الباحث القرآني

الحُكْمُ العاشِرُ ما يَتَعَلَّقُ بِالقِتالِ ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ (p-١٠٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالِاسْتِقامَةِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِالتَّقْوى في طَرِيقِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى فَقالَ: ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى وأْتُوا البُيُوتَ مِن أبْوابِها﴾ [البقرة: ١٨٩] وأمَرَ بِالتَّقْوى في طَرِيقِ طاعَةِ اللَّهِ، وهو عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِ المَحْظُوراتِ وفِعْلِ الواجِباتِ فالِاسْتِقامَةُ عِلْمٌ، والتَّقْوى عَمَلٌ، ولَيْسَ التَّكْلِيفُ إلّا في هَذَيْنِ، ثُمَّ لَمّا أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأشَدِّ أقْسامِ التَّقْوى وأشَقِّها عَلى النَّفْسِ، وهو قَتْلُ أعْداءِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في سَبَبِ النُّزُولِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ الرَّبِيعُ وابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الآيَةُ أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في القِتالِ، فَلَمّا نَزَلَتْ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقاتِلُ مَن قاتَلَ، ويَكُفُّ عَنْ قِتالِ مَن تَرَكَهُ، وبَقِيَ عَلى هَذِهِ الحالَةِ إلى أنَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - خَرَجَ بِأصْحابِهِ لِإرادَةِ الحَجِّ ونَزَلَ الحُدَيْبِيَةَ وهو مَوْضِعٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ والماءِ، فَصَدَّهُمُ المُشْرِكُونَ عَنْ دُخُولِ البَيْتِ فَأقامَ شَهْرًا لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ، ثُمَّ صالَحُوهُ عَلى أنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ العامَ ويَعُودَ إلَيْهِمْ في العامِ القابِلِ، ويَتْرُكُونَ لَهُ مَكَّةَ ثَلاثَةَ أيّامٍ حَتّى يَطُوفَ ويَنْحَرَ الهَدْيَ ويَفْعَلَ ما شاءَ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ وصالَحَهم عَلَيْهِ، ثُمَّ عادَ إلى المَدِينَةِ وتَجَهَّزَ في السَّنَةِ القابِلَةِ، ثُمَّ خافَ أصْحابُهُ مِن قُرَيْشٍ أنْ لا يَفُوا بِالوَعْدِ ويَصُدُّوهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وأنْ يُقاتِلُوهم، وكانُوا كارِهِينَ لِمُقاتَلَتِهِمْ في الشَّهْرِ الحَرامِ وفي الحَرَمِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآياتِ، وبَيَّنَ لَهم كَيْفِيَّةَ المُقاتَلَةِ إنِ احْتاجُوا إلَيْها، فَقالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ . * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ في طاعَتِهِ وطَلَبِ رِضْوانِهِ، رَوى أبُو مُوسى «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَمَّنْ يُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَقالَ: هو مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، ولا يُقاتِلُ رِياءً ولا سُمْعَةً» . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، المُرادُ مِنهُ: قاتِلُوا الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم إمّا عَلى وجْهِ الدَّفْعِ عَنِ الحَجِّ، أوْ عَلى وجْهِ المُقاتَلَةِ ابْتِداءً، وهَذا الوَجْهُ مُوافِقٌ لِما رَوَيْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيها: قاتِلُوا كُلَّ مَن لَهُ قُدْرَةٌ وأهْلِيَّةٌ عَلى القِتالِ. وثالِثُها: قاتَلُوا كُلَّ مَن لَهُ قُدْرَةٌ عَلى القِتالِ وأهْلِيَّةٌ كَذَلِكَ سِوى مَن جَنَحَ لِلسَّلْمِ، قالَ تَعالى: ﴿وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لَها﴾ [الأنفال: ٦١] واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أقْرَبُ إلى الظّاهِرِ لِأنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَهم فاعِلِينَ لِلْقِتالِ، فَأمّا المُسْتَعِدُّ لِلْقِتالِ والمُتَأهِّلُ لَهُ قَبْلَ إقْدامِهِ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُقاتِلًا إلّا عَلى سَبِيلِ المَجازِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ قِتالَ المُقاتِلِينَ، ونَهى عَنْ قِتالِ غَيْرِ المُقاتِلِينَ، بِدَلِيلِ أنَّهُ قالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ ثُمَّ بَعْدَهُ: ولا تَعْتَدُوا هَذا القَدْرَ، ولا تُقاتِلُوا مَن لا يُقاتِلُكم، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مانِعَةٌ مِن قِتالِ غَيْرِ المُقاتِلِينَ، ثُمَّ قالَ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] فاقْتَضى هَذا حُصُولَ الأوَّلِ (p-١١٠)فِي قِتالِ مَن لَمْ يُقاتِلْ، فَدَلَّ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى الأمْرِ بِقِتالِ مَن لَمْ يُقاتِلْنا، لَكِنَّ هَذا الحُكْمَ ما صارَ مَنسُوخًا. أمّا قَوْلُهُ: إنَّها دالَّةٌ عَلى المَنعِ مِن قِتالِ مَن لَمْ يُقاتِلْنا، فَهَذا غَيْرُ مُسَلَّمٌ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَعْتَدُوا﴾ فَهَذا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ سِوى ما ذَكَرْتُمْ، مِنها أنْ يَكُونَ المَعْنى: ولا تَبْدَؤُوا في الحَرَمِ بِقِتالٍ، ومِنها أنْ يَكُونَ المُرادُ: ولا تَعْتَدُوا بِقِتالِ مَن نُهِيتُمْ عَنْ قِتالِهِ مِنَ الَّذِينَ بَيْنَكم وبَيْنَهم عَهْدٌ، أوْ بِالحِيلَةِ أوْ بِالمُفاجَأةِ مِن غَيْرِ تَقْدِيمِ دَعْوَةٍ، أوْ بِقَتْلِ النِّساءِ والصِّبْيانِ والشَّيْخِ الفانِي، وعَلى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيراتِ لا تَكُونُ الآيَةُ مَنسُوخَةً. فَإنْ قِيلَ: هَبْ أنَّهُ لا نَسْخَ في الآيَةِ، ولَكِنْ ما السَّبَبُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ أوَّلًا بِقِتالِ مَن يُقاتِلُ، ثُمَّ في آخِرِ الأمْرِ أذِنَ في قِتالِهِمْ سَواءً قاتَلُوا أوْ لَمْ يُقاتِلُوا. قُلْنا: لِأنَّ في أوَّلِ الأمْرِ كانَ المُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ، فَكانَ الصَّلاحُ اسْتِعْمالَ الرِّفْقِ واللِّينِ والمُجامَلَةِ، فَلَمّا قَوِيَ الإسْلامُ وكَثُرَ الجَمْعُ، وأقامَ مَن أقامَ مِنهم عَلى الشِّرْكِ، بَعْدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ وتَكَرُّرِها عَلَيْهِمْ حالًا بَعْدَ حالٍ، حَصَلَ اليَأْسُ مِن إسْلامِهِمْ، فَلا جَرَمَ أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِقِتالِهِمْ عَلى الإطْلاقِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: المُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ قالُوا: لَوْ كانَ الِاعْتِداءُ بِإرادَةِ اللَّهِ تَعالى وبِتَخْلِيقِهِ لَما صَحَّ هَذا الكَلامُ، وجَوابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب