الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وخَشَعَتِ الأصْواتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلّا هَمْسًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ ﴿وعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ وقَدْ خابَ مَن حَمَلَ ظُلْمًا﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْمًا ولا هَضْمًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ أمْرَ يَوْمِ القِيامَةِ حَكى سُؤالَ مَن لَمْ يُؤْمِن بِالحَشْرِ فَقالَ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ﴾ وفي تَقْرِيرِ هَذا السُّؤالِ وُجُوهٌ، أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَتَخافَتُونَ﴾ وصْفٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِكُلِّ المُجْرِمِينَ بِذَلِكَ، فَكَأنَّهم قالُوا: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ والجِبالُ حائِلَةٌ ومانِعَةٌ مِن هَذا التَّخافُتِ، وثانِيها: قالَ الضَّحّاكُ: نَزَلَتْ في مُشْرِكِي مَكَّةَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَكُونُ الجِبالُ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ وكانَ سُؤالُهم عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ. وثالِثُها: لَعَلَّ قَوْمَهُ قالُوا: يا مُحَمَّدُ إنَّكَ تَدَّعِي أنَّ الدُّنْيا سَتَنْقَضِي فَلَوْ صَحَّ ما قُلْتَهُ لَوَجَبَ أنْ تَبْتَدِئَ أوَّلًا بِالنُّقْصانِ ثُمَّ تَنْتَهِيَ إلى البُطْلانِ، لَكِنَّ أحْوالَ العالَمِ باقِيَةٌ كَما كانَتْ في أوَّلِ الأمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ما قُلْتَهُ مِن خَرابِ الدُّنْيا ؟ وهَذِهِ شُبْهَةٌ تَمَسَّكَ بِها جالِينُوسُ في أنَّ السَّماواتِ لا تَفْنى، قالَ: لِأنَّها لَوْ فَنِيَتْ لابْتَدَأتْ في النُّقْصانِ أوَّلًا حَتّى يَنْتَهِيَ نُقْصانُها إلى البُطْلانِ، فَلَمّا لَمْ يَظْهَرْ فِيها النُّقْصانُ عَلِمْنا أنَّ القَوْلَ بِالبُطْلانِ باطِلٌ، ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ تَعالى رَسُولَهُ بِالجَوابِ عَنْ هَذا السُّؤالِ وضَمَّ إلى الجَوابِ أُمُورًا أُخَرَ في شَرْحِ أحْوالِ القِيامَةِ وأهْوالِها.
الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما قالَ: ﴿فَقُلْ﴾ مَعَ فاءِ التَّعْقِيبِ لِأنَّ مَقْصُودَهم مِن هَذا السُّؤالِ الطَّعْنُ في الحَشْرِ والنَّشْرِ، فَلا جَرَمَ أمَرَهُ بِالجَوابِ مَقْرُونًا بِفاءِ التَّعْقِيبِ؛ لِأنَّ تَأْخِيرَ البَيانِ في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ الأُصُولِيَّةِ غَيْرُ جائِزٍ، أمّا في المَسائِلِ الفُرُوعِيَّةِ فَجائِزٌ، لِذَلِكَ ذَكَرَ هُناكَ قُلْ مِن غَيْرِ حَرْفِ التَّعْقِيبِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿يَنْسِفُها﴾ عائِدٌ إلى الجِبالِ، والنَّسْفُ التَّذْرِيَةُ، أيْ تَصِيرُ الجِبالُ كالهَباءِ المَنثُورِ تُذْرى تَذْرِيَةً، فَإذا زالَتِ الجِبالُ زالَتِ الحَوائِلُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ قَوْلِهِ: ﴿يَتَخافَتُونَ﴾ قالَ الخَلِيلُ: ﴿يَنْسِفُها﴾ أيْ يُذْهِبُها ويُطَيِّرُها، أمّا الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَيَذَرُها﴾ فَهو عائِدٌ إلى الأرْضِ، فاسْتَغْنى عَنْ تَقْدِيمِ ذِكْرِها كَما في عادَةِ النّاسِ مِنَ الإخْبارِ عَنْها بِالإضْمارِ كَقَوْلِهِمْ: ما عَلَيْها أكْرَمُ مِن فُلانٍ، وقالَ تَعالى: (p-١٠٢)﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطِرٍ: ٤٥] وإنَّما قالَ: ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ لِيُبَيِّنَ أنَّ ذَلِكَ النَّسْفَ لا يُزِيلُ الِاسْتِواءَ لِئَلّا يُقَدَّرَ أنَّها لَمّا زالَتْ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ آخَرَ صارَتْ هُناكَ حائِلَةً، هَذا كُلُّهُ إذا كانَ المَقْصُودُ مِن سُؤالِهِمُ الِاعْتِراضَ عَلى كَيْفِيَّةِ المُخافَتَةِ، أمّا لَوْ كانَ الغَرَضُ مِنَ السُّؤالِ ما ذَكَرْنا مِن أنَّهُ لا نُقْصانَ فِيها في الحالِ فَوَجَبَ أنْ لا يَنْتَهِيَ أمْرُها إلى البُطْلانِ، كانَ تَقْرِيرُ الجَوابِ: أنَّ بُطْلانَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بُطْلانًا يَقَعُ تَوْلِيدِيًّا، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصانِ عَلى البُطْلانِ، وقَدْ يَكُونُ بُطْلانًا يَقَعُ دَفْعَةً واحِدَةً، وهَهُنا لا يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصانِ عَلى البُطْلانِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ يُفَرِّقُ تَرْكِيباتِ هَذا العالَمِ الجُسْمانِيِّ دَفْعَةً بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ فَلا حاجَةَ هَهُنا إلى تَقْدِيمِ النُّقْصانِ عَلى البُطْلانِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ الأرْضَ ذَلِكَ الوَقْتَ بِصِفاتٍ: أحَدُها: كَوْنُها قاعًا وهو المَكانُ المُطْمَئِنُّ وقِيلَ مُسْتَنْقَعُ الماءِ. وثانِيها: الصَّفْصَفُ وهو الَّذِي لا نَباتَ عَلَيْهِ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: القاعُ الأرْضُ المَلْساءُ المُسْتَوِيَةُ وكَذَلِكَ الصَّفْصَفُ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ العِوَجِ والعَوَجِ فَقالُوا: العِوَجُ بِالكَسْرِ في المَعانِي، والعَوَجُ بِالفَتْحِ في الأعْيانِ، فَإنْ قِيلَ: الأرْضُ عَيْنٌ فَكَيْفَ صَحَّ فِيها المَكْسُورُ العَيْنِ ؟ قُلْنا: اخْتِيارُ هَذا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ في وصْفِ الأرْضِ بِالِاسْتِواءِ ونَفْيِ الِاعْوِجاجِ، وذَلِكَ لِأنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إلى قِطْعَةِ أرْضٍ فَسَوَّيْتَها وبالَغْتَ في التَّسْوِيَةِ فَإذا قابَلْتَها المَقايِيسَ الهَنْدَسِيَّةَ وجَدْتَ فِيها أنْواعًا مِنَ العِوَجِ خارِجَةً عَنِ الحِسِّ البَصَرِيِّ، قالَ: فَذاكَ القَدْرُ في الِاعْوِجاجِ لَمّا لَطُفَ جِدًّا أُلْحِقَ بِالمَعانِي فَقِيلَ فِيهِ: عِوَجٌ بِالكَسْرِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأرْضَ تَكُونُ ذَلِكَ اليَوْمَ كُرَةً حَقِيقِيَّةً لِأنَّ المُضَلَّعَ لا بُدَّ وأنْ يَتَّصِلَ بَعْضُ سُطُوحِهِ بِالبَعْضِ لا عَلى الِاسْتِقامَةِ بَلْ عَلى الِاعْوِجاجِ وذَلِكَ يُبْطِلُهُ ظاهِرُ الآيَةِ. ورابِعُها: الأمْتُ النُّتُوءُ اليَسِيرُ، يُقالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتّى ما فِيهِ أمْتٌ، وتَحَصَّلَ مِن هَذِهِ الصِّفاتِ الأرْبَعِ أنَّ الأرْضَ تَكُونُ ذَلِكَ اليَوْمَ مَلْساءَ خالِيَةً عَنِ الِارْتِفاعِ والِانْخِفاضِ وأنْواعِ الِانْحِرافِ والِاعْوِجاجِ.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ لِيَوْمِ القِيامَةِ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ﴾ وفي الدّاعِي قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ الدّاعِيَ هو النَّفْخُ في الصُّورِ. وقَوْلُهُ: ﴿لا عِوَجَ لَهُ﴾ أيْ لا يَعْدِلُ عَنْ أحَدٍ بِدُعائِهِ بَلْ يَحْشُرُ الكُلَّ. الثّانِي: أنَّهُ مَلَكٌ قائِمٌ عَلى صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ يُنادِي ويَقُولُ: أيَّتُها العِظامُ النَّخِرَةُ، والأوْصالُ المُتَفَرِّقَةُ، واللُّحُومُ المُتَمَزِّقَةُ، قَوْمِي إلى رَبِّكِ لِلْحِسابِ والجَزاءِ. فَيَسْمَعُونَ صَوْتَ الدّاعِي فَيَتْبَعُونَهُ، ويُقالُ: إنَّهُ إسْرافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلى الصَّخْرَةِ، فَإنْ قِيلَ هَذا الدُّعاءُ يَكُونُ قَبْلَ الإحْياءِ أوْ بَعْدَهُ ؟ قُلْنا: إنْ كانَ المَقْصُودُ بِالدُّعاءِ إعْلامَهم وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الإحْياءِ لِأنَّ دُعاءَ المَيِّتِ عَبَثٌ وإنْ لَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ إعْلامَهم بَلِ المَقْصُودُ مَقْصُودٌ آخَرُ مِثْلَ أنْ يَكُونَ لُطْفًا لِلْمَلائِكَةِ ومَصْلَحَةً لَهم فَذَلِكَ جائِزٌ قَبْلَ الإحْياءِ.
{"ayah":"لَّا تَرَىٰ فِیهَا عِوَجࣰا وَلَاۤ أَمۡتࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق