الباحث القرآني
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ كَمْ لَبِثْتَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: فِيهِ وجْهانِ مِنَ القِراءَةِ، قَرَأ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالإدْغامِ والباقُونَ بِالإظْهارِ، فَمَن أدْغَمَ فَلِقُرْبِ المَخْرَجَيْنِ ومَن أظْهَرَ فَلِتَبايُنِ المَخْرَجَيْنِ وإنْ كانا قَرِيبَيْنِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو اللَّهُ تَعالى وإنَّما عُرِفَ أنَّ هَذا الخِطابَ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ ذَلِكَ الخِطابَ كانَ مَقْرُونًا بِالمُعْجِزِ، ولِأنَّهُ بَعْدَ الإحْياءِ شاهَدَ مِن أحْوالِ حِمارِهِ وظُهُورِ البِلى في عِظامِهِ ما عَرَفَ بِهِ أنَّ تِلْكَ الخَوارِقَ لَمْ تَصْدُرْ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ إشْكالٌ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ عالِمًا بِأنَّهُ كانَ مَيِّتًا، وكانَ عالِمًا بِأنَّ المَيِّتَ لا يُمْكِنُهُ بَعْدَ أنْ صارَ حَيًّا أنْ يَعْلَمَ أنَّ مُدَّةَ مَوْتِهِ كانَتْ طَوِيلَةً أمْ قَصِيرَةً، فَمَعَ ذَلِكَ لِأيِّ حِكْمَةٍ سَألَهُ عَنْ مِقْدارِ تِلْكَ المُدَّةِ ؟ .
والجَوابُ عَنْهُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا السُّؤالِ التَّنْبِيهُ عَلى حُدُوثِ ما حَدَثَ مِنَ الخَوارِقِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فَفِيهِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ هَذا التَّرْدِيدَ ؟ .
الجَوابُ: أنَّ المَيِّتَ طالَتْ مُدَّةُ مَوْتِهِ أوْ قَصُرَتْ فالحالُ واحِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، فَأجابَ بِأقَلِّ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَيِّتًا لِأنَّهُ اليَقِينُ، وفي التَّفْسِيرِ أنَّ إماتَتَهُ كانَتْ في أوَّلِ النَّهارِ، فَقالَ: (يَوْمًا) ثُمَّ لَمّا نَظَرَ إلى ضَوْءِ (p-٣٠)الشَّمْسِ باقِيًا عَلى رُءُوسِ الجُدْرانِ فَقالَ: ﴿أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ .
السُّؤالُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا كانَ اللُّبْثُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ قالَ: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ ألَيْسَ هَذا يَكُونُ كَذِبًا ؟ .
والجَوابُ: أنَّهُ قالَ ذَلِكَ عَلى حَسَبِ الظَّنِّ، ولا يَكُونُ مُؤاخَذًا بِهَذا الكَذِبِ، ونَظِيرُهُ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ أنَّهم قالُوا: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكَهْفِ: ١٩] عَلى ما تَوَهَّمُوهُ ووَقَعَ عِنْدَهم، وأيْضًا قالَ إخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ياأبانا إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إلّا بِما عَلِمْنا﴾ [يُوسُفَ: ٨١] وإنَّما قالُوا ذَلِكَ بِناءً عَلى الأمارَةِ مِن إخْراجِ الصُّواعِ مِن رَحْلِهِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: هَلْ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كانَ بِسَبَبِ المَوْتِ، أوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بِسَبَبِ المَوْتِ ؟ .
الجَوابُ: الأظْهَرُ أنَّهُ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كانَ بِسَبَبِ المَوْتِ، وذَلِكَ لِأنَّ الغَرَضَ الأصْلِيَّ في إماتَتِهِ ثُمَّ إحْيائِهِ بَعْدَ مِائَةِ عامٍ أنْ يُشاهِدَ الإحْياءَ بَعْدَ الإماتَةِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا إذا عَرَفَ أنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كانَ بِسَبَبِ المَوْتِ، وهو أيْضًا قَدْ شاهَدَ إمّا في نَفْسِهِ أوْ في حِمارِهِ أحْوالًا دالَّةً عَلى أنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ كانَ بِسَبَبِ المَوْتِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ فالمَعْنى ظاهِرٌ، وقِيلَ: العامُ أصْلُهُ مِنَ العَوْمِ الَّذِي هو السِّباحَةُ، لِأنَّ فِيهِ سَبْحًا طَوِيلًا لا يُمْكِّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في إثْباتِ الهاءِ في الوَصْلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ و(اقْتَدِهْ) [ الأنْعامِ: ٩٠] و(مالِيَهْ) [الحاقة: ٢٨] و(سُلْطانِيَهْ) [الحاقة: ٢٩] و(ما هِيَهْ) [القارِعَةِ: ١٠] بَعْدَ أنِ اتَّفَقُوا عَلى إثْباتِها في الوَقْفِ، فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ هَذِهِ الحُرُوفَ كُلَّها بِإثْباتِ الهاءِ في الوَصْلِ، وكانَ حَمْزَةُ يَحْذِفُهُنَّ في الوَصْلِ وكانَ الكِسائِيُّ يَحْذِفُ الهاءَ في الوَصْلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ و(اقْتَدِهْ) [الأنْعامِ: ٩٠] ويُثْبِتُها في الوَصْلِ في الباقِي، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في قَوْلِهِ: ﴿لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ولَمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ﴾ [الحاقَّةِ: ٢٥، ٢٦] أنَّها بِالهاءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: أمّا الحَذْفُ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّ اشْتِقاقَ قَوْلِهِ (يَتَسَنَّهْ) مِنَ السَّنَةِ، زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ أنَّ أصْلَ السَّنَةِ سَنَوَةٌ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهم يَقُولُونَ في الِاشْتِقاقِ مِنها أسَنَّتِ القَوْمَ إذا أصابَتْهُمِ السَّنَةُ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎ورِجالُ مَكَّةَ مِسْنِتُونَ عِجافُ
ويَقُولُونَ في جَمْعِها: سَنَواتٌ، وفي الفِعْلِ مِنها: سانَيْتُ الرَّجُلَ مُساناةً إذا عامَلَهُ سَنَةً سَنَةً، وفي التَّصْغِيرِ: سُنَيَّةٌ. إذا ثَبَتَ هَذا كانَ الهاءُ في قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لِلسَّكْتِ لا لِلْأصْلِ.
وثانِيها: نَقَلَ الواحِدِيُّ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ قالَ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ أصْلُ سَنَةٍ سَنَنَةً، لِأنَّهم قالُوا في تَصْغِيرِها: سُنَيْنَةٌ وإنْ كانَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أصْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّنْ، ثُمَّ أُسْقِطَتِ النُّونُ الأخِيرَةُ ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْها هاءُ السَّكْتِ عِنْدَ الوَقْفِ عَلَيْهِ، كَما أنَّ أصْلَ لَمْ يَتَقَضَّ البازِيُّ لَمْ يَتَقَضَّضِ البازِيُّ ثُمَّ أُسْقِطَتِ الضّادُ الأخِيرَةُ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ هاءُ (p-٣١)السَّكْتِ عِنْدَ الوَقْفِ، فَيُقالُ: لَمْ يَتَقَضَّهْ.
وثالِثُها: أنْ يَكُونَ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ مَأْخُوذًا مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحِجْرِ: ٢٦] والسِّنُّ في اللُّغَةِ هو الصَّبُّ، هَكَذا قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، فَقَوْلُهُ: لَمْ يَتَسَنَّنْ، أيِ: الشَّرابُ بَقِيَ بِحالِهِ لَمْ يَنْضُبْ، وقَدْ أتى عَلَيْهِ مِائَةُ عامٍ، ثُمَّ إنَّهُ حُذِفَتِ النُّونُ الأخِيرَةُ وأُبْدِلَتْ بِهاءِ السَّكْتِ عِنْدَ الوَقْفِ عَلى ما قَرَّرْناهُ في الوَجْهِ الثّانِي، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ لِبَيانِ الحَذْفِ، وأمّا بَيانُ الإثْباتِ فَهو أنَّ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، والسَّنَةُ أصْلُها سَنْهَةٌ، بِدَلِيلِ أنَّهُ يُقالُ في تَصْغِيرِها: سُنَيْهَةٌ، ويُقالُ: سانَهَتِ النَّخْلَةُ بِمَعْنى عاوَمَتْ، وآجَرْتُ الدّارَ مُسانَهَةً، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالهاءُ في ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لامُ الفِعْلِ، فَلا جَرَمَ لَمْ يُحْذَفِ البَتَّةَ لا عِنْدَ الوَصْلِ ولا عِنْدَ الوَقْفِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أيْ: لَمْ يَتَغَيَّرْ وأصْلُ مَعْنى ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أيْ: لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ السُّنُونَ لِأنَّ مَرَّ السِّنِينَ إذا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَأنَّها لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ، ونَقَلْنا عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ: لَمْ يَتَسَنَّنْ أيْ: لَمْ يَنْضُبِ الشَّرابُ. بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ كانَ مِن حَقِّهِ أنْ يَذْكُرَ عَقِيبَهُ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عامٍ، بَلْ يَدُلُّ ظاهِرًا عَلى ما قالَهُ مِن أنَّهُ لَبِثَ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
والجَوابُ: أنَّهُ كُلَّما كانَتِ الشُّبْهَةُ أقْوى مَعَ عِلْمِ الإنْسانِ في الجُمْلَةِ أنَّها شُبْهَةٌ كانَ سَماعُ الدَّلِيلِ المُزِيلِ لِتِلْكَ الشُّبْهَةِ آكَدَ ووُقُوعُهُ في العَمَلِ أكْمَلَ، فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ قالَ: ﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ فَإنَّ هَذا مِمّا يُؤَكِّدُ قَوْلَكَ: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ اشْتِياقُكَ إلى الدَّلِيلِ الَّذِي يَكْشِفُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ فَرَأى الحِمارَ صارَ رَمِيمًا وعِظامًا نَخِرَةً فَعَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ الطَّعامَ والشَّرابَ يُسْرِعُ التَّغَيُّرُ فِيهِما، والحِمارُ رُبَّما بَقِيَ دَهْرًا طَوِيلًا وزَمانًا عَظِيمًا، فَرَأى ما لا يَبْقى باقِيًا، وهو الطَّعامُ والشَّرابُ، وما يَبْقى غَيْرَ باقٍ وهو العِظامُ، فَعَظُمَ تَعَجُّبُهُ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وتَمَكُّنُ وُقُوعِ هَذِهِ الحُجَّةِ في عَقْلِهِ وفي قَلْبِهِ.
السُّؤالُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الطَّعامَ والشَّرابَ، وقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ راجِعٌ إلى الشَّرابِ لا إلى الطَّعامِ.
والجَوابُ: كَما يُوصَفُ الشَّرابُ بِأنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، كَذَلِكَ يُوصَفُ الطَّعامُ بِأنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ، لا سِيَّما إذا كانَ الطَّعامُ لَطِيفًا يَتَسارَعُ الفَسادُ إلَيْهِ، والمَرْوِيُّ أنَّ طَعامَهُ كانَ التِّينَ والعِنَبَ، وشَرابُهُ كانَ عَصِيرَ العِنَبِ واللَّبَنَ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ”وانْظُرْ إلى طَعامِكَ وهَذا شَرابُكَ لَمْ يَتَسَنَّنْ“ .
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ عَرَفَهُ طُولَ مُدَّةَ مَوْتِهِ بِأنْ شاهَدَ عِظامَ حِمارِهِ نَخِرَةً رَمِيمَةً، وهَذا في الحَقِيقَةِ لا يَدُلُّ بِذاتِهِ، لِأنَّهُ لَمّا شاهَدَ انْقِلابَ العِظامِ النَّخِرَةِ حَيًّا في الحالِ عَلِمَ أنَّ القادِرَ عَلى ذَلِكَ قادِرٌ عَلى أنْ يُمِيتَ الحِمارَ في الحالِ ويَجْعَلَ عِظامَهُ رَمِيمَةً نَخِرَةً في الحالِ، وحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلالُ بِعِظامِ الحِمارِ عَلى طُولِ مُدَّةِ المَوْتِ، بَلِ انْقِلابُ عِظامِ الحِمارِ إلى الحَياةِ مُعْجِزَةٌ دالَّةٌ عَلى صِدْقِ ما سُمِعَ مِن قَوْلِهِ: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ قالَ الضَّحّاكُ: مَعْنى قَوْلِهِ أنَّهُ لَمّا أُحْيِيَ بَعْدَ المَوْتِ كانَ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ البَعْثِ، وقالَ غَيْرُهُ: كانَ آيَةً لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أحْياهُ شابًّا أسْوَدَ الرَّأْسِ، وبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ بِيضُ اللِّحى والرُّءُوسِ.
(p-٣٢)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِنهُ التَّشْرِيفُ والتَّعْظِيمُ والوَعْدُ بِالدَّرَجَةِ العالِيَةِ في الدِّينِ والدُّنْيا، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِمَن ماتَ عَلى الكُفْرِ والشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى.
فَإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ الواوِ في قَوْلِهِ: (ولِنَجْعَلَكَ) ؟ قُلْنا: قالَ الفَرّاءُ: دَخَلَتِ الواوُ لِأنَّهُ فَعَلَ بَعْدَها مُضْمَرٌ، لِأنَّهُ لَوْ قالَ: وانْظُرْ إلى حِمارِكَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً، كانَ النَّظَرُ إلى الحِمارِ شَرْطًا، وجَعْلُهُ آيَةً جَزاءً، وهَذا المَعْنى غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِن هَذا الكَلامِ، أمّا لَمّا قالَ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً﴾ كانَ المَعْنى: ولِنَجْعَلَكَ آيَةً فَعَلْنا ما فَعَلْنا مِنَ الإماتَةِ والإحْياءِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنْعامِ: ١٥] والمَعْنى: ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ صَرَّفْنا الآياتِ ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنْعامِ: ٧٥] أيْ: ونُرِيَهُ المَلَكُوتَ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وانْظُرْ إلى العِظامِ﴾ فَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالعِظامِ عِظامُ حِمارِهِ، فَإنَّ اللّامَ فِيهِ بَدَلُ الكِنايَةِ، وقالَ آخَرُونَ: أرادُوا بِهِ عِظامَ هَذا الرَّجُلِ نَفْسِهِ، قالُوا: إنَّهُ تَعالى أحْيا رَأْسَهُ وعَيْنَيْهِ، وكانَتْ بَقِيَّةُ بَدَنِهِ عِظامًا نَخِرَةً، فَكانَ يَنْظُرُ إلى أجْزاءِ عِظامِ نَفْسِهِ فَرَآها تَجْتَمِعُ ويَنْضَمُّ البَعْضُ إلى البَعْضِ، وكانَ يَرى حِمارَهُ واقِفًا كَما رَبَطَهُ حِينَ كانَ حَيًّا لَمْ يَأْكُلْ ولَمْ يَشْرَبْ مِائَةَ عامٍ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ عَلى هَذا الوَجْهِ: وانْظُرْ إلى عِظامِكَ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ والرَّبِيعِ وابْنِ زَيْدٍ، وهو عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ إنَّما يَلِيقُ بِمَن لا يَرى أثَرَ التَّغَيُّرِ في نَفْسِهِ فَيَظُنُّ أنَّهُ كانَ نائِمًا في بَعْضِ يَوْمٍ، أمّا مَن شاهَدَ أجْزاءَ بَدَنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وعِظامَ بَدَنَةٍ رَمِيمَةٍ نَخِرَةٍ، فَلا يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ القَوْلُ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهُ أنَّهُ خاطَبَهُ وأجابَ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المُجِيبُ هو الَّذِي أماتَهُ اللَّهُ، فَإذا كانَتِ الإماتَةُ راجِعَةً إلى كُلِّهِ، فالمُجِيبُ أيْضًا الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ جُمْلَةَ الشَّخْصِ.
وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ تِلْكَ الجُمْلَةَ أحْياها وبَعَثَها.
أمّا قَوْلُهُ: (كَيْفَ نُنْشِرُها) فالمُرادُ يُحْيِيها، يُقالُ: أنْشَرَ اللَّهُ المَيِّتَ ونَشَرَهُ، قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ إذا شاءَ أنْشَرَهُ﴾ [عَبَسَ: ٢٢ ] وقَدْ وصَفَ اللَّهُ العِظامَ بِالإحْياءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ ﴿قُلْ يُحْيِيها﴾ [يس: ٧٨، ٧٩] وقُرِئَ ”نَنْشُرُها“ بِفَتْحِ النُّونِ وضَمِّ الشِّينِ، قالَ الفَرّاءُ: كَأنَّهُ ذَهَبَ إلى النَّشْرِ بَعْدَ الطَّيِّ، وذَلِكَ أنَّ بِالحَياةِ يَكُونُ الِانْبِساطُ في التَّصَرُّفِ، فَهو كَأنَّهُ مَطْوِيٌّ ما دامَ مَيِّتًا، فَإذا عادَ صارَ كَأنَّهُ نُشِرَ بَعْدَ الطَّيِّ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”نُنْشِزُها“ بِالزّايِ المَنقُوطَةِ مِن فَوْقُ، والمَعْنى نَرْفَعُ بَعْضَها إلى بَعْضٍ، وإنْشازُ الشَّيْءِ رَفْعُهُ، يُقالُ أنَشَزْتُهُ فَنَشَزَ، أيْ: رَفَعْتُهُ فارْتَفَعَ، ويُقالُ لِما ارْتَفَعَ مِنَ الأرْضِ نَشَزَ، ومِنهُ نُشُوزُ المَرْأةِ، وهو أنْ تَرْتَفِعَ عَنْ حَدِّ رِضا الزَّوْجِ، ومَعْنى الآيَةِ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ: كَيْفَ نَرْفَعُها مِنَ الأرْضِ فَنَرُدَّها إلى أماكِنِها مِنَ الجَسَدِ ونُرَكِّبَ بَعْضَها عَلى البَعْضِ، ورُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ”نَنْشُزُها“ بِفَتْحِ النُّونِ وضَمِّ الشِّينِ والزّايِ، ووَجْهُهُ ما قالَ الأخْفَشُ أنَّهُ يُقالُ: نَشَزْتُهُ وأنْشَزْتُهُ أيْ: رَفَعْتُهُ. والمَعْنى مِن جَمِيعِ القِراءاتِ أنَّهُ تَعالى رَكَّبَ العِظامَ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ حَتّى اتَّصَلَتْ عَلى نِظامٍ، ثُمَّ بَسَطَ اللَّحْمَ عَلَيْها، ونَشَرَ العُرُوقَ والأعْصابَ واللُّحُومَ والجُلُودَ عَلَيْها، ورَفَعَ بَعْضَهُ إلى جَنْبِ البَعْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ القِراءاتِ داخِلًا في ذَلِكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ وهَذا راجِعٌ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ (p-٣٣)والمَعْنى: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ وُقُوعُ ما كانَ يَسْتَبْعِدُ وُقُوعَهُ. وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: فاعِلُ ”تَبَيَّنَ لَهُ“ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قالَ: ﴿أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَحُذِفَ الأوَّلُ لِدَلالَةِ الثّانِي عَلَيْهِ، وهَذا عِنْدِي فِيهِ تَعَسُّفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أنَّهُ لَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أمْرُ الإماتَةِ والإحْياءِ عَلى سَبِيلِ المُشاهَدَةِ قالَ: ﴿أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وتَأْوِيلُهُ: أنِّي قَدْ عَلِمْتُ مُشاهَدَةَ ما كُنْتُ أعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلالِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”قالَ اعْلَمْ“ عَلى لَفْظِ الأمْرِ، وفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ عِنْدَ التَّبَيُّنِ أمَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، قالَ الأعْشى:
؎ودِّعْ أُمامَةَ إنَّ الرَّكْبَ قَدْ رَحَلُوا
والثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ والأعْمَشِ: (قِيلَ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ويُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ: ﴿رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى﴾ ثُمَّ قالَ في آخِرِها: ﴿واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قالَ القاضِي: والقِراءَةُ الأُولى أوْلى، وذَلِكَ لِأنَّ الأمْرَ بِالشَّيْءِ إنَّما يَحْسُنُ عِنْدَ عَدَمِ المَأْمُورِ بِهِ، وهَهُنا العِلْمُ حاصِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ فَكانَ الأمْرُ بِتَحْصِيلِ العِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ جائِزٍ، أمّا الإخْبارُ عَنْ أنَّهُ حَصَلَ كانَ جائِزًا.
{"ayah":"أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق