الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنهم أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا أمانِيَّ وإنْ هم إلّا يَظُنُّونَ﴾ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهم مِمّا يَكْسِبُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِنهم أُمِّيُّونَ﴾ اليَهُودُ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَهم بِالعِنادِ وأزالَ الطَّمَعَ عَنْ إيمانِهِمْ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، فالفِرْقَةُ الأُولى هي الفِرْقَةُ الضّالَّةُ المُضِلَّةُ، وهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، والفِرْقَةُ الثّانِيَةُ: المُنافِقُونَ، والفِرْقَةُ الثّالِثَةُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ المُنافِقِينَ، والفِرْقَةُ الرّابِعَةُ: هُمُ المَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ وهُمُ العامَّةُ الأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لا مَعْرِفَةَ عِنْدَهم بِقِراءَةٍ ولا كِتابَةٍ وطَرِيقَتُهُمُ التَّقْلِيدُ وقَبُولُ ما يُقالُ لَهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قَبُولِ الإيمانِ لَيْسَ سَبَبُ ذَلِكَ الِامْتِناعِ واحِدًا بَلْ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنهم سَبَبٌ آخَرُ ومَن تَأمَّلَ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ مِن شَرْحِ فِرَقِ اليَهُودِ وجَدَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ في فِرَقِ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَإنَّ فِيهِمْ مَن يُعانِدُ الحَقَّ ويَسْعى في إضْلالِ الغَيْرِ وفِيهِمْ مَن يَكُونُ مُتَوَسِّطًا، وفِيهِمْ مَن يَكُونُ عامِّيًّا مَحْضًا مُقَلِّدًا، وهاهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في الأُمِّيِّ فَقالَ بَعْضُهم هو مَن لا يُقِرُّ بِكِتابٍ ولا بِرَسُولٍ. وقالَ آخَرُونَ: مَن لا يُحْسِنُ الكِتابَةَ والقِراءَةَ وهَذا الثّانِي أصْوَبُ لِأنَّ الآيَةَ في اليَهُودِ وكانُوا مُقِرِّينَ بِالكِتابِ والرَّسُولِ ولِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسِبُ» “ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى هَذا القَوْلِ، ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”الأمانِيُّ“ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ ولَها مَعانٍ مُشْتَرِكَةٌ في أصْلٍ واحِدٍ: أحَدُها: ما تَخَيَّلَهُ الإنْسانُ فَيُقَدِّرُ في نَفْسِهِ وُقُوعَهُ ويُحَدِّثُها بِكَوْنِهِ، ومِن هَذا قَوْلُهم: فُلانٌ يَعِدُ فَلانًا ويُمَنِّيهِ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [النِّساءِ: ١٢٠] فَإنْ فَسَّرْنا الأمانِيَّ بِهَذا كانَ قَوْلُهُ: ﴿إلّا أمانِيَّ﴾ إلّا ما هم عَلَيْهِ مِن أمانِيِّهِمْ في أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُؤاخِذُهم بِخَطاياهم وأنَّ آباءَهُمُ الأنْبِياءَ يَشْفَعُونَ لَهم وما تُمَنِّيهِمْ أحْبارُهم مِن أنَّ النّارَ لا تَمَسُّهم إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً. وثانِيها: ﴿إلّا أمانِيَّ﴾ إلّا أكاذِيبَ مُخْتَلِفَةً سَمِعُوها مِن عُلَمائِهِمْ فَقَبِلُوها عَلى التَّقْلِيدِ، قالَ أعْرابِيٌّ لِابْنِ دَأْبٍ في شَيْءٍ حَدَّثَ بِهِ: أهَذا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أمْ تَمَنَّيْتَهُ أمِ اخْتَلَقْتَهُ. وثالِثُها: ﴿إلّا أمانِيَّ﴾ أيْ إلّا ما يَقْرَءُونَ مِن قَوْلِهِ: تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ أوَّلَ لَيْلَةٍ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: والِاشْتِقاقُ مِن مَنِيَ، إذا قَدَّرَ لِأنَّ المُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ في نَفْسِهِ ويَجُوزُ ما يَتَمَنّاهُ، وكَذَلِكَ المُخْتَلِقُ والقارِئُ يُقَدِّرُ أنَّ كَلِمَةَ كَذا بَعْدَ كَذا، قالَ أبُو مُسْلِمٍ: حَمْلُهُ عَلى تَمَنِّي القَلْبِ أوْلى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى تِلْكَ أمانِيُّهُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١١١] أيْ تَمَنِّيهِمْ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النِّساءِ: ١٢٣] وقالَ: ﴿تِلْكَ أمانِيُّهم قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: (p-١٢٨)١١١ ] وقالَ تَعالى: ﴿وقالُوا ما هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما يُهْلِكُنا إلّا الدَّهْرُ وما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثِيَةِ: ٢٤] بِمَعْنى يُقَدِّرُونَ ويَخْرُصُونَ. وقالَ الأكْثَرُونَ: حَمْلُهُ عَلى القِراءَةِ أوْلى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحَجِّ: ٥٢] ولِأنَّ حَمْلَهُ عَلى القِراءَةِ ألْيَقُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْناءِ لِأنّا إذا حَمَلْناهُ عَلى ذَلِكَ كانَ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ فَكَأنَّهُ قالَ: لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا بِقَدْرِ ما يُتْلى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُونَهُ وبِقَدْرِ ما يُذْكَرُ لَهم فَيَقْبَلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهم لا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ التَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ، وإذا حُمِلَ عَلى أنَّ المُرادَ الأحادِيثُ والأكاذِيبُ أوِ الظَّنُّ والتَّقْدِيرُ وحَدِيثُ النَّفْسِ كانَ الِاسْتِثْناءُ فِيهِ نادِرًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا أمانِيَّ﴾ مِنَ الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ولا عِلْمَ إلّا حُسْنُ ظَنٍّ بِغائِبِ وقُرِئَ ”إلّا أمانِيَ“ بِالتَّخْفِيفِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ هم إلّا يَظُنُّونَ﴾ فَكالمُحَقِّقِ لِما قُلْناهُ لِأنَّ الأمانِيَ إنْ أُرِيدَ بِها التَّقْدِيرُ والفِكْرُ لِأُمُورٍ لا حَقِيقَةَ لَها، فَهي ظَنٌّ ويَكُونُ ذَلِكَ تَكْرارًا. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: حَدِيثُ النَّفْسِ غَيْرُ والظَّنُّ غَيْرُ فَلا يَلْزَمُ التَّكْرارُ، وإذا حَمَلْناهُ عَلى التِّلاوَةِ عَلَيْهِمْ يَحْسُنُ مَعْناهُ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ومِنهم أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلّا بِأنْ يُتْلى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُوهُ وإلّا بِأنْ يُذَكِّرَهم تَأْوِيلَهُ كَما يُرادُ فَيَظُنُّوهُ، وبَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لا تُوَصِّلُ إلى الحَقِّ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: إحْداها: أنَّ المَعارِفَ كَسْبِيَّةٌ لا ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ ذَمَّ مَن لا يَعْلَمُ ويَظُنُّ. وثانِيها: بُطْلانُ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وهو مُشْكَلٌ لِأنَّ التَّقْلِيدَ في الفُرُوعِ جائِزٌ عِنْدَنا. وثالِثُها: أنَّ المُضِلَّ وإنْ كانَ مَذْمُومًا فالمُغْتَرُّ بِإضْلالِ المُضِلِّ أيْضًا مَذْمُومٌ لِأنَّهُ تَعالى ذَمَّهم وإنْ كانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. ورابِعُها: أنَّ الِاكْتِفاءَ بِالظَّنِّ في أُصُولِ الدِّينِ غَيْرُ جائِزٍ واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ﴾ فَقالُوا: الوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُها كُلُّ مَكْرُوبٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّهُ العَذابُ الألِيمُ. وعَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ: إنَّهُ مَسِيلُ صَدِيدِ أهْلِ جَهَنَّمَ، وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ”«إنَّهُ وادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» “ . قالَ القاضِي: ”ويْلٌ“ يَتَضَمَّنُ نِهايَةَ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ فَهَذا القَدْرُ لا شُبْهَةَ فِيهِ سَواءٌ كانَ الوَيْلُ عِبارَةً عَنْ وادٍ في جَهَنَّمَ أوْ عَنِ العَذابِ العَظِيمِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ كَتَبْتُ إذا أمَرَ بِذَلِكَ فَفائِدَةُ قَوْلِهِ: ﴿بِأيْدِيهِمْ﴾ أنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنهم إلّا عَلى هَذا الوَجْهِ. الثّانِي: أنَّهُ تَأْكِيدٌ وهَذا المَوْضِعُ مِمّا يَحْسُنُ فِيهِ التَّأْكِيدُ كَما تَقُولُ لِمَن يُنْكِرُ مَعْرِفَةَ ما كَتَبَهُ: يا هَذا كَتَبْتَهُ بِيَمِينِكَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ فالمُرادُ أنَّ مَن يَكْتُبُ هَذِهِ الكِتابَةَ ويَكْسِبُ هَذا الكَسْبَ في غايَةِ الرَّداءَةِ لِأنَّهم ضَلُّوا عَنِ الدِّينِ وأضَلُّوا وباعُوا آخِرَتَهم بِدُنْياهم، فَذَنْبُهم أعْظَمُ مِن ذَنْبِ غَيْرِهِمْ، فَإنَّ المَعْلُومَ أنَّ الكَذِبَ عَلى الغَيْرِ بِما يَضُرُّ يَعْظُمُ إثْمُهُ فَكَيْفَ بِمَن يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ ويَضُمُّ إلى الكَذِبِ الإضْلالَ ويَضُمُّ إلَيْهِما حُبَّ الدُّنْيا والِاحْتِيالَ في تَحْصِيلِها ويَضُمُّ إلَيْها أنَّهُ مَهَّدَ طَرِيقًا في الإضْلالِ باقِيًا عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، فَلِذَلِكَ عَظَّمَ تَعالى ما فَعَلُوهُ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: كَتَبَةُ الكِتابِ، والآخَرُ: إسْنادُهُ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى سَبِيلِ الكَذِبِ، فَهَذا الوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلى الكَتَبَةِ أوْ عَلى إسْنادِ المَكْتُوبِ إلى اللَّهِ أوْ عَلَيْهِما مَعًا ؟ قُلْنا: لا شَكَّ أنَّ كَتَبَةَ الأشْياءِ الباطِلَةِ لِقَصْدِ الإضْلالِ مِنَ المُنْكَراتِ والكَذِبِ عَلى اللَّهِ تَعالى أيْضًا كَذَلِكَ والجَمْعُ بَيْنَهُما مُنْكَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فَهو تَنْبِيهٌ عَلى أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلى نِهايَةِ شَقاوَتِهِمْ لِأنَّ العاقِلَ يَجِبُ أنْ لا يَرْضى بِالوِزْرِ القَلِيلِ في الآخِرَةِ لِأجْلِ الأجْرِ (p-١٢٩)العَظِيمِ في الدُّنْيا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ يَرْضى بِالعِقابِ العَظِيمِ في الآخِرَةِ لِأجْلِ النَّفْعِ الحَقِيرِ في الدُّنْيا. الثّانِي: أنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهم ما فَعَلُوا ذَلِكَ التَّحْرِيفَ دِيانَةً بَلْ إنَّما فَعَلُوهُ طَلَبًا لِلْمالِ والجاهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ أخْذَ المالِ عَلى الباطِلِ وإنْ كانَ بِالتَّراضِي فَهو مُحَرَّمٌ، لِأنَّ الَّذِينَ كانُوا يُعْطُونَهُ مِنَ المالِ كانَ عَلى مَحَبَّةٍ ورِضًا، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَبَّهَ تَعالى عَلى تَحْرِيمِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ﴾ فالمُرادُ أنَّ كَتْبَتَهم لِما كَتَبُوهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ بِانْفِرادِهِ، وكَذَلِكَ أخْذُهُمُ المالَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ أعادَ ذِكْرَ الوَيْلِ في الكَسْبِ، ولَوْ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُ كانَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ مَجْمُوعَهُما يَقْتَضِي الوَعِيدَ العَظِيمَ دُونَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَأزالَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الشُّبْهَةَ، واخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِمّا يَكْسِبُونَ﴾ هَلِ المُرادُ ما كانُوا يَأْخُذُونَ عَلى هَذِهِ الكِتابَةِ والتَّحْرِيفِ فَقَطْ أوِ المُرادُ بِذَلِكَ سائِرُ مَعاصِيهِمْ، والأقْرَبُ في نِظامِ الكَلامِ أنَّهُ راجِعٌ إلى المَذْكُورِ مِنَ المالِ المَأْخُوذِ عَلى هَذا الوَجْهِ وإنْ كانَ الأقْرَبُ مِن حَيْثُ العُمُومِ أنَّهُ يَشْمَلُ الكُلَّ، لَكِنَّ الَّذِي يُرَجِّحُ الأوَّلَ أنَّهُ مَتى لَمْ يُقَيَّدْ كَسْبُهم بِهَذا القَيْدِ لَمْ يَحْسُنِ الوَعِيدُ عَلَيْهِ لِأنَّ الكَسْبَ يَدْخُلُ فِيهِ الحَلالُ والحَرامُ، فَلا بُدَّ مِن تَقْيِيدِهِ، وأوْلى ما يُقَيَّدُ بِهِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قالَ القاضِي: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ كِتابَتَهم لَيْسَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعالى، لِأنَّها لَوْ كانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعالى لَكانَتْ إضافَتُها إلَيْهِ تَعالى بِقَوْلِهِمْ: ﴿هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ ذَلِكَ حَقِيقَةً لِأنَّهُ تَعالى إذا خَلَقَها فِيهِمْ فَهَبْ أنَّ العَبْدَ مُكْتَسِبٌ إلّا أنَّ انْتِسابَ الفِعْلِ إلى الخالِقِ أقْوى مِنَ انْتِسابِهِ إلى المُكْتَسِبِ فَكانَ إسْنادُ تِلْكَ الكَتْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى أوْلى مِن إسْنادِها إلى العَبْدِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ يَسْتَحِقُّوا الحَمْدَ عَلى قَوْلِهِمْ فِيها: إنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ تِلْكَ الكَتْبَةَ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعالى. والجَوابُ: أنَّ الدّاعِيَةَ المُوجِبَةَ لَها مِن خَلْقِ اللَّهِ تَعالى بِالدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ فَهي أيْضًا تَكُونُ كَذَلِكَ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب