الباحث القرآني
الحُكْمُ الثّالِثُ
مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ المَذْكُورَةِ في هَذا المَوْضِعِ مِن هَذِهِ السُّورَةِ آيَةُ المُدايَنَةِ.
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكم فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكم فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكم واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذا الحُكْمِ نَوْعَيْنِ مِنَ الحُكْمِ: أحَدُهُما: الإنْفاقُ في سَبِيلِ اللَّهِ وهو يُوجِبُ تَنْقِيصَ المالِ، والثّانِي: تَرْكُ الرِّبا، وهو أيْضًا سَبَبٌ لِتَنْقِيصِ المالِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ ذَيْنِكَ الحُكْمَيْنِ بِالتَّهْدِيدِ العَظِيمِ، فَقالَ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ والتَّقْوى تَسُدُّ عَلى الإنْسانِ أكْثَرَ أبْوابِ المَكاسِبِ والمَنافِعِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِأنْ نَدَبَهُ إلى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ المالِ الحَلالِ وصَوْنِهِ عَنِ الفَسادِ والبَوارِ؛ فَإنَّ القُدْرَةَ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وعَلى تَرْكِ الرِّبا، وعَلى مُلازَمَةِ التَّقْوى لا يَتِمُّ (p-٩٤)ولا يَكْمُلُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ المالِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لِأجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ بالَغَ في الوَصِيَّةِ بِحِفْظِ المالِ الحَلالِ عَنْ وُجُوهِ التَّوى والتَّلَفِ، وقَدْ ورَدَ نَظِيرُهُ في سُورَةِ النِّساءِ ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا﴾ [ النِّساءِ: ٥] فَحَثَّ عَلى الِاحْتِياطِ في أمْرِ الأمْوالِ لِكَوْنِها سَبَبًا لِمَصالِحِ المَعاشِ والمَعادِ، قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: والَّذِي يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ ألْفاظَ القُرْآنِ جارِيَةٌ في الأكْثَرِ عَلى الِاخْتِصارِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ بَسْطٌ شَدِيدٌ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾، ثُمَّ قالَ ثانِيًا: ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾، ثُمَّ قالَ ثالِثًا: ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾، فَكانَ هَذا كالتَّكْرارِ لِقَوْلِهِ ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾؛ لِأنَّ العَدْلَ هو ما عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ رابِعًا: (فَلْيَكْتُبْ) وهَذا إعادَةُ الأمْرِ الأوَّلِ، ثُمَّ قالَ خامِسًا: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾، وفي قَوْلِهِ: ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ كِفايَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ لِأنَّ الكاتِبَ بِالعَدْلِ إنَّما يَكْتُبُ ما يُمْلى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ سادِسًا: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ وهَذا تَأْكِيدٌ، ثُمَّ قالَ سابِعًا: ﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ فَهَذا كالمُسْتَفادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، ثُمَّ قالَ ثامِنًا: ﴿ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ﴾ وهو أيْضًا تَأْكِيدٌ لِما مَضى، ثُمَّ قالَ تاسِعًا: ﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ فَذَكَرَ هَذِهِ الفَوائِدَ الثَّلاثَةَ لِتِلْكَ التَّأْكِيداتِ السّالِفَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمّا حَثَّ عَلى ما يَجْرِي مَجْرى سَبَبِ تَنْقِيصِ المالِ في الحُكْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ بالَغَ في هَذا الحُكْمِ في الوَصِيَّةِ بِحِفْظِ المالِ الحَلالِ، وصَوْنِهِ عَنِ الهَلاكِ والبَوارِ، لِيَتَمَكَّنَ الإنْسانُ بِواسِطَتِهِ مِنَ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، والإعْراضِ عَنْ مَساخِطِ اللَّهِ مِنَ الرِّبا وغَيْرِهِ، والمُواظَبَةِ عَلى تَقْوى اللَّهِ فَهَذا هو الوَجْهُ الأوَّلُ مِن وُجُوهِ النَّظْمِ، وهو حَسَنٌ لَطِيفٌ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْمًا مِنَ المُفَسِّرِينَ قالُوا: المُرادُ بِالمُدايَنَةِ السَّلَمُ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا مَنَعَ الرِّبا في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أذِنَ في السَّلَمِ في جَمِيعِ هَذِهِ الآيَةِ مَعَ أنَّ جَمِيعَ المَنافِعِ المَطْلُوبَةِ مِنَ الرِّبا حاصِلَةٌ في السَّلَمِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا لَذَّةَ ولا مَنفَعَةَ يُوصَلُ إلَيْها بِالطَّرِيقِ الحَرامِ إلّا وضَعَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِتَحْصِيلِ مِثْلِ ذَلِكَ اللَّذَّةِ طَرِيقًا حَلالًا وسَبِيلًا مَشْرُوعًا فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ النَّظْمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: التَّدايُنُ تَفاعُلٌ مِنَ الدَّيْنِ، ومَعْناهُ دايَنَ بَعْضُكم بَعْضًا، وتَدايَنْتُمْ تَبايَعْتُمْ بَدَيْنٍ، قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: القَرْضُ غَيْرُ الدَّيْنِ؛ لِأنَّ القَرْضَ أنْ يُقْرِضَ الإنْسانُ دَراهِمَ، أوْ دَنانِيرَ، أوْ حَبًّا، أوْ تَمْرًا، أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ، ولا يَجُوزُ فِيهِ الأجَلُ والدَّيْنُ يَجُوزُ فِيهِ الأجَلُ، ويُقالُ مِنَ الدَّيْنِ ادّانَ إذا باعَ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ إلى أجَلٍ، ودانَ يُدِينُ إذا أقْرَضَ، ودانَ إذا اسْتَقْرَضَ وأنْشَدَ الأحْمَرُ:
؎نَدِينُ ويَقْضِي اللَّهُ عَنّا وقَدْ نَرى مَصارِعَ قَوْمٍ لا يَدِينُونَ ضُيَّقا
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في المُرادِ بِهَذِهِ المُدايَنَةِ أقْوالٌ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أنَّها نَزَلَتْ في السَّلَفِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِمَ المَدِينَةَ وهم يُسْلِفُونَ في التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ والثَّلاثَ، فَقالَ ﷺ: ”«مَن أسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ» “ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى عَرَّفَ المُكَلَّفِينَ وجْهَ الِاحْتِياطِ في الكَيْلِ والوَزْنِ والأجَلِ، فَقالَ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ .
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ القَرْضُ وهو ضَعِيفٌ لِما بَيَّنّا أنَّ القَرْضَ لا يُمْكِنُ أنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الأجَلُ، والدَّيْنُ المَذْكُورُ في الآيَةِ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ الأجَلُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ البِياعاتِ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: بَيْعُ العَيْنِ بِالعَيْنِ، (p-٩٥)وذَلِكَ لَيْسَ بِمُدايَنَةٍ البَتَّةَ. والثّانِي: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو باطِلٌ، فَلا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ، بَقِيَ هُنا قِسْمانِ: بَيْعُ العَيْنِ بِالدَّيْنِ، وهو ما إذا باعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وبَيْعُ الدَّيْنِ بِالعَيْنِ وهو المُسَمّى بِالسَّلَمِ، وكِلاهُما داخِلانِ تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ، وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: المُدايَنَةُ مُفاعَلَةٌ، وحَقِيقَتُها أنْ يَحْصُلَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما دَيْنٌ، وذَلِكَ هو بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو باطِلٌ بِالِاتِّفاقِ.
والجَوابُ: أنَّ المُرادَ مِن تَدايَنْتُمْ تَعامَلْتُمْ، والتَّقْدِيرُ: إذا تَعامَلْتُمْ بِما فِيهِ دَيْنٌ.
السُّؤالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿تَدايَنْتُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى الدَّيْنِ فَما الفائِدَةُ بِقَوْلِهِ ﴿بِدَيْنٍ﴾ ؟
الجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: التَّدايُنُ يَكُونُ لِمَعْنَيَيْنِ أحَدُهُما: التَّدايُنُ بِالمالِ، والآخَرُ التَّدايُنُ بِمَعْنى المُجازاةِ، مِن قَوْلِهِمْ: كَما تَدِينُ تُدانُ، والدَّيْنُ الجَزاءُ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الدَّيْنَ لِتَخْصِيصِ أحَدِ المَعْنَيَيْنِ.
الثّانِي: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنَّما ذَكَرَ الدَّيْنَ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿فاكْتُبُوهُ﴾ إذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: فاكْتُبُوا الدَّيْنَ، فَلَمْ يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الحَسَنَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ [ الحِجْرِ: ٣٠]، ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [ الأنْعامِ: ٣٨] .
الرّابِعُ: فَإذا تَدايَنْتُمْ أيَّ دَيْنٍ كانَ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا، عَلى أيِّ وجْهٍ كانَ، مِن قَرْضٍ أوْ سَلَمٍ أوْ بَيْعِ عَيْنٍ إلى أجَلٍ. الخامِسُ: ما خَطَرَ بِبالِي أنّا ذَكَرْنا أنَّ المُدايَنَةَ مُفاعَلَةٌ، وذَلِكَ إنَّما يَتَناوَلُ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو باطِلٌ، فَلَوْ قالَ: إذا تَدايَنْتُمْ لَبَقِيَ النَّصُّ مَقْصُورًا عَلى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو باطِلٌ، أمّا لَمّا قالَ: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ كانَ المَعْنى: إذا تَدايَنْتُمْ تَدايُنًا يَحْصُلُ فِيهِ دَيْنٌ واحِدٌ، وحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ النَّصِّ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، ويَبْقى بَيْعُ العَيْنِ بِالدَّيْنِ، أوْ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالعَيْنِ فَإنَّ الحاصِلَ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما دَيْنٌ واحِدٌ لا غَيْرَ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ: كُلَّما تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ فاكْتُبُوهُ، وكَلِمَةُ ”إذا“ لا تُفِيدُ العُمُومَ، فَلِمَ قالَ: ﴿تَدايَنْتُمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ كُلَّما تَدايَنْتُمْ ؟
الجَوابُ: أنَّ كَلِمَةَ ”إذا“ وإنْ كانَتْ لا تَقْتَضِي العُمُومَ، إلّا أنَّها لا تَمْنَعُ مِنَ العُمُومِ وهَهُنا قامَ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ هو العُمُومُ؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ العِلَّةَ في الأمْرِ بِالكِتابَةِ في آخِرِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ والمَعْنى إذا وقَعَتِ المُعامَلَةُ بِالدَّيْنِ ولَمْ يُكْتَبْ، فالظّاهِرُ أنَّهُ تُنْسى الكَيْفِيَّةُ، فَرُبَّما تَوَهَّمَ الزِّيادَةَ، فَطَلَبَ الزِّيادَةَ وهو ظُلْمٌ، ورُبَّما تَوَهَّمَ النُّقْصانَ فَتَرَكَ حَقَّهُ مِن غَيْرِ حَمْدٍ ولا أجْرٍ، فَأمّا إذا كَتَبَ كَيْفِيَّةَ الواقِعَةِ أمِنَ مِن هَذِهِ المَحْذُوراتِ فَلَمّا دَلَّ النَّصُّ عَلى أنَّ هَذا هو العِلَّةُ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ العِلَّةَ قائِمَةٌ في الكُلِّ، كانَ الحُكْمُ أيْضًا حاصِلًا في الكُلِّ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ فَفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: ما الأجَلُ ؟
الجَوابُ: الأجَلُ في اللُّغَةِ هو الوَقْتُ المَضْرُوبُ لِانْقِضاءِ الأمَدِ، وأجَلُ الإنْسانِ هو الوَقْتُ لِانْقِضاءِ عُمْرِهِ، وأجَلُ الدَّيْنِ لِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ في المُسْتَقْبَلِ، وأصْلُهُ مِنَ التَّأْخِيرِ، يُقالُ: أجِلَ الشَّيْءُ يَأْجِلُ أُجُولًا إذا تَأخَّرَ، والآجِلُ نَقِيضُ العاجِلِ.
(p-٩٦)السُّؤالُ الثّانِي: المُدايَنَةُ لا تَكُونُ إلّا مُؤَجَّلَةً فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ الأجَلِ بَعْدَ ذِكْرِ المُدايَنَةِ ؟
الجَوابُ: إنَّما ذَكَرَ الأجَلَ لِيُمْكِنَهُ أنْ يَصِفَهُ بِقَوْلِهِ (مُسَمًّى) والفائِدَةُ في قَوْلِهِ: (مُسَمًّى) لِيُعْلَمَ أنَّ مِن حَقِّ الأجَلِ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، كالتَّوْقِيتِ بِالسَّنَةِ والشَّهْرِ والأيّامِ، ولَوْ قالَ: إلى الحَصادِ، أوْ إلى الدِّياسِ، أوْ إلى قُدُومِ الحاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاكْتُبُوهُ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ في المُدايَنَةِ بِأمْرَيْنِ أحَدُهُما: الكِتابَةُ وهي قَوْلُهُ هَهُنا ﴿فاكْتُبُوهُ﴾ الثّانِي: الإشْهادُ وهو قَوْلُهُ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: فائِدَةُ الكِتابَةِ والإشْهادِ أنَّ ما يَدْخُلُ فِيهِ الأجَلُ، تَتَأخَّرُ فِيهِ المُطالَبَةُ ويَتَخَلَّلُهُ النِّسْيانُ، ويَدْخُلُ فِيهِ الجَحْدُ، فَصارَتِ الكِتابَةُ كالسَّبَبِ لِحِفْظِ المالِ مِنَ الجانِبَيْنِ؛ لِأنَّ صاحِبَ الدَّيْنِ إذا عَلِمَ أنَّ حَقَّهُ قَدْ قُيِّدَ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ يَحْذَرُ مِن طَلَبِ الزِّيادَةِ، ومِن تَقْدِيمِ المُطالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الأجَلِ، ومَن عَلَيْهِ الدَّيْنُ إذا عَرَفَ ذَلِكَ يَحْذَرُ عَنِ الجُحُودِ، ويَأْخُذُ قَبْلَ حُلُولِ الأجَلِ في تَحْصِيلِ المالِ، لِيَتَمَكَّنَ مِن أدائِهِ وقْتَ حُلُولِ الدَّيْنِ، فَلَمّا حَصَلَ في الكِتابَةِ والإشْهادِ هَذِهِ الفَوائِدُ لا جَرَمَ أمَرَ اللَّهُ بِهِ واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: القائِلُونَ بِأنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلنَّدْبِ لا إشْكالَ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ، وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ ظاهِرَهُ لِلْوُجُوبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقالَ قَوْمٌ بِالوُجُوبِ وهو مَذْهَبُ عَطاءٍ وابْنِ جُرَيْجٍ والنَّخَعِيِّ واخْتِيارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وقالَ النَّخَعِيُّ: يُشْهِدُ ولَوْ عَلى دَسْتَجَةِ بَقْلٍ، وقالَ آخَرُونَ: هَذا الأمْرُ مَحْمُولٌ عَلى النَّدْبِ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ الفُقَهاءِ المُجْتَهِدِينَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنّا نَرى جُمْهُورَ المُسْلِمِينَ في جَمِيعِ دِيارِ الإسْلامِ يَبِيعُونَ بِالأثْمانِ المُؤَجَّلَةِ مِن غَيْرِ كِتابَةٍ ولا إشْهادٍ، وذَلِكَ إجْماعٌ عَلى عَدَمِ وُجُوبِهِما، ولِأنَّ في إيجابِهِما أعْظَمَ التَّشْدِيدِ عَلى المُسْلِمِينَ، والنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ”«بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» “ وقالَ قَوْمٌ: بَلْ كانَتْ واجِبَةً، إلّا أنَّ ذَلِكَ صارَ مَنسُوخًا بِقَوْلِهِ ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [ البَقَرَةِ: ٢٨٣] وهَذا مَذْهَبُ الحَسَنِ والشَّعْبِيِّ والحَكَمِ وابْنِ عُيَيْنَةَ، وقالَ التَّيْمِيُّ: سَألْتُ الحَسَنَ عَنْها فَقالَ: إنْ شاءَ أشْهَدَ وإنْ شاءَ لَمْ يُشْهِدْ، ألا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِكَتْبِ هَذِهِ المُدايَنَةِ اعْتَبَرَ في تِلْكَ الكِتابَةِ شَرْطَيْنِ:
الشَّرْطُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ الكاتِبُ عَدْلًا وهو قَوْلُهُ: ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (فاكْتُبُوهُ) ظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يَكْتُبَ، لَكِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَقَدْ لا يَكُونُ ذَلِكَ الإنْسانُ كاتِبًا، فَصارَ مَعْنى قَوْلِهِ: (فاكْتُبُوهُ) أيْ لا بُدَّ مِن حُصُولِ هَذِهِ الكِتابَةِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً﴾ [ المائِدَةِ: ٣٨] فَإنَّ ظاهِرَهُ وإنْ كانَ يَقْتَضِي خِطابَ الكُلِّ بِهَذا الفِعْلِ، إلّا أنّا عَلِمْنا أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ أنَّهُ لا بُدَّ مِن حُصُولِ قَطْعِ اليَدِ مِن إنْسانٍ واحِدٍ، إمّا الإمامُ أوْ نائِبُهُ أوِ المَوْلى، فَكَذا هَهُنا ثُمَّ تَأكَّدَ هَذا الَّذِي قُلْناهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ فَإنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ حُصُولُ هَذِهِ الكِتابَةِ مِن أيِّ شَخْصٍ كانَ.
أمّا قَوْلُهُ: (بِالعَدْلِ) فَفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لا يَزِيدُ في الدَّيْنِ ولا يَنْقُصُ مِنهُ، ويَكْتُبُهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ حُجَّةً لَهُ عِنْدَ الحاجَةِ إلَيْهِ.
الثّانِي: إذا كانَ فَقِيهًا وجَبَ أنْ يَكْتُبَ بِحَيْثُ لا يَخُصُّ (p-٩٧)أحَدَهُما بِالِاحْتِياطِ دُونَ الآخَرِ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَكْتُبَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الخَصْمَيْنِ آمِنًا مِن تَمَكُّنِ الآخَرِ مِن إبْطالِ حَقِّهِ.
الثّالِثُ: قالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: العَدْلُ أنْ يَكُونَ ما يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ ولا يَكُونُ بِحَيْثُ يَجِدُ قاضٍ مِن قُضاةِ المُسْلِمِينَ سَبِيلًا إلى إبْطالِهِ عَلى مَذْهَبِ بَعْضِ المُجْتَهِدِينَ.
الرّابِعُ: أنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الألْفاظِ المُجْمَلَةِ الَّتِي يَقَعُ النِّزاعُ في المُرادِ بِها، وهَذِهِ الأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْناها لا يُمْكِنُ رِعايَتُها إلّا إذا كانَ الكاتِبُ فَقِيهًا عارِفًا بِمَذاهِبِ المُجْتَهِدِينَ، وأنْ يَكُونَ أدِيبًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الألْفاظِ المُتَشابِهَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ظاهِرُ هَذا الكَلامِ نَهْيٌ لِكُلِّ مَن كانَ كاتِبًا عَنِ الِامْتِناعِ عَنِ الكِتابَةِ، وإيجابُ الكِتابَةِ عَلى كُلِّ مَن كانَ كاتِبًا، وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذا عَلى سَبِيلِ الإرْشادِ إلى الأوْلى لا عَلى سَبِيلِ الإيجابِ، والمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا عَلَّمَهُ الكِتابَةَ، وشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَةِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، فالأوْلى أنْ يَكْتُبَ تَحْصِيلًا لِمُهِمِّ أخِيهِ المُسْلِمِ شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [ القَصَصِ: ٧٧] فَإنَّهُ يَنْتَفِعُ النّاسُ بِكِتابَتِهِ كَما نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَعْلِيمِها.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: أنَّهُ فَرْضُ كِفايَةٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدًا يَكْتُبُ إلّا ذَلِكَ الواحِدَ وجَبَ الكِتابَةُ عَلَيْهِ، فَإنْ وجَدَ أقْوامًا كانَ الواجِبُ عَلى واحِدٍ مِنهم أنْ يَكْتُبَ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ هَذا كانَ واجِبًا عَلى الكاتِبِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ .
والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ مُتَعَلِّقَ الإيجابِ هو أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ، يَعْنِي أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكْتُبَ فالواجِبُ أنْ يَكْتُبَ عَلى ما عَلَّمَهُ اللَّهُ، وأنْ لا يُخِلَّ بِشَرْطٍ مِنَ الشَّرائِطِ، ولا يُدْرِجُ فِيهِ قَيْدًا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الإنْسانِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كَتَبَهُ مِن غَيْرِ مُراعاةِ هَذِهِ الشُّرُوطِ اخْتَلَّ مَقْصُودُ الإنْسانِ، وضاعَ مالُهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنْ كُنْتَ تَكْتُبُ فاكْتُبْهُ عَنِ العَدْلِ، واعْتِبارِ كُلِّ الشَّرائِطِ الَّتِي اعْتَبَرَها اللَّهُ تَعالى.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ فِيهِ احْتِمالانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِما قَبْلَهُ، والتَّقْدِيرُ: ولا يَأْبَ كاتِبٌ عَنِ الكِتابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إيّاها، ولا يَنْبَغِي أنْ يَكْتُبَ غَيْرَ الكِتابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إيّاها ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلْيَكْتُبْ تِلْكَ الكِتابَةَ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إيّاها.
والِاحْتِمالُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِما بَعْدَهُ، والتَّقْدِيرُ: ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ، وهَهُنا تَمَّ الكَلامُ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ ﴿كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ فَيَكُونُ الأوَّلُ أمْرًا بِالكِتابَةِ مُطْلَقًا ثُمَّ أرْدَفَهُ بِالأمْرِ بِالكِتابَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إيّاها، والوَجْهانِ ذَكَرَهُما الزَّجّاجُ.
* * *
الشَّرْطُ الثّانِي في الكِتابَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ الكِتابَةَ وإنْ وجَبَ أنْ يُخْتارَ لَها العالِمُ بِكَيْفِيَّةِ كَتْبِ الشُّرُوطِ والسِّجِلّاتِ لَكِنْ ذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِإمْلاءِ مَن عَلَيْهِ الحَقُّ فَلْيُدْخِلْ في جُمْلَةِ إمْلائِهِ اعْتِرافَهُ بِما عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ في قَدْرِهِ وجِنْسِهِ وصِفَتِهِ وأجَلِهِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلِأجْلِ ذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الإمْلالُ والإمْلاءُ لُغَتانِ، قالَ الفَرّاءُ: أمْلَلْتُ عَلَيْهِ الكِتابَ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ وبَنِي أسَدٍ (p-٩٨)وأمْلَيْتُ لُغَةَ تَمِيمٍ وقَيْسٍ، ونَزَلَ القُرْآنُ بِاللُّغَتَيْنِ قالَ تَعالى في اللُّغَةِ الثّانِيَةِ ﴿فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [ الفُرْقانِ: ٥].
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ وهَذا أمْرٌ لِهَذا المُمْلِي الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ بِأنْ يُقِرَّ بِمَبْلَغِ المالِ الَّذِي عَلَيْهِ ولا يَنْقُصَ مِنهُ شَيْئًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾ والمَعْنى أنَّ مَن عَلَيْهِ الدَّيْنَ إذا لَمْ يَكُنْ إقْرارُهُ مُعْتَبَرًا فالمُعْتَبَرُ هو إقْرارُ ولَيِّهِ.
ثُمَّ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: إدْخالُ حَرْفِ ”أوْ“ بَيْنَ هَذِهِ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ، أعْنِي السَّفِيهَ، والضَّعِيفَ، ومَن لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ يَقْتَضِي كَوْنَها أُمُورًا مُتَغايِرَةً؛ لِأنَّ مَعْناهُ أنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ إذا كانَ مَوْصُوفًا بِإحْدى هَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثِ فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ، فَيَجِبُ في الثَّلاثَةِ أنْ تَكُونَ مُتَغايِرَةً، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ حَمْلُ السَّفِيهِ عَلى الضَّعِيفِ الرَّأْيِ ناقِصِ العَقْلِ مِنَ البالِغِينَ، والضَّعِيفِ عَلى الصَّغِيرِ والمَجْنُونِ والشَّيْخِ الخَرِفِ، وهُمُ الَّذِينَ فَقَدُوا العَقْلَ بِالكُلِّيَّةِ، والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ مَن يَضْعُفُ لِسانُهُ عَنِ الإمْلاءِ لِخَرَسٍ، أوْ جَهْلِهِ بِمالِهِ وما عَلَيْهِ، فَكُلُّ هَؤُلاءِ لا يَصِحُّ مِنهُمُ الإمْلاءُ والإقْرارُ، فَلا بُدَّ مِن أنْ يَقُومَ غَيْرُهم مَقامَهم، فَقالَ تَعالى: ﴿فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾ والمُرادُ ولِيُّ كُلِّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، لِأنَّ ولِيَّ المَحْجُورِ السَّفِيهِ، ووَلِيَّ الصَّبِيِّ: هو الَّذِي يُقِرُّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، كَما يُقِرُّ بِسائِرِ أُمُورِهِ، وهَذا هو القَوْلُ الصَّحِيحُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُقاتِلٌ والرَّبِيعُ: المُرادُ بِوَلِيِّهِ ولِيُّ الدَّيْنِ يَعْنِي أنَّ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ يُمْلِي وهَذا بِعِيدٌ؛ لِأنَّهُ كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ المُدَّعِي، وإنْ كانَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا، فَأيُّ حاجَةٍ بِنا إلى الكِتابَةِ والإشْهادِ ؟
* * *
النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ الأُمُورِ الَّتِي اعْتَبَرَها اللَّهُ تَعالى في المُدايَنَةِ الإشْهادُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكِتابَةِ هو الِاسْتِشْهادُ لِكَيْ يُتَمَكَّنَ بِالشُّهُودِ عِنْدَ الجُحُودِ مِنَ التَّوَصُّلِ إلى تَحْصِيلِ الحَقِّ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: (اسْتَشْهِدُوا) أيْ أشْهِدُوا يُقالُ: أشْهَدْتُ الرَّجُلَ واسْتَشْهَدْتُهُ بِمَعْنًى، والشَّهِيدانِ هُما الشّاهِدانِ، فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الإضافَةُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن رِجالِكُمْ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: يَعْنِي مِن أهْلِ مِلَّتِكم وهُمُ المُسْلِمُونَ.
والثّانِي: قالَ بَعْضُهم: يَعْنِي الأحْرارَ.
والثّالِثُ: (مِن رِجالِكم) الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهم لِلشَّهادَةِ بِسَبَبِ العَدالَةِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: شَرائِطُ الشَّهادَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، ونَذْكُرُ هَهُنا مَسْألَةً واحِدَةً: وهي أنَّ عِنْدَ شُرَيْحٍ وابْنِ سِيرِينَ وأحْمَدَ تَجُوزُ شَهادَةُ العَبْدِ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما لا تَجُوزُ، حُجَّةُ شُرَيْحٍ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ عامٌّ يَتَناوَلُ العَبِيدَ وغَيْرَهم، والمَعْنى المُسْتَفادُ مِنَ النَّصِّ أيْضًا دالٌّ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّ عَقْلَ الإنْسانِ ودِينَهُ وعَدالَتَهُ تَمْنَعُهُ مِنَ الكَذِبِ، فَإذا شَهِدَ عِنْدَ اجْتِماعِ هَذِهِ الشَّرائِطِ تَأكَّدَ بِهِ قَوْلُ المُدَّعِي، فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا في إحْياءِ حَقِّهِ، والعَقْلُ والدِّينُ والعَدالَةُ لا تَخْتَلِفُ بِسَبِبِ (p-٩٩)الحُرِّيَّةِ والرِّقِّ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ شَهادَةُ العَبِيدِ مَقْبُولَةً. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ فَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ مَن كانَ شاهِدًا الذَّهابُ إلى مَوْضِعِ أداءِ الشَّهادَةِ، ويَحْرُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ الذَّهابِ إلى أداءِ الشَّهادَةِ، فَلَمّا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ كُلَّ مَن كانَ شاهِدًا وجَبَ عَلَيْهِ الذَّهابُ والإجْماعُ دَلَّ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّهابُ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ العَبْدُ شاهِدًا، وهَذا الِاسْتِدْلالُ حَسَنٌ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ مِنهم مَن قالَ: واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمُ الَّذِينَ تَعْتَدُّونَهم لِأداءِ الشَّهادَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلِمَ قُلْتُمْ أنَّ العَبِيدَ كَذَلِكَ ؟
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ وفي ارْتِفاعِ (رَجُلٌ وامْرَأتانِ) أرْبَعَةُ أوْجُهٍ الأوَّلُ: فَلْيَكُنَّ رَجُلٌ وامْرَأتانِ، والثّانِي: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وامْرَأتانِ، والثّالِثُ: فالشّاهِدُ رَجُلٌ وامْرَأتانِ، والرّابِعُ: فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ يَشْهَدُونَ، كُلُّ هَذِهِ التَّقْدِيراتِ جائِزٌ حَسَنٌ، ذَكَرَهاعَلِيُّ بْنُ عِيسى رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى في الطَّلاقِ ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أحَدٍ صالِحًا لِلشَّهادَةِ والفُقَهاءُ قالُوا: شَرائِطُ قَبُولِ الشَّهادَةِ عَشَرَةٌ: أنْ يَكُونَ حُرًّا، بالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عالِمًا بِما شَهِدَ بِهِ، ولَمْ يَجُرَّ بِتِلْكَ الشَّهادَةِ مَنفَعَةً إلى نَفْسِهِ ولا يَدْفَعُ بِها مَضَرَّةً عَنْ نَفْسِهِ، ولا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الغَلَطِ، ولا بِتَرْكِ المُرُوءَةِ، ولا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَداوَةٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ والمَعْنى أنَّ النِّسْيانَ غالِبُ طِباعِ النِّساءِ لِكَثْرَةِ البَرْدِ والرُّطُوبَةِ في أمْزِجَتِهِنَّ، واجْتِماعُ المَرْأتَيْنِ عَلى النِّسْيانِ أبْعَدُ في العَقْلِ مِن صُدُورِ النِّسْيانِ عَلى المَرْأةِ الواحِدَةِ فَأُقِيمَتِ المَرْأتانِ مَقامَ الرَّجُلِ الواحِدِ حَتّى إنَّ إحْداهُما لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْها الأُخْرى فَهَذا هو المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ ثُمَّ فِيها مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ”إنْ تَضِلَّ“ بِكَسْرِ إنْ ”فَتُذَكِّرُ“ بِالرَّفْعِ والتَّشْدِيدِ، ومَعْناهُ الجَزاءُ، مَوْضِعُ ”تَضِلَّ“ جَزْمٌ إلّا أنَّهُ لا يَتَبَيَّنُ في التَّضْعِيفِ، ”فَتُذَكِّرُ“ رُفِعَ لِأنَّ ما بَعْدَ الجَزاءِ مُبْتَدَأٌ، وأمّا سائِرُ القُرّاءِ فَقَرَءُوا بِنَصْبِ ”أنْ“ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: التَّقْدِيرُ: لِأنْ تَضِلَّ، فَحُذِفَ مِنهُ الخافِضُ. والثّانِي: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أيْ إرادَةُ أنْ تَضِلَّ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذا الكَلامُ والإشْهادُ لِلْإذْكارِ لا الإضْلالِ.
قُلْنا: هَهُنا غَرَضانِ: أحَدُهُما: حُصُولُ الإشْهادِ، وذَلِكَ لا يَأْتِي إلّا بِتَذْكِيرِ إحْدى المَرْأتَيْنِ الثّانِيَةَ، والثّانِي: بَيانُ تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ حَتّى يُبَيِّنَ أنَّ إقامَةَ المَرْأتَيْنِ مَقامَ الرَّجُلِ الواحِدِ هو العَدْلُ في القَضِيَّةِ، وذَلِكَ لا يَأْتِي إلّا في ضَلالِ إحْدى المَرْأتَيْنِ، فَإذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ أعْنِي الإشْهادَ وبَيانَ فَضْلِ الرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ مَقْصُودًا، ولا سَبِيلَ إلى ذَلِكَ إلّا بِضَلالِ إحْداهُما وتَذَكُّرِ الأُخْرى، لا جَرَمَ صارَ هَذانِ الأمْرانِ مَطْلُوبَيْنِ، هَذا ما خَطَرَ بِبالِي مِنَ الجَوابِ عَنْ هَذا السُّؤالِ وقْتَ كِتابَةِ هَذا المَوْضِعِ، ولِلنَّحْوِيِّينَ أجْوِبَةٌ أُخْرى ما اسْتَحْسَنْتُها والكُتُبُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْها، واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-١٠٠)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الضَّلالُ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ بِمَعْنى النِّسْيانِ، قالَ تَعالى: ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [النحل: ٨٧] أيْ ذَهَبَ عَنْهم. الثّانِي: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن ضَلَّ في الطَّرِيقِ إذا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ، والوَجْهانِ مُتَقارِبانِ، وقالَ أبُو عَمْرٍو: أصْلُ الضَّلالِ في اللُّغَةِ الغَيْبُوبَةُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ ”فَتُذَكِّرَ“ بِالتَّشْدِيدِ والنَّصْبِ، وقَرَأ حَمْزَةُ بِالتَّشْدِيدِ والرَّفْعِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ والنَّصْبِ، وهُما لُغَتانِ ذَكَّرَ وأذْكَرَ نَحْوُ نَزَّلَ وأنْزَلَ، والتَّشْدِيدُ أكْثَرُ اسْتِعْمالًا، قالَ تَعالى: ﴿فَذَكِّرْ إنَّما أنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [ الغاشِيَةِ: ٢١] ومَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ فَقَدْ جَعَلَ الفِعْلَ مُتَعَدِّيًا بِهَمْزَةِ الأفْعالِ.
وعامَّةُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذا التَّذْكِيرَ والإذْكارَ مِنَ النِّسْيانِ إلّا ما يُرْوى عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ قالَ في قَوْلِهِ: ﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ أنْ تَجْعَلَها ذَكَرًا يَعْنِي أنَّ مَجْمُوعَ شَهادَةِ المَرْأتَيْنِ مِثْلُ شَهادَةِ الرَّجُلِ الواحِدِ، وهَذا الوَجْهُ مَنقُولٌ عَنْ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ، قالَ: إذا شَهِدَتِ المَرْأةُ ثُمَّ جاءَتِ الأُخْرى فَشَهِدَتْ مَعَها أذْكَرَتْها؛ لِأنَّهُما يَقُومانِ مَقامَ رَجُلٍ واحِدٍ وهَذا الوَجْهُ باطِلٌ بِاتِّفاقِ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ، ويَدُلُّ عَلى ضَعْفِهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ النِّساءَ لَوْ بَلَغْنَ ما بَلَغْنَ، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَمْ تَجُزْ شَهادَتُهُنَّ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ فالمَرْأةُ الثّانِيَةُ ما ذَكَّرَتِ الأُولى.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: (فَتُذَكِّرَ) مُقابِلٌ لِما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ فَلَمّا كانَ الضَّلالُ مُفَسَّرًا بِالنِّسْيانِ كانَ الإذْكارُ مُفَسَّرًا بِما يُقابِلُ النِّسْيانَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ - وهو الأصَحُّ - أنَّهُ نَهى الشّاهِدَ عَنِ الِامْتِناعِ عَنْ أداءِ الشَّهادَةِ عِنْدَ احْتِياجِ صاحِبِ الحَقِّ إلَيْها.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ تَحَمُّلُ الشَّهادَةِ عَلى الإطْلاقِ، وهو قَوْلُ قَتادَةَ واخْتِيارُ القَفّالِ، قالَ: كَما أمَرَ الكاتِبَ أنْ لا يَأْبى الكِتابَةَ، كَذَلِكَ أمَرَ الشّاهِدَ أنْ لا يَأْبى عَنْ تَحَمُّلِ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَتَعَلَّقُ بِالآخَرِ، وفي عَدَمِهِما ضَياعُ الحُقُوقِ.
الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ تَحَمُّلُ الشَّهادَةِ إذا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. الرّابِعُ: وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ: أنَّ المُرادَ بِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ التَّحَمُّلُ أوَّلًا، والأداءُ ثانِيًا.
واحْتَجَّ القائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ كَوْنِهِمْ شُهَداءَ، وذَلِكَ لا يَصِحُّ إلّا عِنْدَ أداءِ الشَّهادَةِ، فَأمّا وقْتُ التَّحَمُّلِ فَإنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَلِكَ الوَقْتَ كَوْنُهم شُهَداءَ.
فَإنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذا بِقَوْلِهِ ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ وكَذَلِكَ سَمّاهُ كاتِبًا قَبْلَ أنْ يَكْتُبَ.
قُلْنا: الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْناهُ صارَ مَتْرُوكًا بِالضَّرُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ فَلا يَجُوزُ أنْ نَتْرُكَهُ لِعِلَّةِ ضَرُورَةٍ في تِلْكَ الآيَةِ.
والثّانِي: أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ النَّهْيُ عَنِ الِامْتِناعِ، والأمْرُ بِالفِعْلِ، وذَلِكَ لِلْوُجُوبِ في حَقِّ الكُلِّ، ومَعْلُومٌ أنَّ التَّحَمُّلَ غَيْرُ واجِبٍ عَلى الكُلِّ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وأمّا الأداءُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ فَإنَّهُ واجِبٌ عَلى الكُلِّ، ومُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾ [البقرة: ٢٨٣] فَكانَ هَذا أوْلى.
الثّالِثُ: أنَّ الأمْرَ بِالإشْهادِ يُفِيدُ أمْرَ الشّاهِدِ بِالتَّحَمُّلِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، فَصارَ الأمْرُ بِتَحَمُّلِ الشَّهادَةِ داخِلًا في قَوْلِهِ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ فَكانَ صَرْفُ قَوْلِهِ: ﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ إلى الأمْرِ بِالأداءِ حَمْلًا لَهُ عَلى فائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، فَكانَ ذَلِكَ أوْلى، فَقَدْ ظَهَرَ بِما ذَكَرْنا دَلالَةُ الآيَةِ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى الشّاهِدِ أنْ لا يَمْتَنِعَ مِن إقامَةِ الشَّهادَةِ إذا دُعِيَ إلَيْها.
(p-١٠١)واعْلَمْ أنَّ الشّاهِدَ إمّا أنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، وإمّا أنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ، فَإنْ كانَ مُتَعَيِّنًا وجَبَ عَلَيْهِ أداءُ الشَّهادَةِ، وإنْ كانَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ صارَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلى الكِفايَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَدْ شَرَحْنا دَلالَةَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ شاهِدًا فَلا نُعِيدُهُ.
الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ القَضاءُ بِالشّاهِدِ واليَمِينِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يَجُوزُ، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ عِنْدَ عَدَمِ شَهادَةِ رَجُلَيْنِ شَهادَةَ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ عَلى التَّعْيِينِ، فَلَوْ جَوَّزْنا الِاكْتِفاءَ بِالشّاهِدِ واليَمِينِ لِبَطَلَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ، وحُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّهُ ﷺ قَضى بِالشّاهِدِ واليَمِينِ»، وتَمامُ الكَلامِ فِيهِ مَذْكُورٌ في خِلافِيّاتِ الفِقْهِ.
* * *
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ عِنْدَ المُدايَنَةِ بِالكِتابَةِ أوَّلًا، ثُمَّ بِالإشْهادِ ثانِيًا، أعادَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرى عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، فَأمَرَ بِالكِتابَةِ، فَقالَ: ﴿ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: السَّآمَةُ المَلالُ والضَّجَرُ، يُقالُ: سَئِمْتُ الشَّيْءَ سَأمًا وسَآمَةً، والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ البَعْثُ عَلى الكِتابَةِ قَلَّ المالُ أوْ كَثُرَ، فَإنَّ القَلِيلَ مِنَ المالِ في هَذا الِاحْتِياطِ كالكَثِيرِ، فَإنَّ النِّزاعَ الحاصِلَ بِسَبَبِ القَلِيلِ مِنَ المالِ رُبَّما أدّى إلى فَسادٍ عَظِيمٍ ولَجاجٍ شَدِيدٍ، فَأمَرَ تَعالى في الكَثِيرِ والقَلِيلِ بِالكِتابَةِ، فَقالَ: ﴿ولا تَسْأمُوا﴾ أيْ ولا تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا ثُمَّ تَنْدَمُوا.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلْ تَدْخُلُ الحَبَّةُ والقِيراطُ في هَذا الأمْرِ ؟
قُلْنا: لا لِأنَّ هَذا مَحْمُولٌ عَلى العادَةِ، لَيْسَ في العادَةِ أنْ يَكْتُبُوا التّافِهَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”أنْ“ في مَحَلِّ النَّصْبِ لِوَجْهَيْنِ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مَعَ الفِعْلِ مَصْدَرًا فَتَقْدِيرُهُ: ولا تَسْأمُوا كِتابَتَهُ، وإنْ شِئْتَ بِنَزْعِ الخافِضِ تَقْدِيرُهُ: ولا تَسْأمُوا مِن أنْ تَكْتُبُوهُ إلى أجَلِهِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (أنْ تَكْتُبُوهُ) لا بُدَّ وأنْ يَعُودَ إلى المَذْكُورِ سابِقًا، وهو هَهُنا إمّا الدَّيْنُ وإمّا الحَقُّ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ ”ولا يَسْأمُوا أنْ يَكْتُبُوهُ“ بِالياءِ فِيهِما.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ أنَّ الكِتابَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى هَذِهِ الفَوائِدِ الثَّلاثِ:
الفائِدَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وفي قَوْلِهِ: (ذَلِكم) وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ: (أنْ تَكْتُبُوهُ) لِأنَّهُ في مَعْنى المَصْدَرِ، أيْ ذَلِكَ الكَتْبُ أقْسَطُ. والثّانِي: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَلِكُمُ الَّذِي أمَرْتُكم بِهِ مِنَ الكَتْبِ والإشْهادِ لِأهْلِ الرِّضا ومَعْنى ﴿أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، والقِسْطُ اسْمٌ، والإقْساطُ مَصْدَرٌ، يُقالُ: أقْسَطَ فُلانٌ في الحُكْمِ يُقْسِطُ إقْساطًا إذا عَدَلَ فَهو مُقْسِطٌ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: ٤٢]، ويُقالُ: هو قاسِطٌ إذا جارَ، قالَ تَعالى: ﴿وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ (الجِنِّ: ١٥) وإنَّما كانَ هَذا أعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ مَكْتُوبًا كانَ إلى اليَقِينِ والصِّدْقِ أقْرَبَ، وعَنِ الجَهْلِ والكَذِبِ أبْعَدَ، فَكانَ أعْدَلَ عِنْدَ اللَّهِ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ادْعُوهم لِآبائِهِمْ هو أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحْزابِ: ٥] أيْ أعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وأقْرَبُ إلى الحَقِيقَةِ مِن أنْ تَنْسِبُوهم إلى غَيْرِ آبائِهِمْ.
(p-١٠٢)والفائِدَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ مَعْنى (أقْوَمُ) أبْلَغُ في الِاسْتِقامَةِ، الَّتِي هي ضِدُّ الِاعْوِجاجِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُنْتَصِبَ القائِمَ ضِدُّ المُنْحَنِي المُعْوَجِّ.
فَإنْ قِيلَ: مِمَّ بُنِيَ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، أعْنِي: أقْسَطُ وأقْوَمُ ؟
قُلْنا: يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ أنْ يَكُونا مَبْنِيَّيْنِ مِن أقْسَطَ وأقامَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أقْسَطُ مِن قاسِطٍ، وأقْوَمُ مِن قَوِيمٍ.
واعْلَمْ أنَّ الكِتابَةَ إنَّما كانَتْ أقْوَمَ لِلشَّهادَةِ؛ لِأنَّها سَبَبٌ لِلْحِفْظِ والذِّكْرِ، فَكانَتْ أقْرَبَ إلى الِاسْتِقامَةِ، والفَرْقُ بَيْنَ الفائِدَةِ الأُولى والثّانِيَةِ أنَّ الأُولى: تَتَعَلَّقُ بِتَحْصِيلِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، والثّانِيَةَ: بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيا، وإنَّما قُدِّمَتِ الأُولى عَلى الثّانِيَةِ إشْعارًا بِأنَّ الدِّينَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلى الدُّنْيا.
والفائِدَةُ الثّالِثَةُ: هي قَوْلُهُ: ﴿وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ يَعْنِي أقْرَبُ إلى زَوالِ الشَّكِّ والِارْتِيابِ عَنْ قُلُوبِ المُتَدايِنِينَ، والفَرْقُ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ وهَذا الثّالِثِ، الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ يُشِيرانِ إلى تَحْصِيلِ المَصْلَحَةِ، فالأوَّلُ: إشارَةٌ إلى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، والثّانِي: إشارَةٌ إلى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيا وهَذا الثّالِثُ: إشارَةٌ إلى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وعَنِ الغَيْرِ، أمّا عَنِ النَّفْسِ فَإنَّهُ لا يَبْقى في الفِكْرِ أنَّ هَذا الأمْرَ كَيْفَ كانَ، وهَذا الَّذِي قُلْتُ هَلْ كانَ صِدْقًا أوْ كَذِبًا، وأمّا دَفْعُ الضُّرِّ عَنِ الغَيْرِ فَلِأنَّ ذَلِكَ الغَيْرَ رُبَّما نَسَبَهُ إلى الكَذِبِ والتَّقْصِيرِ فَيَقَعُ في عِقابِ الغِيبَةِ والبُهْتانِ، فَما أحْسَنَ هَذِهِ الفَوائِدَ وما أدْخَلَها في القِسْطِ، وما أحْسَنَ ما فِيها مِنَ التَّرْتِيبِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: (إلّا) فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، والثّانِي: أنَّهُ مُنْقَطِعٌ، أمّا الأوَّلُ فَفِيهِ وجْهانِ الأوَّلُ: أنَّهُ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ البَيْعَ بِالدَّيْنِ قَدْ يَكُونُ إلى أجَلٍ قَرِيبٍ، وقَدْ يَكُونُ إلى أجَلٍ بَعِيدٍ، فَلَمّا أمَرَ بِالكِتابَةِ عِنْدَ المُدايَنَةِ، اسْتَثْنى عَنْها ما إذا كانَ الأجَلُ قَرِيبًا، والتَّقْدِيرُ: إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ إلّا أنْ يَكُونَ الأجَلُ قَرِيبًا، وهو المُرادُ مِنَ التِّجارَةِ الحاضِرَةِ والثّانِي: أنَّ هَذا اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ﴾ وأمّا الِاحْتِمالُ الثّانِي، وهو أنْ يَكُونَ هَذا اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا فالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّهُ إذا كانَتِ التِّجارَةُ حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكم فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوها، فَهَذا يَكُونُ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا، وإنَّما رَخَّصَ تَعالى في تَرْكِ الكِتابَةِ والإشْهادِ في هَذا النَّوْعِ مِنَ التِّجارَةِ، لِكَثْرَةِ ما يَجْرِي بَيْنَ النّاسِ، فَلَوْ تَكَلَّفَ فِيها الكِتابَةَ والإشْهادَ لَشَقَّ الأمْرُ عَلى الخَلْقِ، ولِأنَّهُ إذا أخَذَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَعامِلَيْنِ حَقَّهُ مِن صاحِبِهِ في ذَلِكَ المَجْلِسِ، لَمْ يَكُنْ هُناكَ خَوْفُ التَّجاحُدِ، فَلَمْ يَكُنْ هُناكَ حاجَةٌ إلى الكِتابَةِ والإشْهادِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (أنْ تَكُونَ) فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مِنَ الكَوْنِ بِمَعْنى الحُدُوثِ والوُقُوعِ كَما ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ والثّانِي: قالَ الفَرّاءُ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ (كانَ) هَهُنا ناقِصَةً عَلى أنَّ الِاسْمَ تِجارَةٌ حاضِرَةٌ، والخَبَرَ تُدِيرُونَها، والتَّقْدِيرُ: إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةٌ حاضِرَةٌ دائِرَةً بَيْنَكم.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ عاصِمٌ (تِجارَةً) بِالنَّصْبِ، والباقُونَ بِالرَّفْعِ، أمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فَعَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ، ولا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارِ الِاسْمِ، وفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: التَّقْدِيرُ إلّا أنْ تَكُونَ التِّجارَةُ تِجارَةً حاضِرَةً كِتابَةَ الكِتابِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-١٠٣)
؎بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاءَنا إذا كانَ يَوْمًا ذا كَواكِبَ أشْهَبا
.
أيْ إذا كانَ اليَوْمَ.
وثانِيها: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إلّا أنْ يَكُونَ الأمْرُ والشَّأْنُ تِجارَةً.
وثالِثُها: قالَ الزَّجّاجُ: التَّقْدِيرُ إلّا أنْ تَكُونَ المُدايَنَةُ تِجارَةً حاضِرَةً، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: هَذا غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ المُدايَنَةَ لا تَكُونُ تِجارَةً حاضِرَةً، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ المُدايَنَةَ إذا كانَتْ إلى أجَلِ ساعَةٍ، صَحَّ تَسْمِيَتُها بِالتِّجارَةِ الحاضِرَةِ، فَإنَّ مَن باعَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ في الذِّمَّةِ بِشَرْطِ أنْ تُؤَدّى الدِّرْهَمُ في هَذِهِ السّاعَةِ كانَ ذَلِكَ مُدايَنَةً وتِجارَةً حاضِرَةً، وأمّا القِراءَةُ بِالرَّفْعِ، فالوَجْهُ فِيها ما ذَكَرْناهُ في المَسْألَةِ الثّانِيَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: التِّجارَةُ عِبارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ في المالِ سَواءٌ كانَ حاضِرًا أوْ في الذِّمَّةِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ، يُقالُ: تَجَرَ الرَّجُلَ يَتْجَرُ تِجارَةً فَهو تاجِرٌ، واعْلَمْ أنَّهُ سَواءٌ كانَتِ المُبايَعَةُ بِدَيْنٍ أوْ بِعَيْنٍ، فالتِّجارَةُ تِجارَةٌ حاضِرَةٌ، فَقَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً﴾ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى ظاهِرِهِ، بَلِ المُرادُ مِنَ التِّجارَةِ ما يُتَّجَرُ فِيهِ مِنَ الإبْدالِ، ومَعْنى إدارَتِها بَيْنَهم مُعامَلَتُهم فِيها يَدًا بِيَدٍ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها﴾ مَعْناهُ: لا مَضَرَّةَ عَلَيْكم في تَرْكِ الكِتابَةِ، ولَمْ يُرِدِ الإثْمَ عَلَيْكم لِأنَّهُ لَوْ أرادَ الإثْمَ لَكانَتِ الكِتابَةُ المَذْكُورَةُ واجِبَةً عَلَيْهِمْ، ويَأْثَمُ صاحِبُ الحَقِّ بِتَرْكِها، وقَدْ ثَبَتَ خِلافُ ذَلِكَ وبَيانُ أنَّهُ لا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ في تَرْكِها ما قَدَّمْناهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ قالُوا: المُرادُ أنَّ الكِتابَةَ وإنْ رُفِعَتْ عَنْهم في التِّجارَةِ إلّا أنَّ الإشْهادَ ما رُفِعَ عَنْهم؛ لِأنَّ الإشْهادَ بِلا كِتابَةٍ أخَفُّ مُؤْنَةً، ولِأنَّ الحاجَةَ إذا وقَعَتْ إلَيْها لا يُخافُ فِيها النِّسْيانُ.
واعْلَمْ أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الأمْرِ الإرْشادُ إلى طَرِيقِ الِاحْتِياطِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا نَهْيًا لِلْكاتِبِ والشَّهِيدِ عَنْ إضْرارِ مَن لَهُ الحَقُّ، أمّا الكاتِبُ فَبِأنْ يَزِيدَ أوْ يَنْقُصَ أوْ يَتْرُكَ الِاحْتِياطَ، وأمّا الشَّهِيدُ فَبِأنْ لا يَشْهَدَ أوْ يُشْهِدَ بِحَيْثُ لا يَحْصُلُ مَعَهُ نَفْعٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَهْيًا لِصاحِبِ الحَقِّ عَنْ إضْرارِ الكاتِبِ والشَّهِيدِ، بِأنْ يَضُرَّهُما أوْ يَمْنَعَهُما عَنْ مُهِمّاتِهِما، والأوَّلُ قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ والحَسَنِ وطاوُسٍ وقَتادَةَ، والثّانِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وعَطاءٍ ومُجاهِدٍ.
واعْلَمْ أنَّ كِلا الوَجْهَيْنِ جائِزٌ في اللُّغَةِ، وإنَّما احْتَمَلَ الوَجْهَيْنِ بِسَبَبِ الإدْغامِ الواقِعِ في ”لا يُضارَّ“ أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ أصْلُهُ لا يُضارِرْ، بِكَسْرِ الرّاءِ الأُولى، فَيَكُونُ الكاتِبُ والشَّهِيدُ هُما الفاعِلانِ لِلضِّرارِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ أصْلُهُ لا يُضارَرْ بِفَتْحِ الرّاءِ الأُولى، فَيَكُونُ هُما المَفْعُولَ بِهِما الضِّرارُ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في هَذِهِ السُّورَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ وقَدْ أحْكَمْنا بَيانَ هَذا اللَّفْظِ هُناكَ، والدَّلِيلُ عَلى ما ذَكَرْنا مِنِ احْتِمالِ الوَجْهَيْنِ قِراءَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (ولا يُضارِرْ) بِالإظْهارِ والكَسْرِ، وقِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ (ولا يُضارَرْ) بِالإظْهارِ والفَتْحِ، واخْتارَ الزَّجّاجُ القَوْلَ الأوَّلَ، واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ ﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ قالَ وذَلِكَ لِأنَّ اسْمَ الفِسْقِ بِمَن يُحَرِّفُ الكِتابَةَ وبِمَن يَمْتَنِعُ عَنِ الشَّهادَةِ حَتّى يُبْطِلَ الحَقَّ بِالكُلِّيَّةِ أوْلى مِنهُ بِمَن أضَرَّ الكاتِبَ والشَّهِيدَ ولِأنَّهُ تَعالى قالَ فِيمَن يَمْتَنِعُ عَنْ أداءِ الشَّهادَةِ ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [ البَقَرَةِ: ٢٨٣] والآثِمُ والفاسِقُ مُتَقارِبانِ، واحْتَجَّ مَن نَصَرَ القَوْلَ الثّانِي بِأنَّ هَذا لَوْ كانَ (p-١٠٤)خِطابًا لِلْكاتِبِ والشَّهِيدِ لَقِيلَ: وإنْ تَفْعَلا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكم، وإذا كانَ هَذا خِطابًا لِلَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلى المُدايَنَةِ فالمَنهِيُّونَ عَنِ الضِّرارِ هم واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ وفِيهِ وجْهانِ أحَدُهُما: يُحْتَمَلُ أنَّهُ يُحْمَلُ عَلى هَذا المَوْضِعِ خاصَّةً والمَعْنى: فَإنْ تَفْعَلُوا ما نَهَيْتُكم عَنْهُ مِنَ الضِّرارِ، والثّانِي: أنَّهُ عامٌّ في جَمِيعِ التَّكْلِيفِ، والمَعْنى: وإنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمّا نَهَيْتُكم عَنْهُ أوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمّا أمَرْتُكم بِهِ فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكم، أيْ: خُرُوجٌ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى وطاعَتِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ يَعْنِي فِيما حَذَّرَ مِنهُ هَهُنا، وهو المُضارَّةُ، أوْ يَكُونُ عامًّا، والمَعْنى اتَّقُوا اللَّهَ في جَمِيعِ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ يُعَلِّمُكم ما يَكُونُ إرْشادًا واحْتِياطًا في أمْرِ الدُّنْيا، كَما يُعَلِّمُكم ما يَكُونُ إرْشادًا في أمْرِ الدِّينِ ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ مَصالِحِ الدُّنْيا والآخِرَةِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡیَكۡتُبۡ وَلۡیُمۡلِلِ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا یَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِیهًا أَوۡ ضَعِیفًا أَوۡ لَا یَسۡتَطِیعُ أَن یُمِلَّ هُوَ فَلۡیُمۡلِلۡ وَلِیُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا یَأۡبَ ٱلشُّهَدَاۤءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوۤا۟ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوۤا۟ إِذَا تَبَایَعۡتُمۡۚ وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق