الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ إذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ قالَ أنا أُحْيِي وأُمِيتُ قالَ إبْراهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانْظُرْ إلى حِمارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَهُنا قِصَصًا ثَلاثَةً: الأُولى مِنها في بَيانِ إثْباتِ العِلْمِ بِالصّانِعِ، والثّانِيَةُ والثّالِثَةُ في إثْباتِ الحَشْرِ والنَّشْرِ والبَعْثِ، والقِصَّةُ الأُولى مُناظَرَةُ إبْراهِيمَ ﷺ مَعَ مَلِكِ زَمانِهِ وهي هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها، فَنَقُولُ: أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ فَهي كَلِمَةٌ يُوقَفُ بِها المُخاطَبُ عَلى تَعَجُّبٍ مِنها، ولَفْظُها لَفْظُ الِاسْتِفْهامِ (p-٢٠)وهِيَ كَما يُقالُ: ألَمْ تَرَ إلى فُلانٍ كَيْفَ يَصْنَعُ، مَعْناهُ: هَلْ رَأيْتَ كَفُلانٍ في صُنْعِهِ كَذا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ﴾ فَقالَ مُجاهِدٌ: هو نَمْرُوذُ بْنُ كَنْعانَ، وهو أوَّلُ مَن تَجَبَّرَ وادَّعى الرُّبُوبِيَّةَ، واخْتَلَفُوا في وقْتِ هَذِهِ المُحاجَّةِ قِيلَ: إنَّهُ عِنْدَ كَسْرِ الأصْنامِ قَبْلَ الإلْقاءِ في النّارِ عَنْ مُقاتِلٍ، وقِيلَ: بَعْدَ إلْقائِهِ في النّارِ. والمُحاجَّةُ المُغالَبَةُ، يُقالُ: حاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ، أيْ: غالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فِي رَبِّهِ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ إلى إبْراهِيمَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَرْجِعَ إلى الطّاعِنِ، والأوَّلُ أظْهَرُ، كَما قالَ: ﴿وحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أتُحاجُّونِّي في اللَّهِ﴾ [الأنْعامِ: ٨٠] والمَعْنى وحاجَّهُ قَوْمُهُ في رَبِّهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الهاءَ في آتاهُ عائِدٌ إلى إبْراهِيمَ، يَعْنِي أنَّ اللَّهَ تَعالى آتى إبْراهِيمَ ﷺ المُلْكَ، واحْتَجُّوا عَلى هَذا القَوْلِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النِّساءِ: ٥٤] أيْ: سُلْطانًا بِالنُّبُوَّةِ، والقِيامِ بِدِينِ اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لا يَجُوزُ أنْ يُؤْتِيَ المُلْكَ الكُفّارَ، ويَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ. والثّالِثُ: أنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى أقْرَبِ المَذْكُورِينَ واجِبٌ، وإبْراهِيمُ أقْرَبُ المَذْكُورِينَ إلى هَذا الضَّمِيرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا الضَّمِيرُ عائِدًا إلَيْهِ. والقَوْلُ الثّانِي، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى ذَلِكَ الإنْسانِ الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ. وأجابُوا عَنِ الحُجَّةِ الأُولى بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى حُصُولِ المُلْكِ لِآلِ إبْراهِيمَ، ولَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى حُصُولِ المُلْكِ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وعَنِ الحُجَّةِ الثّانِيَةِ بِأنَّ المُرادَ مِنَ المُلْكِ هَهُنا التَّمَكُّنُ والقُدْرَةُ والبَسْطَةُ في الدُّنْيا، والحِسُّ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يُعْطِي الكافِرَ هَذا المَعْنى، وأيْضًا فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى أعْطاهُ المُلْكَ حالَ ما كانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعالى ؟ . وعَنِ الحُجَّةِ الثّالِثَةِ بِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وإنْ كانَ أقْرَبَ المَذْكُورِينَ إلّا أنَّ الرِّواياتِ الكَثِيرَةَ وارِدَةٌ بِأنَّ الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ كانَ هو المَلِكَ، فَعَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ أوْلى مِن هَذِهِ الجِهَةِ. ثُمَّ احْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ عَلى مَذْهَبِهِمْ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلاتٍ ثَلاثَةً، وكُلُّ واحِدٍ مِنها إنَّما يَصِحُّ إذا قُلْنا: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى المُلْكِ لا إلى إبْراهِيمَ، وأحَدُ تِلْكَ التَّأْوِيلاتِ أنْ يَكُونَ المَعْنى حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ لِأجْلِ أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ، عَلى مَعْنى أنَّ إيتاءَ المُلْكِ أبْطَرَهُ وأوْرَثَهُ الكِبَرَ والعُتُوَّ فَحاجَّ لِذَلِكَ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا إنَّما يَلِيقُ بِالمَلِكِ العاتِي، والتَّأْوِيلُ الثّانِي أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهُ جَعَلَ مُحاجَّتَهُ في رَبِّهِ شُكْرًا عَلى أنْ آتاهُ رَبُّهُ المُلْكَ، كَما يُقالُ: عادانِي فُلانٌ لِأنِّي أحْسَنْتُ إلَيْهِ، يُرِيدُ أنَّهُ عَكَسَ ما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ المُوالاةِ لِأجْلِ الإحْسانِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقِعَةِ: ٨٢] وهَذا التَّأْوِيلُ أيْضًا لا يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إظْهارُ المُحاجَّةِ قَبْلَ حُصُولِ المُلْكِ وبَعْدَهُ، أمّا المَلِكُ العاتِي فَإنَّهُ لا يَلِيقُ بِهِ إظْهارُ هَذا العُتُوِّ الشَّدِيدِ إلّا بَعْدَ أنْ يَحْصُلَ المُلْكُ العَظِيمُ لَهُ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ لِقَوْلِهِ: ﴿أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ مَعْنًى وتَأْوِيلٌ إلّا إذا حَمَلْناهُ عَلى المَلِكِ العاتِي. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ بَيانُ كَمالِ حالِ إبْراهِيمَ ﷺ في إظْهارِ الدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ الحَقِّ، ومَتى كانَ الكافِرُ سُلْطانًا مَهِيبًا، وإبْراهِيمُ ما كانَ مَلِكًا، كانَ هَذا المَعْنى أتَمَّ مِمّا إذا كانَ إبْراهِيمُ مَلِكًا، ولَمّا كانَ الكافِرُ مَلِكًا، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى ما ذَكَرْنا. (p-٢١)الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: ما ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، وهو أنَّ إبْراهِيمَ ﷺ لَوْ كانَ هو المَلِكَ لَما قَدَرَ الكافِرُ أنْ يَقْتُلَ أحَدَ الرَّجُلَيْنِ ويَسْتَبْقِيَ الآخَرَ، بَلْ كانَ إبْراهِيمُ ﷺ يَمْنَعُهُ مِنهُ أشَدَّ مَنعٍ، بَلْ كانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كالمَلْجَأِ إلى أنْ لا يَفْعَلَ ذَلِكَ، قالَ القاضِي: هَذا الِاسْتِدْلالُ ضَعِيفٌ، لِأنَّهُ مِنَ المُحْتَمَلِ أنْ يُقالَ: إنَّ إبْراهِيمَ ﷺ كانَ مَلِكًا وسُلْطانًا في الدِّينِ والتَّمَكُّنِ مِن إظْهارِ المُعْجِزاتِ، وذَلِكَ الكافِرُ كانَ مَلِكًا مُسَلَّطًا قادِرًا عَلى الظُّلْمِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ أمْكَنَهُ قَتْلُ أحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وأيْضًا فَيَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّما قَتَلَ أحَدَ الرَّجُلَيْنِ قَوْدًا، وكانَ الِاخْتِيارُ إلَيْهِ، واسْتَبْقى الآخَرَ، إمّا لِأنَّهُ لا قَتْلَ عَلَيْهِ أوْ بَذَلَ الدِّيَةَ واسْتَبْقاهُ. وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿أنا أُحْيِي﴾ خَبَرٌ ووَعْدٌ، ولا دَلِيلَ في القُرْآنِ عَلى أنَّهُ فَعَلَهُ، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الظّاهِرُ أنَّ هَذا جَوابُ سُؤالٍ سابِقٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وذَلِكَ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بُعِثُوا لِلدَّعْوَةِ، والظّاهِرُ أنَّهُ مَتى ادَّعى الرِّسالَةَ، فَإنَّ المُنْكِرَ يُطالِبُهُ بِإثْباتِ أنَّ لِلْعالَمِ إلَهًا، ألا تَرى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ: ﴿إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٦]، قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٣] فاحْتَجَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى إثْباتِ الإلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٤] فَكَذا هَهُنا الظّاهِرُ أنَّ إبْراهِيمَ ادَّعى الرِّسالَةَ، فَقالَ نَمْرُوذُ: مَن رَبُّكَ ؟ فَقالَ إبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ، إلّا أنَّ تِلْكَ المُقَدِّمَةَ حُذِفَتْ، لِأنَّ الواقِعَةَ تَدُلُّ عَلَيْها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلِيلُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ في غايَةِ الصِّحَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى إلّا بِواسِطَةِ أفْعالِهِ الَّتِي لا يُشارِكُهُ فِيها أحَدٌ مِنَ القادِرِينَ، والإحْياءُ والإماتَةُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الخَلْقَ عاجِزُونَ عَنْهُما، والعِلْمُ بَعْدَ الِاخْتِيارِ ضَرُورِيٌّ، فَلا بُدَّ مِن مُؤَثِّرٍ آخَرَ غَيْرِ هَؤُلاءِ القادِرِينَ الَّذِينَ تَراهم، وذَلِكَ المُؤَثِّرُ إمّا أنْ يَكُونَ مُوجِبًا أوْ مُخْتارًا، والأوَّلُ باطِلٌ، لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِن دَوامِهِ دَوامُ الأثَرِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ لا يَتَبَدَّلَ الإحْياءُ بِالإماتَةِ، وأنْ لا تَتَبَدَّلَ الإماتَةُ بِالإحْياءِ، والثّانِي وهو أنّا نَرى في الحَيَوانِ أعْضاءً مُخْتَلِفَةً في الشَّكْلِ والصِّفَةِ والطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ، وتَأْثِيرُ المُؤَثِّرِ المُوجِبِ بِالذّاتِ لا يَكُونُ كَذَلِكَ فَعَلِمْنا أنَّهُ لا بُدَّ في الإحْياءِ والإماتَةِ مِن وُجُودٍ آخَرَ يُؤَثِّرُ عَلى سَبِيلِ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ في إحْياءِ هَذِهِ الحَيَواناتِ وفي إماتَتِها، وذَلِكَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وهو دَلِيلٌ مَتِينٌ قَوِيٌّ ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في مَواضِعَ في كِتابِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١٢] إلى آخِرِهِ، وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التِّينِ: ٤، ٥] وقالَ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [المُلْكِ: ٢] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ تَعالى قَدَّمَ المَوْتَ عَلى الحَياةِ في آياتٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨] وقالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [المُلْكِ: ٢] وحُكِيَ عَنْ إبْراهِيمَ أنَّهُ قالَ في ثَنائِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى: ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشُّعَراءِ: ٨١] فَلِأيِّ سَبَبٍ قُدِّمَ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ الحَياةِ عَلى المَوْتِ، حَيْثُ قالَ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٨] ؟ . والجَوابُ: لِأنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ الدَّلِيلِ إذا كانَ هو الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ تَعالى وجَبَ أنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ في (p-٢٢)غايَةِ الوُضُوحِ، ولا شَكَّ أنَّ عَجائِبَ الخِلْقَةِ حالَ الحَياةِ أكْثَرُ، واطِّلاعَ الإنْسانِ عَلَيْها أتَمُّ، فَلا جَرَمَ وجَبَ تَقْدِيمُ الحَياةِ هَهُنا في الذِّكْرِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ أنا أُحْيِي وأُمِيتُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: يُرْوى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا احْتَجَّ بِتِلْكَ الحُجَّةِ، دَعا ذَلِكَ المَلِكُ الكافِرُ شَخْصَيْنِ، وقَتَلَ أحَدَهُما، واسْتَبْقى الآخَرَ، وقالَ: أنا أيْضًا أُحْيِي وأُمِيتُ، هَذا هو المَنقُولُ في التَّفْسِيرِ، وعِنْدِي أنَّهُ بَعِيدٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الظّاهِرَ مِن حالِ إبْراهِيمَ أنَّهُ شَرَحَ حَقِيقَةَ الإحْياءِ وحَقِيقَةَ الإماتَةِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْناهُ في الِاسْتِدْلالِ، ومَتى شَرَحَهُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ امْتَنَعَ أنْ يَشْتَبِهَ عَلى العاقِلِ الإماتَةُ والإحْياءُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ بِالإماتَةِ، والإحْياءُ بِمَعْنى القَتْلِ وتَرْكِهِ، ويَبْعُدُ في الجَمْعِ العَظِيمِ أنْ يَكُونُوا في الحَماقَةِ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُونَ هَذا القَدْرَ مِنَ الفَرْقِ، والمُرادُ مِنَ الآيَةِ - واللَّهُ أعْلَمُ - شَيْءٌ آخَرُ، وهو أنَّ إبْراهِيمَ ﷺ لَمّا احْتَجَّ بِالإحْياءِ والإماتَةِ مِنَ اللَّهِ قالَ المُنْكِرُ: تَدَّعِي الإحْياءَ والإماتَةَ مِنَ اللَّهِ ابْتِداءً مِن غَيْرِ واسِطَةِ الأسْبابِ الأرْضِيَّةِ والأسْبابِ السَّماوِيَّةِ، أوْ تَدَّعِي صُدُورَ الإحْياءِ والإماتَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِواسِطَةِ الأسْبابِ الأرْضِيَّةِ والأسْبابِ السَّماوِيَّةِ، أمّا الأوَّلُ: فَلا سَبِيلَ إلَيْهِ، وأمّا الثّانِي: فَلا يَدُلُّ عَلى المَقْصُودِ؛ لِأنَّ الواحِدَ مِنّا يَقْدِرُ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ بِواسِطَةِ سائِرِ الأسْبابِ، فَإنَّ الجِماعَ قَدْ يُفْضِي إلى الوَلَدِ الحَيِّ بِواسِطَةِ الأسْبابِ الأرْضِيَّةِ والسَّماوِيَّةِ، وتَناوُلُ السُّمِّ قَدْ يُفْضِي إلى المَوْتِ. فَلَمّا ذَكَرَ نَمْرُوذُ هَذا السُّؤالَ عَلى هَذا الوَجْهِ أجابَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ قالَ: هَبْ أنَّ الإحْياءَ والإماتَةَ حَصَلا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِواسِطَةِ الِاتِّصالاتِ الفَلَكِيَّةِ إلّا أنَّهُ لا بُدَّ لِتِلْكَ الِاتِّصالاتِ والحَرَكاتِ الفَلَكِيَّةِ مِن فاعِلٍ مُدَبِّرٍ، فَإذا كانَ المُدَبِّرُ لِتِلْكَ الحَرَكاتِ الفَلَكِيَّةِ هو اللَّهُ تَعالى، كانَ الإحْياءُ والإماتَةُ الحاصِلانِ بِواسِطَةِ تِلْكَ الحَرَكاتِ الفَلَكِيَّةِ أيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وأمّا الإحْياءُ والإماتَةُ الصّادِرانِ عَلى البَشَرِ بِواسِطَةِ الأسْبابِ الفَلَكِيَّةِ والعُنْصُرِيَّةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لا قُدْرَةَ لِلْبَشَرِ عَلى الِاتِّصالاتِ الفَلَكِيَّةِ، فَظَهَرَ الفَرْقُ. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ﴾ لَيْسَ دَلِيلًا آخَرَ، بَلْ تَمامُ الدَّلِيلِ الأوَّلِ؛ ومَعْناهُ: أنَّهُ وإنْ كانَ الإحْياءُ والإماتَةُ مِنَ اللَّهِ بِواسِطَةِ حَرَكاتِ الأفْلاكِ، إلّا أنَّ حَرَكاتِ الأفْلاكِ مِنَ اللَّهِ فَكانَ الإحْياءُ والإماتَةُ أيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وأمّا البَشَرُ فَإنَّهُ وإنْ صَدَرَ مِنهُ الإحْياءُ والإماتَةُ بِواسِطَةِ الِاسْتِعانَةِ بِالأسْبابِ السَّماوِيَّةِ والأرْضِيَّةِ إلّا أنَّ الأسْبابَ لَيْسَتْ واقِعَةً بِقُدْرَتِهِ، فَثَبَتَ أنَّ الإحْياءَ والإماتَةَ الصّادِرَيْنِ عَنِ البَشَرِ لَيْسَتْ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ، وأنَّهُ لا يَصْلُحُ نَقْضًا عَلَيْهِ، فَهَذا هو الَّذِي أعْتَقِدُهُ في كَيْفِيَّةِ جَرَيانِ هَذِهِ المُناظَرَةِ، لا ما هو المَشْهُورُ عِنْدَ الكُلِّ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أجْمَعَ القُرّاءُ عَلى إسْقاطِ ألِفِ ”أنا“ في الوَصْلِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، إلّا ما رُوِيَ عَنْ نافِعٍ مِن إثْباتِهِ عِنْدَ اسْتِقْبالِ الهَمْزَةِ، والصَّحِيحُ ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ؛ لِأنَّ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ هو ”أنَ“ وهو الهَمْزَةُ والنُّونُ، فَأمّا الألِفُ فَإنَّما تَلْحَقُها في الوَقْفِ كَما تَلْحَقُ الهاءَ في سُكُوتِهِ لِلْوَقْفِ، وكَما أنَّ هَذِهِ الهاءَ تَسْقُطُ عِنْدَ الوَصْلِ، فَكَذا هَذِهِ الألِفُ تَسْقُطُ عِنْدَ الوَصْلِ؛ لِأنَّ ما يَتَّصِلُ بِهِ يَقُومُ مَقامَهُ، ألا تَرى أنَّ هَمْزَةَ الوَصْلِ إذا اتَّصَلَتِ الكَلِمَةُ الَّتِي هي فِيها بِشَيْءٍ سَقَطَتْ ولَمْ تَثْبُتْ؛ لِأنَّ ما يَتَّصِلُ بِهِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى النُّطْقِ بِما بَعْدَ الهَمْزَةِ فَلا تَثْبُتُ الهَمْزَةُ، فَكَذا الألِفُ في ”أنا“ والهاءُ الَّتِي في الوَقْفِ يَجِبُ سُقُوطُها عِنْدَ الوَصْلِ كَما يَجِبُ سُقُوطُ الهَمْزَةِ عِنْدَ الوَصْلِ. (p-٢٣)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ إبْراهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ لِلنّاسِ في هَذا المَقامِ طَرِيقَيْنِ: الأوَّلُ: وهو طَرِيقَةُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى مِن نَمْرُوذَ أنَّهُ ألْقى تِلْكَ الشُّبْهَةَ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلى دَلِيلٍ آخَرَ أوْضَحَ مِنهُ، فَقالَ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ﴾ فَزَعَمَ أنَّ الِانْتِقالَ مِن دَلِيلٍ إلى دَلِيلٍ آخَرَ أوْضَحَ مِنهُ جائِزٌ لِلْمُسْتَدِلِّ. فَإنْ قِيلَ: هَلّا قالَ نَمْرُوذُ: فَلْيَأْتِ رَبُّكَ بِها مِنَ المَغْرِبِ ؟ . قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ هَذِهِ المُحاجَّةَ كانَتْ مَعَ إبْراهِيمَ بَعْدَ إلْقائِهِ في النّارِ وخُرُوجِهِ مِنها سالِمًا، فَعَلِمَ أنَّ مَن قَدَرَ عَلى حِفْظِ إبْراهِيمَ في تِلْكَ النّارِ العَظِيمَةِ مِنَ الِاحْتِراقِ يَقْدِرُ عَلى أنْ يَأْتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ. والثّانِي: أنَّ اللَّهَ خَذَلَهُ وأنْساهُ إيرادَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. والطَّرِيقُ الثّانِي، وهو الَّذِي قالَ بِهِ المُحَقِّقُونَ: أنَّ هَذا ما كانَ انْتِقالًا مِن دَلِيلٍ إلى دَلِيلٍ آخَرَ، بَلِ الدَّلِيلُ واحِدٌ في المَوْضِعَيْنِ وهو أنّا نَرى حُدُوثَ أشْياءَ لا يَقْدِرُ الخَلْقُ عَلى إحْداثِها فَلا بُدَّ مِن قادِرٍ آخَرَ يَتَوَلّى إحْداثَها وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، ثُمَّ إنَّ قَوْلَنا: نَرى حُدُوثَ أشْياءَ لا يَقْدِرُ الخَلْقُ عَلى إحْداثِها، لَهُ أمْثِلَةٌ مِنها: الإحْياءُ، والإماتَةُ، ومِنها السَّحابُ، والرَّعْدُ، والبَرْقُ، ومِنها حَرَكاتُ الأفْلاكِ، والكَواكِبِ، والمُسْتَدِلُّ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَنْتَقِلَ مِن دَلِيلٍ إلى دَلِيلٍ آخَرَ، لَكِنْ إذا ذَكَرَ لِإيضاحِ كَلامٍ مِثالًا فَلَهُ أنْ يَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ المِثالِ إلى مِثالٍ آخَرَ، فَكانَ ما فَعَلَهُ إبْراهِيمُ مِن بابِ ما يَكُونُ الدَّلِيلُ واحِدًا إلّا أنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقالُ عِنْدَ إيضاحِهِ مِن مِثالٍ إلى مِثالٍ آخَرَ، ولَيْسَ مِن بابِ ما يَقَعُ الِانْتِقالُ مِن دَلِيلٍ إلى دَلِيلٍ آخَرَ، وهَذا الوَجْهُ أحْسَنُ مِنَ الأوَّلِ وألْيَقُ بِكَلامِ أهْلِ التَّحْقِيقِ مِنهُ، والإشْكالُ عَلَيْهِما مِن وُجُوهٍ: الإشْكالُ الأوَّلُ: أنَّ صاحِبَ الشُّبْهَةِ إذا ذَكَرَ الشُّبْهَةَ، ووَقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ في الأسْماعِ، وجَبَ عَلى المُحِقِّ القادِرِ عَلى الجَوابِ أنْ يَذْكُرَ الجَوابَ في الحالِ إزالَةً لِذَلِكَ التَّلْبِيسِ والجَهْلِ عَنِ العُقُولِ، فَلَمّا طَعَنَ المَلِكُ الكافِرُ في الدَّلِيلِ الأوَّلِ، أوْ في المِثالِ الأوَّلِ بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ، كانَ الِاشْتِغالُ بِإزالَةِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ واجِبًا مُضَيِّقًا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالمَعْصُومِ أنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الواجِبَ ؟ . والإشْكالُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا أوْرَدَ المُبْطِلُ ذَلِكَ السُّؤالَ، فَإذا تَرَكَ المُحِقُّ الكَلامَ الأوَّلَ وانْتَقَلَ إلى كَلامٍ آخَرَ، أوْهَمَ أنَّ كَلامَهُ الأوَّلَ كانَ ضَعِيفًا ساقِطًا، وأنَّهُ ما كانَ عالِمًا بِضَعْفِهِ، وأنَّ ذَلِكَ المُبْطِلَ عَلِمَ وجْهَ ضَعْفِهِ وكَوْنَهُ ساقِطًا، وأنَّهُ كانَ عالِمًا بِضَعْفِهِ فَنَبَّهَ عَلَيْهِ، وهَذا رُبَّما يُوجِبُ سُقُوطَ وقْعِ الرَّسُولِ وحَقارَةَ شَأْنِهِ وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. والإشْكالُ الثّالِثُ: وهو أنَّهُ وإنْ كانَ يُحْسِنُ الِانْتِقالَ مِن دَلِيلٍ إلى دَلِيلٍ، أوْ مِن مِثالٍ إلى مِثالٍ، لَكِنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُنْتَقِلُ إلَيْهِ أوْضَحَ وأقْرَبَ، وهَهُنا لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّ جِنْسَ الإحْياءِ لا قُدْرَةَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وأمّا جِنْسُ تَحْرِيكِ الأجْسامِ، فَلِلْخَلْقِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، ولا يَبْعُدُ في العَقْلِ وُجُودُ مَلِكٍ عَظِيمٍ في الجُثَّةِ أعْظَمُ مِنَ السَّماواتِ، وأنَّهُ هو الَّذِي يَكُونُ مُحَرِّكًا لِلسَّماواتِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: الِاسْتِدْلالُ بِالإحْياءِ والإماتَةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ أظْهَرُ وأقْوى مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالنَّبِيِّ المَعْصُومِ أنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الدَّلِيلِ الأوْضَحِ الأظْهَرِ إلى الدَّلِيلِ الخَفِيِّ الَّذِي لا يَكُونُ في نَفْسِ الأمْرِ قَوِيًّا ؟ . (p-٢٤)والإشْكالُ الرّابِعُ: أنَّ دَلالَةَ الإحْياءِ والإماتَةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ أقْوى مِن دَلالَةِ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنّا نَرى في ذاتِ الإنْسانِ وصِفاتِهِ تَبْدِيلاتٍ واخْتِلافاتٍ، والتَّبَدُّلُ قَوِيُّ الدَّلالَةِ عَلى الحاجَةِ إلى المُؤَثِّرِ القادِرِ، أمّا الشَّمْسُ فَلا نَرى في ذاتِها تَبَدُّلًا، ولا في صِفاتِها تَبَدُّلًا، ولا في مَنهَجِ حَرَكاتِها تَبَدُّلًا البَتَّةَ، فَكانَتْ دَلالَةُ الإحْياءِ والإماتَةِ عَلى الصّانِعِ أقْوى، فَكانَ العُدُولُ مِنهُ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ انْتِقالًا مِنَ الأقْوى الأجْلى إلى الأخْفى الأضْعَفِ، وإنَّهُ لا يَجُوزُ. الإشْكالُ الخامِسُ: أنْ نَمْرُوذَ لَمّا لَمْ يَسْتَحِ مِن مُعارَضَةِ الإحْياءِ والإماتَةِ الصّادِرَيْنِ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِالقَتْلِ والتَّخْلِيَةِ، فَكَيْفَ يُؤْمَنُ مِنهُ عِنْدَ اسْتِدْلالِ إبْراهِيمَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أنْ يَقُولَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ مِنِّي، فَإنْ كانَ لَكَ إلَهٌ فَقُلْ لَهُ حَتّى يُطْلِعَها مِنَ المَغْرِبِ، وعِنْدَ ذَلِكَ التَزَمَ المُحَقِّقُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ ذَلِكَ فَقالُوا: إنَّهُ لَوْ أوْرَدَ هَذا السُّؤالَ لَكانَ مِنَ الواجِبِ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ المَغْرِبِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ الِاشْتِغالَ بِإظْهارِ فَسادِ سُؤالِهِ في الإحْياءِ والإماتَةِ أسْهَلُ بِكَثِيرٍ مِنَ التِزامِ إطْلاعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَحْصُلَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، إلّا أنَّهُ يَكُونُ الدَّلِيلُ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ هو طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، ولا يَكُونُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ دَلِيلًا عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ دَلِيلُهُ الثّانِي ضائِعًا كَما صارَ دَلِيلَهُ الأوَّلُ ضائِعًا، وأيْضًا فَما الدَّلِيلُ الَّذِي حَمَلَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أنْ تَرَكَ الجَوابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ الرَّكِيكِ والتَزَمَ الِانْقِطاعَ، واعْتَرَفَ بِالحاجَةِ إلى الِانْتِقالِ إلى تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ لا يُمْكِنُهُ تَمْشِيَتُهُ إلّا بِالتِزامِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَأْتِيَ بِإطْلاعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ فَإنَّهُ يَضِيعُ دَلِيلُهُ الثّانِي كَما ضاعَ الأوَّلُ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ التِزامَ هَذِهِ المَحْذُوراتِ لا يَلِيقُ بِأقَلِّ النّاسِ عِلْمًا فَضْلًا عَنْ أفْضَلِ العُقَلاءِ وأعْلَمِ العُلَماءِ، فَظَهَرَ بِهَذا أنَّ هَذا التَّفْسِيرَ الَّذِي أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلَيْهِ ضَعِيفٌ، وأمّا الوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْناهُ فَلا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الإشْكالاتِ، لِأنّا نَقُولُ: لَمّا احْتَجَّ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالإحْياءِ والإماتَةِ أوْرَدَ الخَصْمُ عَلَيْهِ سُؤالًا لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ، وهو أنَّكَ إذا ادَّعَيْتَ الإحْياءَ والإماتَةَ لا بِواسِطَةٍ، فَذَلِكَ لا تَجِدُ إلى إثْباتِهِ سَبِيلًا، وإنِ ادَّعَيْتَ حُصُولَهُما بِواسِطَةِ حَرَكاتِ الأفْلاكِ فَنَظِيرُهُ أوْ ما يَقْرُبُ مِنهُ حاصِلٌ لِلْبَشَرِ، فَأجابَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنَّ الإحْياءَ والإماتَةَ وإنْ حَصَلا بِواسِطَةِ حَرَكاتِ الأفْلاكِ، لَكِنَّ تِلْكَ الحَرَكاتِ حَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لا يَقْدَحُ في كَوْنِ الإحْياءِ والإماتَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، بِخِلافِ الخَلْقِ فَإنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهم عَلى تَحْرِيكاتِ الأفْلاكِ فَلا جَرَمَ لا يَكُونُ الإحْياءُ والإماتَةُ صادِرَيْنِ مِنهم، ومَتى حَمَلْنا الكَلامَ عَلى هَذا الوَجْهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ المَحْذُوراتِ المَذْكُورَةِ لازِمًا عَلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كَلامِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ فالمَعْنى: فَبَقِيَ مَغْلُوبًا لا يَجِدُ مَقالًا، ولا لِلْمَسْألَةِ جَوابًا، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها﴾ [الأنْبِياءِ: ٤٠] قالَ الواحِدِيُّ: وفِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ: بُهِتَ الرَّجُلُ فَهو مَبْهُوتٌ، وبَهَتَ، وبَهِتَ، قالَ عُرْوَةُ العُذْرِيُّ: ؎فَما هو إلّا أنْ أُراها فُجاءَةً فَأُبْهَتُ حَتّى ما أكادُ أُجِيبُ أيْ: أتَحَيَّرُ وأسْكُتُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ وتَأْوِيلُهُ عَلى قَوْلِنا ظاهِرٌ، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقالَ القاضِي: يَحْتَمِلُ (p-٢٥)وُجُوهًا: مِنها أنَّهُ لا يَهْدِيهِمْ لِظُلْمِهِمْ وكُفْرِهِمْ لِلْحِجاجِ ولِلْحَقِّ كَما يَهْدِي المُؤْمِنَ، فَإنَّهُ لا بُدَّ في الكافِرِ مِن أنْ يَعْجِزَ ويَنْقَطِعَ. وأقُولُ: هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ لا يَهْدِيهِمْ لِلْحِجاجِ، إنَّما يَصِحُّ حَيْثُ يَكُونُ الحِجاجُ مَوْجُودًا ولا حِجاجَ عَلى الكُفْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَهْدِيهِ إلَيْهِ ؟ قالَ القاضِي: ومِنها أنْ يُرِيدَ أنَّهُ لا يَهْدِيهِمْ لِزِياداتِ الألْطافِ مِن حَيْثُ إنَّهم بِالكُفْرِ والظُّلْمِ سَدُّوا عَلى أنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الِانْتِفاعِ بِهِ. وأقُولُ: هَذا أيْضًا ضَعِيفٌ، لِأنَّ تِلْكَ الزِّياداتِ إذا كانَتْ في حَقِّهِمْ مُمْتَنِعَةً عَقْلًا لَمْ يَصِحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لا يَهْدِيهِمْ، كَما لا يُقالُ: إنَّهُ تَعالى يَجْمَعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَلا يَجْمَعُ بَيْنَ الوُجُودِ والعَدَمِ. قالَ القاضِي: ومِنها أنَّهُ تَعالى لا يَهْدِيهِمْ إلى الثَّوابِ في الآخِرَةِ ولا يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ. وأقُولُ: هَذا أيْضًا ضَعِيفٌ، لِأنَّ المَذْكُورَ هَهُنا أمْرُ الِاسْتِدْلالِ وتَحْصِيلُ المَعْرِفَةِ ولَمْ يَجْرِ لِلْجَنَّةِ ذِكْرٌ، فَيَبْعُدُ صَرْفُ اللَّفْظِ إلى الجَنَّةِ، بَلْ أقُولُ: اللّائِقُ بِسِياقِ الآيَةِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الدَّلِيلَ كانَ قَدْ بَلَغَ في الظُّهُورِ والحُجَّةِ إلى حَيْثُ صارَ المُبْطِلُ كالمَبْهُوتِ عِنْدَ سَماعِهِ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الِاهْتِداءَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الظّاهِرُ، ونَظِيرُ هَذا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الأنْعامِ: ١١١] . * * * القِصَّةُ الثّانِيَةُ: والمَقْصُودُ مِنها إثْباتُ المَعادِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ . وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في إدْخالِ الكافِ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ كالَّذِي﴾ وذَكَرُوا فِيهِ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ﴾ في مَعْنى ”ألَمْ تَرَ كالَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ“ وتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: أرَأيْتَ كالَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ، أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ، فَيَكُونُ هَذا عَطْفًا عَلى المَعْنى، وهو قَوْلُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ وأبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ وأكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، قالُوا: ونَظِيرُهُ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٨٤ - ٨٥] ثُمَّ قالَ: ﴿مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٨٦، ٨٧] فَهَذا عَطْفٌ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّ مَعْناهُ: لِمَنِ السَّماواتُ ؟ فَقِيلَ: لِلَّهِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎مُعاوِيَ إنَّنا بَشَرٌ فَأسْجِحْ فَلَسْنا بِالجِبالِ ولا الحَدِيدا فَحُمِلَ عَلى المَعْنى وتَرْكِ اللَّفْظِ. والقَوْلُ الثّانِي، وهو اخْتِيارُ الأخْفَشِ: أنَّ الكافَ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ والَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ. والقَوْلُ الثّالِثُ، وهو اخْتِيارُ المُبَرِّدِ: أنّا نُضْمِرُ في الآيَةِ زِيادَةً، والتَّقْدِيرُ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ، وألَمْ تَرَ إلى مَن كانَ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ. (p-٢٦)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في الَّذِي مَرَّ بِالقَرْيَةِ، فَقالَ قَوْمٌ: كانَ رَجُلًا كافِرًا شاكًّا في البَعْثِ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وأكْثَرِ المُفَسِّرِينَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، وقالَ الباقُونَ: إنَّهُ كانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ قالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: هو عُزَيْرٌ، وقالَ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هو أرْمِياءُ، ثُمَّ مِن هَؤُلاءِ مَن قالَ: إنَّ أرْمِياءَ هو الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو رَجُلٌ مِن سِبْطِ هارُونَ بْنِ عِمْرانَ عَلَيْهِما السَّلامُ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إنَّ أرْمِياءَ هو النَّبِيُّ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ عِنْدَما خَرَّبَ بُخْتَنَصَّرُ بَيْتَ المَقْدِسِ وأحْرَقَ التَّوْراةَ. حُجَّةُ مَن قالَ: إنَّ هَذا المارَّ كانَ كافِرًا وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ حَكى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ وهَذا كَلامُ مَن يَسْتَبْعِدُ مِنَ اللَّهِ الإحْياءَ بَعْدَ الإماتَةِ وذَلِكَ كُفْرٌ. فَإنْ قِيلَ: يَجُوزُ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ مِنهُ قَبْلَ البُلُوغِ. قُلْنا: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَعْجَبَ رَسُولُهُ مِنهُ إذِ الصَّبِيُّ لا يُتَعَجَّبُ مِن شَكِّهِ في مِثْلِ ذَلِكَ، وهَذِهِ الحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِاحْتِمالِ أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِبْعادَ ما كانَ بِسَبَبِ الشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ، بَلْ كانَ بِسَبَبِ اطِّرادِ العاداتِ في أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ المَوْضِعِ الخَرابِ قَلَّما يُصَيِّرُهُ اللَّهُ مَعْمُورًا، وهَذا كَما أنَّ الواحِدَ مِنّا يُشِيرُ إلى جَبَلٍ، فَيَقُولُ: مَتى يَقْلِبُهُ اللَّهُ ذَهَبًا، أوْ ياقُوتًا، لا أنَّ مُرادَهُ مِنهُ الشَّكُّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ عَلى أنَّ مُرادَهُ مِنهُ أنَّ ذَلِكَ لا يَقَعُ ولا يَحْصُلُ في مُطَّرِدِ العاداتِ، فَكَذا هَهُنا. الوَجْهُ الثّانِي: قالُوا: إنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّهِ: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّبَيُّنُ حاصِلًا لَهُ، وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ تَبَيُّنَ الإحْياءِ عَلى سَبِيلِ المُشاهَدَةِ ما كانَ حاصِلًا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأمّا أنَّ تَبَيُّنَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْلالِ ما كانَ حاصِلًا فَهو مَمْنُوعٌ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ قالَ: ﴿أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا العِلْمَ إنَّما حَصَلَ لَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وأنَّهُ كانَ خالِيًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ العِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ، وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ تِلْكَ المُشاهَدَةَ لا شَكَّ أنَّها أفادَتْ نَوْعَ تَوْكِيدٍ وطُمَأْنِينَةٍ ووُثُوقٍ، وذَلِكَ القَدْرُ مِنَ التَّأْكِيدِ إنَّما حَصَلَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وهَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّ أصْلَ العِلْمِ ما كانَ حاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ. الوَجْهُ الرّابِعُ لَهم: أنَّ هَذا المارَّ كانَ كافِرًا لِانْتِظامِهِ مَعَ نَمْرُوذَ في سِلْكٍ واحِدٍ. وهو ضَعِيفٌ أيْضًا، لِأنَّ قَبْلَهُ وإنْ كانَ قِصَّةَ نَمْرُوذَ، ولَكِنَّ بَعْدَهُ قِصَّةَ سُؤالِ إبْراهِيمَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا مِن جِنْسِ إبْراهِيمَ. وحُجَّةُ مَن قالَ: إنَّهُ كانَ مُؤْمِنًا وكانَ نَبِيًّا وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ عالِمًا بِاللَّهِ، وعَلى أنَّهُ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ تَعالى يَصِحُّ مِنهُ الإحْياءُ في الجُمْلَةِ؛ لِأنَّ تَخْصِيصَ هَذا الشَّيْءِ بِاسْتِبْعادِ الإحْياءِ إنَّما يَصِحُّ أنْ لَوْ حَصَلَ الِاعْتِرافُ بِالقُدْرَةِ عَلى الإحْياءِ في الجُمْلَةِ، فَأمّا مَن يَعْتَقِدُ أنَّ القُدْرَةَ عَلى الإحْياءِ مُمْتَنِعَةٌ لَمْ يُبْقِ لِهَذا التَّخْصِيصِ فائِدَةً. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِن قائِلٍ، والمَذْكُورُ السّابِقُ هو اللَّهُ تَعالى فَصارَ التَّقْدِيرُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ فَقالَ ذَلِكَ الإنْسانُ: ﴿لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ ومِمّا يُؤَكِّدُ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ هو اللَّهُ تَعالى قَوْلُهُ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ القادِرَ عَلى جَعْلِهِ آيَةً لِلنّاسِ هو اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ قالَ: ﴿وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا﴾ ولا شَكَّ أنَّ قائِلَ هَذا (p-٢٧)القَوْلِ هو اللَّهُ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ الكَثِيرَةِ عَلى أنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا لا يَلِيقُ بِحالِ هَذا الكافِرِ. فَإنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ تَعالى بَعْثَ إلَيْهِ رَسُولًا أوْ مَلَكًا حَتّى قالَ لَهُ هَذا القَوْلَ عَنِ اللَّهِ تَعالى. قُلْنا: ظاهِرُ هَذا الكَلامِ يَدُلُّ عَلى أنَّ قائِلَ هَذِهِ الأقْوالِ مَعَهُ هو اللَّهُ تَعالى، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ هَذا الظّاهِرِ إلى المَجازِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ غَيْرُ جائِزٍ. والحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ إعادَتَهُ حَيًّا وإبْقاءَ الطَّعامِ والشَّرابِ عَلى حالِهِما، وإعادَةَ الحِمارِ حَيًّا بَعْدَما صارَ رَمِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مُشاهِدًا لِإعادَةِ أجْزاءِ الحِمارِ إلى التَّرْكِيبِ وإلى الحَياةِ إكْرامٌ عَظِيمٌ وتَشْرِيفٌ كَرِيمٌ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِحالِ الكافِرِ لَهُ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ كُلَّ هَذِهِ الأشْياءِ إنَّما أدْخَلَها اللَّهُ تَعالى في الوُجُودِ إكْرامًا لِإنْسانٍ آخَرَ كانَ نَبِيًّا في ذَلِكَ الزَّمانِ ؟ . قُلْنا: لَمْ يَجْرِ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ هَذا النَّبِيِّ، ولَيْسَ في هَذِهِ القِصَّةِ حالَةٌ مُشْعِرَةٌ بِوُجُودِ النَّبِيِّ أصْلًا، فَلَوْ كانَ المَقْصُودُ مِن إظْهارِ هَذِهِ الأشْياءِ إكْرامَ ذَلِكَ النَّبِيِّ وتَأْيِيدَ رِسالَتِهِ بِالمُعْجِزَةِ لَكانَ تَرْكُ ذِكْرِ ذَلِكَ الرَّسُولِ إهْمالًا لِما هو الغَرَضُ الأصْلِيُّ مِنَ الكَلامِ وإنَّهُ لا يَجُوزُ. فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَكانَ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ ادَّعى النُّبُوَّةَ مِن قَبْلِ الإماتَةِ والإحْياءِ أوْ بَعْدَهُما، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ إرْسالَ النَّبِيِّ مِن قِبَلِ اللَّهِ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلى الأُمَّةِ، وذَلِكَ لا يَتِمُّ بَعْدَ الإماتَةِ، وإنِ ادَّعى النُّبُوَّةَ بَعْدَ الإحْياءِ فالمُعْجِزُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلى الدَّعْوى، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٌ. قُلْنا: إظْهارُ خَوارِقِ العاداتِ عَلى يَدِ مَن يَعْلَمُ اللَّهُ أنَّهُ سَيَصِيرُ رَسُولًا جائِزٌ عِنْدَنا، وعَلى هَذا الطَّرِيقِ زالَ السُّؤالُ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّ هَذا الشَّخْصِ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ وهَذا اللَّفْظُ إنَّما يُسْتَعْمَلُ في حَقِّ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩١] فَكانَ هَذا وعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِأنَّهُ يَجْعَلُهُ نَبِيًّا، وأيْضًا فَهَذا الكَلامُ [ إنْ ] لَمْ يَدُلَّ عَلى النُّبُوَّةِ بِصَرِيحِهِ فَلا شَكَّ أنَّهُ يُفِيدُ التَّشْرِيفَ العَظِيمَ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِحالِ مَن ماتَ عَلى الكُفْرِ وعَلى الشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن جَعْلِهِ آيَةً أنَّ مَن عَرَفَهُ مِنَ النّاسِ شابًّا كامِلًا إذا شاهَدُوهُ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ عَلى شَبابِهِ وقَدْ شاخُوا أوْ هَرِمُوا، أوْ سَمِعُوا بِالخَبَرِ أنَّهُ كانَ ماتَ مُنْذُ زَمانٍ وقَدْ عادَ شابًّا، صَحَّ أنْ يُقالَ لِأجْلِ ذَلِكَ: إنَّهُ آيَةٌ لِلنّاسِ لِأنَّهم يَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ ويَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعالى، ونُبُوَّةَ نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمانِ. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً﴾ إخْبارٌ عَنْ أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُهُ آيَةً، وهَذا الإخْبارُ إنَّما وقَعَ بَعْدَ أنْ أحْياهُ اللَّهُ، وتَكَلَّمَ مَعَهُ، والمَجْعُولُ لا يُجْعَلُ ثانِيًا، فَوَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ عَلى أمْرٍ زائِدٍ عَنْ هَذا الإحْياءِ، وأنْتُمْ تَحْمِلُونَهُ عَلى نَفْسِ هَذا الإحْياءِ فَكانَ باطِلًا. والثّانِي: أنَّ وجْهَ التَّمَسُّكِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ يَدُلُّ عَلى التَّشْرِيفِ العَظِيمِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِحالِ مَن ماتَ عَلى الكُفْرِ والشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. (p-٢٨)الحُجَّةُ الخامِسَةُ: ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ قالَ: إنَّ بُخْتَنَصَّرَ غَزا بَنِي إسْرائِيلَ فَسَبى مِنهُمُ الكَثِيرِينَ، ومِنهم عُزَيْرٌ وكانَ مِن عُلَمائِهِمْ، فَجاءَ بِهِمْ إلى بابِلَ، فَدَخَلَ عُزَيْرٌ يَوْمًا تِلْكَ القَرْيَةَ ونَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وهو عَلى حِمارٍ، فَرَبَطَ حِمارَهُ وطافَ في القَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيها أحَدًا فَعَجِبَ مِن ذَلِكَ وقالَ: ﴿أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ لا عَلى سَبِيلِ الشَّكِّ في القُدْرَةِ، بَلْ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِبْعادِ بِحَسَبِ العادَةِ، وكانَتِ الأشْجارُ مُثْمِرَةً، فَتَناوَلَ مِنَ الفاكِهَةِ التِّينَ والعِنَبَ، وشَرِبَ مِن عَصِيرِ العِنَبِ ونامَ، فَأماتَهُ اللَّهُ تَعالى في مَنامِهِ مِائَةَ عامٍ وهو شابٌّ، ثُمَّ أعْمى عَنْ مَوْتِهِ أيْضًا الإنْسَ والسِّباعَ والطَّيْرَ، ثُمَّ أحْياهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ المِائَةِ ونُودِيَ مِنَ السَّماءِ: يا عُزَيْرُ ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ بَعْدَ المَوْتِ ؟ فَقالَ: (يَوْمًا) فَأبْصَرَ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةً فَقالَ: ﴿أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ مِنَ التِّينِ والعِنَبِ ﴿وشَرابِكَ﴾ مِنَ العَصِيرِ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُما، فَنَظَرَ فَإذا التِّينُ والعِنَبُ كَما شاهَدَهُما ثُمَّ قالَ: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ فَنَظَرَ فَإذا هو عِظامٌ بِيضٌ تَلُوحُ وقَدْ تَفَرَّقَتْ أوْصالُهُ وسَمِعَ صَوْتًا: أيَّتُها العِظامُ البالِيَةُ إنِّي جاعِلٌ فِيكِ رُوحًا، فانْضَمَّ أجْزاءُ العِظامِ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، ثُمَّ التَصَقَ كُلُّ عُضْوٍ بِما يَلِيقُ بِهِ الضِّلْعُ إلى الضِّلْعِ والذِّراعُ إلى مَكانِهِ، ثُمَّ جاءَ الرَّأْسُ إلى مَكانِهِ ثُمَّ العَصَبُ والعُرُوقُ ثُمَّ أنْبَتَ طَراءُ اللَّحْمِ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْبَسَطَ الجِلْدُ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَتِ الشُّعُورُ عَنِ الجِلْدِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَإذا هو قائِمٌ يَنْهَقُ فَخَرَّ عُزَيْرٌ ساجِدًا، وقالَ: ﴿أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ثُمَّ إنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَقالَ القَوْمُ: حَدَّثَنا آباؤُنا أنَّ عُزَيْرَ بْنَ شَرْخَياءَ ماتَ بِبابِلَ، وقَدْ كانَ بُخْتَنَصَّرُ قَتَلَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ أرْبَعِينَ ألْفًا مِمَّنْ قَرَأ التَّوْراةَ وكانَ فِيهِمْ عُزَيْرٌ، والقَوْمُ ما عَرَفُوا أنَّهُ يَقْرَأُ التَّوْراةَ، فَلَمّا أتاهم بَعْدَ مِائَةِ عامٍ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْراةَ وأمْلاها عَلَيْهِمْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لَمْ يَخْرِمْ مِنها حَرْفًا، وكانَتِ التَّوْراةُ قَدْ دُفِنَتْ في مَوْضِعٍ فَأُخْرِجَتْ، وعُورِضَ بِما أمْلاهُ فَما اخْتَلَفا في حَرْفٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وهَذِهِ الرِّوايَةُ مَشْهُورَةٌ فِيما بَيْنَ النّاسِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ المارَّ كانَ نَبِيًّا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في تِلْكَ القَرْيَةِ فَقالَ وهْبٌ وقَتادَةُ وعِكْرِمَةُ والرَّبِيعُ: إيلِياءُ وهي بَيْتُ المَقْدِسِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هي القَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنها الأُلُوفُ حَذَرَ المَوْتِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ قالَ الأصْمَعِيُّ: خَوى البَيْتُ فَهو يَخْوِي خَواءً مَمْدُودًا إذا ما خَلا مِن أهْلِهِ، والخَوا: خُلُوُّ البَطْنِ مِنَ الطَّعامِ، وفي الحَدِيثِ: ”«كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا سَجَدَ خَوّى» “ أيْ: خَلّى ما بَيْنَ عَضُدَيْهِ وجَنْبَيْهِ، وبَطْنِهِ وفَخْذَيْهِ. وخَوّى الفَرَسُ ما بَيْنَ قَوائِمِهِ. ثُمَّ يُقالُ لِلْبَيْتِ إذا انْهَدَمَ: خَوى لِأنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِن أهْلِهِ، وكَذَلِكَ: خَوَتِ النُّجُومُ وأخْوَتْ إذا سَقَطَتْ ولَمْ تُمْطِرْ لِأنَّها خَلَتْ عَنِ المَطَرِ. والعَرْشُ سَقْفُ البَيْتِ، والعُرُوشُ الأبْنِيَةُ، والسُّقُوفُ مِنَ الخَشَبِ يُقالُ: عَرَشَ الرَّجُلُ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ إذا بَنى وسَقَّفَ بِخَشَبٍ، فَقَوْلُهُ: ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ أيْ: مُنْهَدِمَةٌ ساقِطَةٌ خَرابٌ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ حِيطانَها كانَتْ قائِمَةً وقَدْ تَهَدَّمَتْ سُقُوفُها، ثُمَّ انْقَعَرَتِ الحِيطانُ مِن قَواعِدِها فَتَساقَطَتْ عَلى السُّقُوفِ المُنْهَدِمَةِ، ومَعْنى الخاوِيَةِ المُنْقَلِعَةِ وهي المُنْقَلِعَةُ مِن أُصُولِها، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾ [الحاقَّةِ: ٧] ومَوْضِعٌ آخَرُ ﴿أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القَمَرِ: ٢٠] وهَذِهِ الصِّفَةُ في خَرابِ المَنازِلِ مِن أحْسَنِ ما يُوصَفُ بِهِ. والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ أيْ: خاوِيَةٌ عَنْ عُرُوشِها، جَعَلَ ”عَلى“ بِمَعْنى ”عَنْ“ كَقَوْلِهِ: ﴿إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ٢] أيْ: عَنْهم. والثّالِثُ: أنَّ المُرادَ أنَّ القَرْيَةَ خاوِيَةٌ (p-٢٩)مَعَ كَوْنِ أشْجارِها مَعْرُوشَةً، فَكانَ التَّعَجُّبُ مِن ذَلِكَ أكْثَرَ؛ لِأنَّ الغالِبَ مِنَ القَرْيَةِ الخالِيَةِ الخاوِيَةِ أنْ يَبْطُلَ ما فِيها مِن عُرُوشِ الفاكِهَةِ، فَلَمّا خَرِبَتِ القَرْيَةُ مَعَ بَقاءِ عُرُوشِها كانَ التَّعَجُّبُ أكْثَرَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ فَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ مَن قالَ: المارُّ كانَ كافِرًا حَمَلَهُ عَلى الشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، ومَن قالَ: كانَ نَبِيًّا حَمَلَهُ عَلى الِاسْتِبْعادِ بِحَسَبِ مَجارِي العُرْفِ والعادَةِ أوْ كانَ المَقْصُودُ مِنهُ طَلَبَ زِيادَةِ الدَّلائِلِ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ، كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى﴾ [البَقَرَةِ: ٢٦٠] وقَوْلُهُ (أنّى) أيْ: مِن أيْنَ كَقَوْلِهِ: ﴿أنّى لَكِ هَذا﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ٣٧]، والمُرادُ بِإحْياءِ هَذِهِ القَرْيَةِ عِمارَتُها، أيْ: مَتى يَفْعَلُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ ؟ عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَفْعَلُهُ، فَأحَبَّ اللَّهُ أنْ يُرِيَهُ في نَفْسِهِ، وفي إحْياءِ القَرْيَةِ آيَةً ﴿فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا القِصَّةَ. فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في إماتَةِ اللَّهِ لَهُ مِائَةَ عامٍ، مَعَ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِالإحْياءِ بَعْدَ يَوْمٍ أوْ بَعْدَ بَعْضِ يَوْمٍ حاصِلٌ ؟ . قُلْنا: لِأنَّ الإحْياءَ بَعْدَ تَراخِي المُدَّةِ أبْعَدُ في العُقُولِ مِنَ الإحْياءِ بَعْدَ قُرْبِ المُدَّةِ، وأيْضًا فَلِأنَّ بَعْدَ تَراخِي المُدَّةِ ما يُشاهَدُ مِنهُ، ويُشاهِدُ هو مِن غَيْرِهِ أعْجَبَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ فالمَعْنى: ثُمَّ أحْياهُ، ويَوْمُ القِيامَةِ يُسَمّى يَوْمَ البَعْثِ؛ لِأنَّهم يُبْعَثُونَ مِن قُبُورِهِمْ، وأصْلُهُ مِن بَعَثْتُ النّاقَةَ إذا أقَمْتُها مِن مَكانِها، وإنَّما قالَ: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ ولَمْ يَقُلْ: ثُمَّ أحْياهُ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عادَ كَما كانَ أوَّلًا حَيًّا عاقِلًا فَهِمًا مُسْتَعِدًّا لِلنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ في المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، ولَوْ قالَ: ثُمَّ أحْياهُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الفَوائِدُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب