيْرِكَ، ويَحْتَمِلُ في اعْتِقادِ ظاهِرِهِ، ويَحْتَمِلُ في تَعْرِيفِ الغَيْرِ ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُهُ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ﴾ فَيَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ تَمامُهُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ بَيانُهُ، لِأنَّ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُما إلّا بِالوَحْيِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُنْهى عَنْ قِراءَتِهِ لِكَيْ يَحْفَظَهُ ويُؤَدِّيَهُ فالمُرادُ إذَنْ أنْ لا يَبْعَثَ نَفْسَهُ ولا يَبْعَثَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ حَتّى يَتَبَيَّنَ بِالوَحْيِ تَمامُهُ أوْ بَيانُهُ أوْ هُما جَمِيعًا، لِأنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ في مَعْنى الكَلامِ ما لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ الفَراغُ لِما يَجُوزُ أنْ يَحْصُلَ عَقِيبَهُ مِنِ اسْتِثْناءٍ أوْ شَرْطٍ أوْ غَيْرِهِما مِنَ المُخَصَّصاتِ فَهَذا هو التَّحْقِيقُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ. ولْنَذْكُرْ أقْوالَ المُفَسِّرِينَ: أحَدُها: أنَّ هَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القِيامَةِ: ١٦] وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَحْرِصُ عَلى أخْذِ القُرْآنِ مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَيَعْجَلُ بِقِراءَتِهِ قَبْلَ اسْتِتْمامِ جِبْرِيلَ مَخافَةَ النِّسْيانِ فَقِيلَ لَهُ: لا تَعْجَلْ إلى أنْ يَسْتَتِمَّ وحْيُهُ فَيَكُونَ أخَذُكَ إيّاهُ عَنْ تَثَبُّتٍ وسُكُونٍ واللَّهُ تَعالى يَزِيدُكَ فَهْمًا وعِلْمًا، وهَذا قَوْلُ مُقاتِلٍ والسُّدِّيِّ، ورَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. وثانِيها: لا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ فَتَقْرَأهُ عَلى أصْحابِكَ قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْكَ بَيانُ مَعانِيهِ، وهَذا قَوْلُمُجاهِدٍ وقَتادَةَ. وثالِثُها: قالَ الضَّحّاكُ: «إنَّ أهْلَ مَكَّةَ وأُسْقُفَّ نَجْرانَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ أخْبِرْنا عَنْ كَذا وكَذا وقَدْ ضَرَبْنا لَكَ أجَلًا ثَلاثَةَ أيّامٍ، فَأبْطَأ الوَحْيُ عَلَيْهِ، وفَشَتِ المَقالَةُ بِأنَّ اليَهُودَ قَدْ غَلَبُوا مُحَمَّدًا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ»﴾ ) أيْ بِنُزُولِهِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إلى إسْرافِيلَ ومِنهُ إلى جِبْرِيلَ ومِنهُ إلَيْكَ: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ . ورابِعُها: رَوى الحَسَنُ «أنَّ امْرَأةً أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَتْ: زَوْجِي لَطَمَ وجْهِي فَقالَ: بَيْنَكُما القِصاصُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ﴾ فَأمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ القِصاصِ حَتّى نُزُولِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ»﴾ [النِّساءِ: ٣٤] وهَذا بَعِيدٌ والِاعْتِمادُ عَلى التَّفْصِيلِ الأوَّلِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ فالمَعْنى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أمَرَهُ بِالفَزَعِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ في زِيادَةِ العِلْمِ الَّتِي تَظْهَرُ بِتَمامِ القُرْآنِ أوْ بَيانِ ما نَزَلَ عَلَيْهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الِاسْتِعْجالُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ إنْ كانَ فَعَلَهُ بِالوَحْيِ فَكَيْفَ نُهِيَ عَنْهُ ؟ الجَوابُ: لَعَلَّهُ فَعَلَهُ بِالِاجْتِهادِ، وكانَ الأوْلى تَرْكَهُ، فَلِهَذا نُهِيَ عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب