الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ والفُرْقانَ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الإنْعامُ الرّابِعُ والمُرادُ مِنَ الفُرْقانِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هو التَّوْراةَ وأنْ يَكُونَ شَيْئًا داخِلًا في (p-٧٣)التَّوْراةِ وأنْ يَكُونَ شَيْئًا خارِجًا عَنِ التَّوْراةِ فَهَذِهِ أقْسامٌ ثَلاثَةٌ لا مَزِيدَ عَلَيْها وتَقْرِيرُ الِاحْتِمالِ الأوَّلِ أنَّ التَّوْراةَ لَها صِفَتانِ: كَوْنُها كِتابًا مُنَزَّلًا وكَوْنُها فُرْقانًا تُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ فَهو كَقَوْلِكَ: رَأيْتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ تُرِيدُ الرَّجُلَ الجامِعَ بَيْنَ الجُودِ والجَراءَةِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الفُرْقانَ وضِياءً وذِكْرًا﴾ [الأنْبِياءِ: ٤٨] وأمّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمالِ الثّانِي فَهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الفُرْقانِ ما في التَّوْراةِ مِن بَيانِ الدِّينِ لِأنَّهُ إذا أبانَ ظَهَرَ الحَقُّ مُتَمَيِّزًا مِنَ الباطِلِ، فالمُرادُ مِنَ الفُرْقانِ بَعْضُ ما في التَّوْراةِ وهو بَيانُ أُصُولِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ. وأمّا تَقْرِيرُ الِاحْتِمالِ الثّالِثِ فَمِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الفُرْقانِ ما أُوتِيَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ اليَدِ والعَصا وسائِرِ الآياتِ وسُمِّيَتْ بِالفُرْقانِ لِأنَّها فَرَّقَتْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الفُرْقانِ النَّصْرَ والفَرَجَ الَّذِي آتاهُ اللَّهُ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قالَ تَعالى: ﴿وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ﴾ [الأنْفالِ: ٤١] والمُرادُ النَّصْرُ الَّذِي آتاهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وذَلِكَ لِأنَّ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرِ يَتَوَقَّعُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الخَصْمَيْنِ في أنْ يَكُونَ هو المُسْتَوْلِيَ وصاحَبُهُ هو المَقْهُورَ، فَإذا ظَهَرَ النَّصْرُ تَمَيَّزَ الرّاجِحُ مِنَ المَرْجُوحِ وانْفَرَقَ الطَّمَعُ الصّادِقُ مِنَ الطَّمَعِ الكاذِبِ. وثالِثُها: قالَ قُطْرُبٌ: الفُرْقانُ هو انْفِراقُ البَحْرِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. فَإنْ قُلْتَ: فَهَذا قَدْ صارَ مَذْكُورًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ وأيْضًا فَقَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ لا يَلِيقُ إلّا بِالكِتابِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُذْكَرُ إلّا عَقِيبَ الهُدى. قُلْتُ: الجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّهُ تَعالى لَمْ يُبَيِّنْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ أنَّ ذَلِكَ كانَ لِأجْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وفي هَذِهِ الآيَةِ بَيَّنَ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ عَلى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ، وعَنِ الثّانِي أنَّ فَرْقَ البَحْرِ كانَ مِنَ الدَّلائِلِ فَلَعَلَّ المُرادَ أنّا لَمّا آتَيْنا مُوسى فُرْقانَ البَحْرِ اسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وصِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وذَلِكَ هو الهِدايَةُ وأيْضًا فالهُدى قَدْ يُرادُ بِهِ الفَوْزُ والنَّجاةُ كَما يُرادُ بِهِ الدَّلالَةُ، فَكَأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ آتاهُمُ الكِتابَ نِعْمَةً في الدِّينِ والفُرْقانَ الَّذِي حَصَلَ بِهِ خَلاصُهم مِنَ الخَصْمِ نِعْمَةً عاجِلَةً. واعْلَمْ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن غَلِطَ فَظَنَّ أنَّ الفُرْقانَ هو القُرْآنُ، وأنَّهُ أُنْزِلَ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّ الفُرْقانَ هو الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ وكُلُّ دَلِيلٍ كَذَلِكَ فَلا وجْهَ لِتَخْصِيصِ هَذا اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ. وقالَ آخَرُونَ: المَعْنى: ﴿وإذْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ يَعْنِي التَّوْراةَ وآتَيْنا مُحَمَّدًا ﷺ الفُرْقانَ لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهِ يا أهْلَ الكِتابِ. وقَدْ مالَ إلى هَذا القَوْلِ مِن عُلَماءِ النَّحْوِ الفَرّاءُ وثَعْلَبٌ وقُطْرُبٌ وهَذا تَعَسُّفٌ شَدِيدٌ مِن غَيْرِ حاجَةٍ البَتَّةَ إلَيْهِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَعَلَّ وتَفْسِيرُ الِاهْتِداءِ، واسْتَدَلَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ الِاهْتِداءَ مِنَ الكُلِّ وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَن قالَ: أرادَ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ، وأيْضًا فَإذا كانَ عِنْدَهم أنَّهُ تَعالى: يَخْلُقُ الِاهْتِداءَ، فِيمَن يَهْتَدِي والضَّلالَ فِيمَن يَضِلُّ، فَما الفائِدَةُ في أنْ يُنَزِّلَ الكِتابَ والفُرْقانَ ويَقُولَ: ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ الِاهْتِداءَ إذا كانَ يَخْلُقُهُ، فَلا تَأْثِيرَ لِإنْزالِ الكُتُبِ فِيهِ لَوْ خُلِقَ الِاهْتِداءُ ولا كِتابَ لَحَصَلَ الِاهْتِداءُ، ولَوْ أنْزَلَ بَدَلًا مِنَ الكِتابِ الواحِدِ ألْفَ كِتابٍ ولَمْ يُخْلَقِ الِاهْتِداءُ فِيهِمْ لَما حَصَلَ الِاهْتِداءُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَقُولَ أنْزَلْتُ الكِتابَ لِكَيْ تَهْتَدُوا ؟ واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ قَدْ تَقَدَّمَ مِرارًا لا تُحْصى مَعَ الجَوابِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب