الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ (p-٦٣)اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أمْرَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وما أجْراهُ عَلى يَدِهِ مِن شَرائِفِ شَرائِعِهِ الَّتِي ابْتَلاهُ بِها، ومِن بِناءِ بَيْتِهِ وأمْرِهِ بِحَجِّ عِبادِ اللَّهِ إلَيْهِ وما جَبَلَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ مِنَ الحِرْصِ عَلى مَصالِحِ عِبادِهِ ودُعائِهِ بِالخَيْرِ لَهم، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي سَلَفَ في هَذِهِ الآيَةِ السّالِفَةِ عَجَّبَ النّاسَ فَقالَ: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ﴾ والإيمانُ بِما أتى مِن شَرائِعِهِ فَكانَ في ذَلِكَ تَوْبِيخُ اليَهُودِ والنَّصارى ومُشْرِكِي العَرَبِ لِأنَّ اليَهُودَ إنَّما يَفْتَخِرُونَ بِهِ ويُوصَلُونَ بِالوَصْلَةِ الَّتِي بَيْنَهم وبَيْنَهُ مِن نَسَبِ إسْرائِيلَ، والنَّصارى فافْتِخارُهم لَيْسَ بِعِيسى وهو مُنْتَسِبٌ مِن جانِبِ الأُمِّ إلى إسْرائِيلَ، وأمّا قُرَيْشٌ فَإنَّهم إنَّما نالُوا كُلَّ خَيْرٍ في الجاهِلِيَّةِ بِالبَيْتِ الَّذِي بَناهُ فَصارُوا لِذَلِكَ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ، وسائِرُ العَرَبِ وهُمُ العَدْنانِيُّونَ فَمَرْجِعُهم إلى إسْماعِيلَ وهم يَفْتَخِرُونَ عَلى القَحْطانِيِّينَ بِإسْماعِيلَ بِما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ النُّبُوَّةِ، فَرَجَعَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ افْتِخارُ الكُلِّ بِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَمّا ثَبَتَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو الَّذِي طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى بَعْثَةَ هَذا الرَّسُولِ في آخِرِ الزَّمانِ وهو الَّذِي تَضَرَّعَ إلى اللَّهِ تَعالى في تَحْصِيلِ هَذا المَقْصُودِ، فالعَجَبُ مِمَّنْ أعْظَمُ مَفاخِرِهِ وفَضائِلِهِ الِانْتِسابُ إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ إنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِالرَّسُولِ الَّذِي هو دَعْوَةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَطْلُوبُهُ بِالتَّضَرُّعِ لا شَكَّ أنَّ هَذا مِمّا يَسْتَحِقُّ أنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: رَغِبْتُ مِنَ الأمْرِ إذا كَرِهْتَهُ، ورَغِبْتُ فِيهِ إذا أرَدْتَهُ. ”ومَنِ“ الأُولى اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ، والثّانِيَةُ بِمَعْنى الَّذِي، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”مَن سَفِهَ“ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في يَرْغَبُ وإنَّما صَحَّ البَدَلُ لِأنَّ مَن يَرْغَبُ غَيْرُ مُوجِبٍ كَقَوْلِكَ: هَلْ جاءَكَ أحَدٌ إلّا زَيْدٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ هَهُنا سُؤالٌ وهو أنَّ المُرادَ بِمِلَّةِ إبْراهِيمَ هو المِلَّةُ الَّتِي جاءَ بِها مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ تَرْغِيبُ النّاسِ في قَبُولِ هَذا الدِّينِ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ المِلَّةَ عَيْنُ مِلَّةِ إبْراهِيمَ في الأُصُولِ والفُرُوعِ، أوْ يُقالَ: هَذِهِ المِلَّةُ هي تِلْكَ المِلَّةُ في الأُصُولِ أعْنِي التَّوْحِيدَ والنُّبُوَّةَ ورِعايَةَ مَكارِمِ الأخْلاقِ، ولَكِنَّهُما يَخْتَلِفانِ في فُرُوعِ الشَّرائِعِ وكَيْفِيَّةِ الأعْمالِ. أمّا الأوَّلُ: فَباطِلٌ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَدَّعِي أنَّ شَرْعَهُ نَسَخَ كُلَّ الشَّرائِعِ، فَكَيْفَ يُقالُ هَذا الشَّرْعُ هو عَيْنُ ذَلِكَ الشَّرْعِ. وأمّا الثّانِي: فَهو لا يُفِيدُ المَطْلُوبَ لِأنَّ الِاعْتِرافَ بِالأُصُولِ أعْنِي التَّوْحِيدَ والعَدْلَ ومَكارِمَ الأخْلاقِ والمَعادَ لا يَقْتَضِي الِاعْتِرافَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِهَذا الكَلامِ في هَذا المَطْلُوبِ. وسُؤالٌ آخَرُ وهو أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمّا اعْتَرَفَ بِأنَّ شَرْعَ إبْراهِيمَ مَنسُوخٌ، ولَفْظَ المِلَّةِ يَتَناوَلُ الأُصُولَ والفُرُوعَ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ راغِبًا أيْضًا عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ فَيَلْزَمُ ما ألْزَمَ عَلَيْهِمْ. وجَوابُهُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ تَضَرَّعَ إلى اللَّهِ تَعالى وطَلَبَ مِنهُ بَعْثَةَ هَذا الرَّسُولِ ونُصْرَتَهُ وتَأْيِيدَهُ ونَشْرَ شَرِيعَتِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذا المَعْنى بِأنَّهُ مِلَّةُ إبْراهِيمَ فَلَمّا سَلَّمَ اليَهُودُ والنَّصارى والعَرَبُ كَوْنَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُحِقًّا في مَقالِهِ، وجَبَ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرافُ بِنُبُوَّةِ هَذا الشَّخْصِ الَّذِي هو مَطْلُوبُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. (p-٦٤)قالَ السّائِلُ: إنَّ القَوْلَ ما سَلَّمُوا أنَّ إبْراهِيمَ طَلَبَ مِثْلَ هَذا الرَّسُولِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَوى هَذا الخَبَرَ عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيَبْنِيَ عَلى هَذِهِ الرِّوايَةِ إلْزامَ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرافُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإذَنْ لا تَثْبُتُ نُبُوَّتُهُ ما لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوايَةُ، ولا تَثْبُتُ هَذِهِ الرِّوايَةُ ما لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ، فَيُفْضِي إلى الدَّوْرِ وهو ساقِطٌ، سَلَّمْنا أنَّ القَوْمَ سَلَّمُوا صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوايَةِ لَكِنْ لَيْسَ في هَذِهِ الرِّوايَةِ إلّا أنَّإبْراهِيمَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَبْعَثَ رَسُولًا مِن ذُرِّيَّتِهِ وذُرِّيَّةِ إسْماعِيلَ، فَكَيْفَ القَطْعُ بِأنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ هو هَذا الشَّخْصُ ؟ فَلَعَلَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ، وإذا جازَ أنْ تَتَأخَّرَ إجابَةُ هَذا الدُّعاءِ بِمِقْدارِ ألْفَيْ سَنَةٍ، وهو الزَّمانُ الَّذِي بَيْنَ إبْراهِيمَ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَتَأخَّرَ بِمِقْدارِ ثَلاثَةِ آلافِ سَنَةٍ حَتّى يَكُونَ المَطْلُوبُ بِهَذا الدُّعاءِ شَخْصًا آخَرَ سِوى هَذا الشَّخْصِ المُعَيَّنِ ؟ . والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ: لَعَلَّ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ شاهِدانِ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّوايَةِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ اليَهُودُ والنَّصارى مِن أشَدِّ النّاسِ مُسارَعَةً إلى تَكْذِيبِهِ في هَذِهِ الدَّعْوى. وعَنِ الثّانِي: أنَّ المُعْتَمَدَ في إثْباتِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ظُهُورُ المُعْجِزِ عَلى يَدِهِ، وهو القُرْآنُ وإخْبارُهُ عَنِ الغُيُوبِ الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا نَبِيُّ مِثْلِ هَذِهِ الحِكاياتِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ تَجْرِي مَجْرى المُؤَكِّدِ لِلْمَقْصُودِ والمَطْلُوبِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في انْتِصابِ ”نَفْسَهُ“ قَوْلانِ: الأوَّلُ: لِأنَّهُ مَفْعُولٌ، قالَ المُبَرِّدُ: سَفَهَ لازِمٌ، وسَفِهَ مُتَعَدٍّ، وعَلى هَذا القَوْلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: امْتَهَنَها واسْتَخَفَّ بِها، وأصْلُ السَّفَهِ الخِفَّةُ، ومِنهُ زِمامٌ سَفِيهٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما جاءَ في الحَدِيثِ: ”«الكِبْرُ أنْ تُسَفِّهَ الحَقَّ وتَغْمِصَ النّاسَ» “ وذَلِكَ أنَّهُ إذا رَغِبَ عَمّا لا يَرْغَبُ عَنْهُ عاقِلٌ قَطُّ فَقَدْ بالَغَ في إزالَةِ نَفْسِهِ وتَعْجِيزِها، حَيْثُ خالَفَ بِها كُلَّ نَفْسٍ عاقِلَةٍ. والثّانِي: قالَ الحَسَنُ: إلّا مَن جَهِلَ نَفْسَهُ وخَسِرَ نَفْسَهُ، وحَقِيقَتُهُ أنَّهُ لا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن جَهِلَ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيها، فَيَسْتَدِلُّ بِما يَجِدُهُ فِيها مِن آثارِ الصَّنْعَةِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى وعَلى حِكْمَتِهِ، فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . والثّالِثُ: أهْلَكَ نَفْسَهُ وأوْبَقَها عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ. والرّابِعُ: أضَلَّ نَفْسَهُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ مَفْعُولًا وذَكَرُوا عَلى هَذا القَوْلِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ نَفْسَهُ نُصِبَ بِنَزْعِ الخافِضِ تَقْدِيرُهُ سَفِهَ في نَفْسِهِ. والثّانِي: أنَّهُ نُصِبَ عَلى التَّفْسِيرِ عَنِ الفَرّاءِ ومَعْناهُ سَفِهَ نَفْسًا ثُمَّ أضافَ وتَقْدِيرُهُ إلّا السَّفِيهَ، وذِكْرُ النَّفْسِ تَأْكِيدٌ كَما يُقالُ: هَذا الأمْرُ نَفْسَهُ والمَقْصُودُ مِنهُ المُبالَغَةُ في سَفَهِهِ. الثّالِثُ: قُرِئَ: (إلّا مَن سَفَّهَ نَفْسَهُ) بِتَشْدِيدِ الفاءِ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا حَكَمَ بِسَفاهَةِ مَن رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقالَ: ﴿ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا﴾ والمُرادُ بِهِ أنّا إذا اخْتَرْناهُ لِلرِّسالَةِ مِن دُونِ سائِرِ الخَلِيقَةِ، وعَرَّفْناهُ المِلَّةَ الَّتِي هي جامِعَةٌ لِلتَّوْحِيدِ والعَدْلِ والشَّرائِعِ والإمامَةِ الباقِيَةِ إلى قِيامِ السّاعَةِ ثُمَّ أُضِيفَ إلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَعالى فَشَرَّفَهُ اللَّهُ بِهَذا اللَّقَبِ الَّذِي فِيهِ نِهايَةُ الجَلالَةِ لِمَن نالَها مِن مَلِكٍ مِن مُلُوكِ البَشَرِ فَكَيْفَ مَن نالَها مِن مَلِكِ المُلُوكِ والشَّرائِعِ فَلْيُحَقِّقْ كُلُّ ذِي لُبٍّ وعَقْلٍ أنَّ الرّاغِبَ عَنْ مِلَّتِهِ فَهو سَفِيهٌ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ في الآخِرَةِ عَظِيمُ المَنزِلَةِ لِيَرْغَبَ في مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لِيَنالَ مِثْلَ تِلْكَ المَنزِلَةِ، وقِيلَ في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ وتَقْدِيرُهُ: ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّالِحِينَ، وإذا صَحَّ الكَلامُ مِن غَيْرِ تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ كانَ أوْلى، قالَ الحَسَنُ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ الكَرامَةَ وحُسْنَ الثَّوابِ عَلى كَرَمِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب