الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الثّالِثُ مِن كَيْدِ اليَهُودِ مَعَ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ «رُوِيَ أنَّ فِنْحاصَ بْنَ (p-٢١٤)عازُوراءَ»، وزَيْدَ بْنَ قَيْسٍ، ونَفَرًا مِنَ اليَهُودِ قالُوا لِحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ وعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ: ألَمْ تَرَوْا ما أصابَكم، ولَوْ كُنْتُمْ عَلى الحَقِّ ما هُزِمْتُمْ، فارْجِعُوا إلى دِينِنا فَهو خَيْرٌ لَكم وأفْضَلُ، ونَحْنُ أهْدى مِنكم سَبِيلًا، فَقالَ عَمّارٌ: كَيْفَ نَقْضُ العَهْدِ فِيكم ؟ قالُوا: شَدِيدٌ، قالَ: فَإنِّي قَدْ عاهَدْتُ أنِّي لا أكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ ما عِشْتُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: أمّا هَذا فَقَدَ صَبَأ، وقالَ حُذَيْفَةُ: وأمّا أنا فَقَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِالقُرْآنِ إمامًا، وبِالكَعْبَةِ قِبْلَةً، وبِالمُؤْمِنِينَ إخْوانًا، ثُمَّ أتَيا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأخْبَراهُ، فَقالَ: أصَبْتُما خَيْرًا وأفْلَحْتُما، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، واعْلَمْ أنّا نَتَكَلَّمُ أوَّلًا في الحَسَدِ ثُمَّ نَرْجِعُ إلى التَّفْسِيرِ. المَسْألَةُ الأُولى: في ذَمِّ الحَسَدِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أخْبارٌ كَثِيرَةٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الحَسَدُ يَأْكُلُ الحَسَناتِ كَما تَأْكُلُ النّارُ الحَطَبَ» “ . الثّانِي: قالَ أنَسٌ: ”«كُنّا يَوْمًا جالِسِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ مِن هَذا الفَجِّ رَجُلٌ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ تَنْظِفُ لِحْيَتُهُ مِن وُضُوئِهِ، وقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ في شِمالِهِ فَسَلَّمَ، فَلَمّا كانَ الغَدُ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وقالَ في اليَوْمِ الثّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَمّا قامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ فَقالَ: إنِّي تَأذَّيْتُ مِن أبِي فَأقْسَمْتُ لا أدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلاثًا، فَإنْ رَأيْتَ أنْ تَذْهَبَ بِي إلى دارِكَ فَعَلْتَ، قالَ: نَعَمْ، فَباتَ عِنْدَهُ ثَلاثَ لَيالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أنَّهُ إذا انْقَلَبَ عَلى فِراشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ ولا يَقُومُ حَتّى يَقُومَ لِصَلاةِ الفَجْرِ، غَيْرَ أنِّي لَمْ أسْمَعْهُ يَقُولُ إلّا خَيْرًا، فَلَمّا مَرَّتِ الثَّلاثُ، وكِدْتُ أنْ أحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وبَيْنَ والِدِي غَضَبٌ ولا هَجْرٌ، ولَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ كَذا وكَذا، فَأرَدْتُ أنْ أعْرِفَ عَمَلَكَ، فَلَمْ أرَكَ تَعْمَلُ عَمَلًا كَثِيرًا، فَما الَّذِي بَلَغَ بِكَ ذاكَ ؟ قالَ: ما هو إلّا ما رَأيْتَ. فَلَمّا ولَّيْتُ دَعانِي، فَقالَ: ما هو إلّا ما رَأيْتَ غَيْرَ أنِّي لَمْ أجِدْ عَلى أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ في نَفْسِي عَيْبًا ولا حَسَدًا عَلى خَيْرٍ أعْطاهُ اللَّهُ إيّاهُ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: هي الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وهي الَّتِي لا تُطاقُ» “ . الثّالِثُ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«دَبَّ إلَيْكم داءُ الأُمَمِ قَبْلَكم، الحَسَدُ والبَغْضاءُ، والبِغْضَةُ هي الحالِقَةُ، لا أقُولُ حالِقَةُ الشَّعْرِ، ولَكِنْ حالِقَةُ الدِّينِ» “ . الرّابِعُ: قالَ: ”«إنَّهُ سَيُصِيبُ أُمَّتِي داءُ الأُمَمِ، قالُوا: ما داءُ الأُمَمِ ؟ قالَ: الأشَرُ والبَطَرُ والتَّكاثُرُ والتَّنافُسُ في الدُّنْيا والتَّباعُدُ والتَّحاسُدُ حَتّى يَكُونَ البَغْيُ ثُمَّ الهَرْجُ» “ . الخامِسُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ذَهَبَ إلى رَبِّهِ رَأى في ظِلِّ العَرْشِ رَجُلًا يُغْبَطُ بِمَكانِهِ، وقالَ: إنَّ هَذا لَكَرِيمٌ عَلى رَبِّهِ، فَسَألَ رَبَّهُ أنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ، وقالَ: أُحَدِّثُكَ مِن عَمَلِهِ ثَلاثًا: كانَ لا يَحْسُدُ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، وكانَ لا يَعُقُّ والِدَيْهِ، ولا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. السّادِسُ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أعْداءً، قِيلَ: وما أُولَئِكَ ؟ قالَ: الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ» “ . السّابِعُ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النّارَ قَبْلَ الحِسابِ: الأُمَراءُ بِالجَوْرِ، والعَرَبُ بِالعَصَبِيَّةِ، والدَّهاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ، والتُّجّارُ بِالخِيانَةِ، وأهْلُ الرُّسْتاقِ بِالجَهالَةِ، والعُلَماءُ بِالحَسَدِ» “ . أمّا الآثارُ: فالأوَّلُ: حُكِيَ أنَّ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلى الفَضْلِ بْنِ المُهَلَّبِ، وكانَ يَوْمَئِذٍ عَلى واسِطَ، فَقالَ: إنِّي أُرِيدُ أنْ أعِظَكَ بِشَيْءٍ، إيّاكَ والكِبْرَ، فَإنَّهُ أوَّلُ ذَنْبٍ عَصى اللَّهَ بِهِ إبْلِيسُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى واسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: ٣٤] وإيّاكَ والحِرْصَ؛ فَإنَّهُ أخْرَجَ آدَمَ مِنَ الجَنَّةِ؛ أسْكَنَهُ اللَّهُ في جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ فَأكَلَ مِنها، فَأخْرَجَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿اهْبِطا مِنها﴾ [طه: ١٢٣] وإيّاكَ والحَسَدَ؛ فَإنَّهُ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أخاهُ حِينَ حَسَدَهُ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ﴾ [المائدة: ٢٧] . الثّانِي: (p-٢١٥)قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: ما حَسَدْتُ أحَدًا عَلى شَيْءٍ مِن أمْرِ الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَكَيْفَ أحْسُدُهُ عَلى الدُّنْيا وهي حَقِيرَةٌ في الجَنَّةِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النّارِ فَكَيْفَ أحْسُدُهُ عَلى أمْرِ الدُّنْيا وهو يَصِيرُ إلى النّارِ. الثّالِثُ: قالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: هَلْ يَحْسُدُ المُؤْمِنُ ؟ قالَ: ما أنْساكَ بَنِي يَعْقُوبَ، إلّا أنَّهُ لا يَضُرُّكَ ما لَمْ تُعِدَّ بِهِ يَدًا ولِسانًا. الرّابِعُ: قالَ مُعاوِيَةُ: كُلُّ النّاسِ أقْدَرُ عَلى رِضاهُ إلّا الحاسِدَ؛ فَإنَّهُ لا يُرْضِيهِ إلّا زَوالُ النِّعْمَةِ. الخامِسُ: قِيلَ: الحاسِدُ لا يَنالُ مِنَ المَجالِسِ إلّا مَذَمَّةً وذُلًّا، ولا يَنالُ مِنَ المَلائِكَةِ إلّا لَعْنَةً وبُغْضًا، ولا يَنالُ مِنَ الخَلْقِ إلّا جَزَعًا وغَمًّا، ولا يَنالُ عِنْدَ الفَزَعِ إلّا شِدَّةً وهَوْلًا، وعِنْدَ المَوْقِفِ إلّا فَضِيحَةً ونَكالًا. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في حَقِيقَةِ الحَسَدِ: إذا أنْعَمَ اللَّهُ عَلى أخِيكَ بِنِعْمَةٍ، فَإنْ أرَدْتَ زَوالَها، فَهَذا هو الحَسَدُ، وإنِ اشْتَهَيْتَ لِنَفْسِكَ مِثْلَها، فَهَذا هو الغِبْطَةُ والمُنافَسَةُ، أمّا الأوَّلُ فَحَرامٌ بِكُلِّ حالٍ، إلّا نِعْمَةً أصابَها فاجِرٌ أوْ كافِرٌ يَسْتَعِينُ بِها عَلى الشَّرِّ والفَسادِ، فَلا يَضُرُّكَ مَحَبَّتُكَ لِزَوالِها؛ فَإنَّكَ ما تُحِبُّ زَوالَها مِن حَيْثُ إنَّها نِعْمَةٌ، بَلْ مِن حَيْثُ إنَّها يُتَوَسَّلُ بِها إلى الفَسادِ والشَّرِّ والأذى. والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَسَدَ ما ذَكَرْنا آياتٌ: أحَدُها: هَذِهِ الآيَةُ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ فَأخْبَرَ أنَّ حُبَّهم زَوالَ نِعْمَةِ الإيمانِ حَسَدٌ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً﴾ [النساء: ٨٩] . وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَمْسَسْكم حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها﴾ [آل عمران: ١٢٠] وهَذا الفَرَحُ شَماتَةٌ، والحَسَدُ والشَّماتَةُ مُتَلازِمانِ. ورابِعُها: ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى حَسَدَ إخْوَةِ يُوسُفَ، وعَبَّرَ عَمّا في قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قالُوا لَيُوسُفُ وأخُوهُ أحَبُّ إلى أبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أبانا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أرْضًا يَخْلُ لَكم وجْهُ أبِيكُمْ﴾ [يوسف: ٩] فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ حَسَدَهم لَهُ عِبارَةٌ عَنْ كَراهَتِهِمْ حُصُولَ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَهُ. وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] أيْ لا تَضِيقُ بِهِ صُدُورُهم ولا يَغْتَمُّونَ، فَأثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الحَسَدِ. وسادِسُها: قالَ تَعالى في مَعْرِضِ الإنْكارِ: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] . وسابِعُها: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: ٢١٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٣] قِيلَ في التَّفْسِيرِ: حَسَدًا. وثامِنُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما تَفَرَّقُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ١٤] فَأنْزَلَ اللَّهُ العِلْمَ لِيُؤَلِّفَ بَيْنَهم عَلى طاعَتِهِ فَتَحاسَدُوا واخْتَلَفُوا، إذْ أرادَ كُلُّ واحِدٍ أنْ يَنْفَرِدَ بِالرِّياسَةِ وقَبُولِ القَوْلِ. وتاسِعُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتِ اليَهُودُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا قاتَلُوا قَوْمًا قالُوا: نَسْألُكَ بِالنَّبِيِّ الَّذِي وعَدْتَنا أنْ تُرْسِلَهُ، وبِالكِتابِ الَّذِي تُنْزِلُهُ إلّا تَنْصُرُنا، فَكانُوا يُنْصَرُونَ، فَلَمّا جاءَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ عَرَفُوهُ وكَفَرُوا بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ إيّاهُ، فَقالَ تَعالى: ﴿وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ [البقرة: ٩٠] أيْ حَسَدًا. «وقالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ: جاءَ أبِي وعَمِّي مِن عِنْدِكَ، فَقالَ أبِي لِعَمِّي: ما تَقُولُ فِيهِ ؟ قالَ: أقُولُ: إنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ: فَما تَرى ؟ قالَ: أرى مُعاداتَهُ أيّامَ الحَياةِ»، فَهَذا حُكْمُ الحَسَدِ. أمّا المُنافَسَةُ فَلَيْسَتْ بِحَرامٍ، وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّفاسَةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ بِحَرامٍ وُجُوهٌ: أوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦] . وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ وإنَّما المُسابَقَةُ عِنْدَ خَوْفِ الفَوْتِ، وهو كالعَبْدَيْنِ يَتَسابَقانِ إلى خِدْمَةِ مَوْلاهُما، إذْ يَجْزَعُ كُلُّ واحِدٍ أنْ يَسْبِقَهُ صاحِبُهُ، فَيَحْظى عِنْدَ مَوْلاهُ بِمَنزِلَةٍ لا يَحْظى هو بِها. وثالِثُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ (p-٢١٦)اللَّهُ مالًا فَأنْفَقَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ، ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهو يَعْمَلُ بِهِ ويُعَلِّمُهُ النّاسَ“» . وهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَفْظَ الحَسَدِ قَدْ يُطْلَقُ عَلى المُنافَسَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: المُنافَسَةُ قَدْ تَكُونُ واجِبَةً ومَندُوبَةً ومُباحَةً، أمّا الواجِبَةُ فَكَما إذا كانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ نِعْمَةً دِينِيَّةً واجِبَةً كالإيمانِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ، فَهَهُنا يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ كانَ راضِيًا بِالمَعْصِيَةِ، وذَلِكَ حَرامٌ، وأمّا إنْ كانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ الفَضائِلِ المَندُوبَةِ كالإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، والتَّشْمِيرِ لِتَعْلِيمِ النّاسِ، كانَتِ المُنافَسَةُ فِيها مَندُوبَةً، وأمّا إنْ كانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مِنَ المُباحاتِ كانَتِ المُنافَسَةُ فِيها مِنَ المُباحاتِ، وبِالجُمْلَةِ فالمَذْمُومُ أنْ يُحِبَّ زَوالَها عَنِ الغَيْرِ، فَأمّا أنْ يُحِبَّ حُصُولَها لَهُ، وزَوالَ النُّقْصانِ عَنْهُ، فَهَذا غَيْرُ مَذْمُومٍ، لَكِنَّ هَهُنا دَقِيقَةً، وهي أنَّ زَوالَ النُّقْصانِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلى الغَيْرِ لَهُ طَرِيقانِ: أحَدُهُما: أنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ ما حَصَلَ لِلْغَيْرِ. والثّانِي: أنْ يَزُولَ عَنِ الغَيْرِ ما لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإذا حَصَلَ اليَأْسُ عَنْ أحَدِ الطَّرِيقَيْنِ فَيَكادُ القَلْبُ لا يَنْفَكُّ عَنْ شَهْوَةِ الطَّرِيقِ الآخَرِ، فَهَهُنا إنْ وجَدَ قَلْبَهُ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ عَلى إزالَةِ تِلْكَ الفَضِيلَةِ عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَأزالَها، فَهو صاحِبُ الحَسَدِ المَذْمُومِ، وإنْ كانَ يَجِدُ قَلْبَهُ بِحَيْثُ تَرْدَعُهُ التَّقْوى عَنْ إزالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنِ الغَيْرِ فالمَرْجُوُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَعْفُوَ عَنْ ذَلِكَ، ولَعَلَّ هَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ثَلاثٌ لا يَنْفَكُّ المُؤْمِنُ عَنْهُنَّ: الحَسَدُ والظَّنُّ والطِّيَرَةُ، ثُمَّ قالَ: ولَهُ مِنهُنَّ مَخْرَجٌ، إذا حَسَدْتَ فَلا تَبْغِ» “، أيْ: إنْ وجَدْتَ في قَلْبِكَ شَيْئًا فَلا تَعْمَلْ بِهِ، فَهَذا هو الكَلامُ في حَقِيقَةِ الحَسَدِ، وكُلُّهُ مِن كَلامِ الشَّيْخِ الغَزالِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في مَراتِبِ الحَسَدِ، قالَ الغَزالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هي أرْبَعَةٌ: الأُولى: أنْ يُحِبَّ زَوالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ لَهُ، وهَذا غايَةُ الحَسَدِ. والثّانِيَةُ: أنْ يُحِبَّ زَوالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ إلَيْهِ، وذَلِكَ مِثْلُ رَغْبَتِهِ في دارٍ حَسَنَةٍ أوِ امْرَأةٍ جَمِيلَةٍ، أوْ وِلايَةٍ نافِذَةٍ نالَها غَيْرُهُ، وهو يُحِبُّ أنْ تَكُونَ لَهُ، فالمَطْلُوبُ بِالذّاتِ حُصُولُهُ لَهُ، فَأمّا زَوالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَطْلُوبٌ بِالعَرَضِ. الثّالِثَةُ: أنْ لا يَشْتَهِي عَنْها بَلْ يَشْتَهِي لِنَفَسِهِ مِثْلَها، فَإنْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِها أحَبَّ زَوالَها لِكَيْ لا يَظْهَرُ التَّفاوُتُ بَيْنَهُما. الرّابِعَةُ: أنْ يَشْتَهِيَ لِنَفَسِهِ مِثْلَها، فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ فَلا يُحِبُّ زَوالَها، وهَذا الأخِيرُ هو المَعْفُوُّ عَنْهُ إنْ كانَ في الدُّنْيا، والمَندُوبُ إلَيْهِ إنْ كانَ في الدِّينِ، والثّالِثَةُ مِنها مَذْمُومَةٌ وغَيْرُ مَذْمُومَةٍ، والثّانِيَةُ أخَفُّ مِنَ الثّالِثَةِ، والأوَّلُ مَذْمُومٌ مَحْضٌ؛ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٢] فَتَمَنِّيهِ لِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وأمّا تَمَنِّيهِ عَيْنَ ذَلِكَ فَهو مَذْمُومٌ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ذَكَرَ الشَّيْخُ الغَزالِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلْحَسَدِ سَبْعَةَ أسْبابٍ: السَّبَبُ الأوَّلُ: العَداوَةُ والبَغْضاءُ، فَإنَّ مَن آذاهُ إنْسانٌ أبْغَضَهُ قَلْبُهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ الغَضَبُ يُوَلِّدُ الحِقْدَ، والحِقْدُ يَقْتَضِي التَّشَفِّيَ والِانْتِقامَ، فَإنْ عَجَزَ المُبْغِضُ عَنِ التَّشَفِّي بِنَفْسِهِ أحَبَّ أنْ يَتَشَفّى مِنهُ الزَّمانُ، فَمَهْما أصابَ عَدُوَّهُ آفَةٌ وبَلاءٌ فَرِحَ، ومَهْما أصابَتْهُ نِعْمَةٌ ساءَتْهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ ضِدُّ مُرادِهِ، فالحَسَدُ مِن لَوازِمِ البُغْضِ والعَداوَةِ، ولا يُفارِقُهُما، وأقْصى الإمْكانِ في هَذا البابِ أنْ لا يُظْهِرَ تِلْكَ العَداوَةَ مِن نَفْسِهِ، وأنْ يَكْرَهَ تِلْكَ الحالَةَ مِن نَفْسِهِ، فَأمّا أنْ يُبْغِضَ إنْسانًا ثُمَّ تَسْتَوِي عِنْدَهُ مَسَرَّتُهُ ومَساءَتُهُ، فَهَذا غَيْرُ مُمْكِنٍ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ الحَسَدِ هو الَّذِي وصَفَ اللَّهُ الكُفّارَ بِهِ، إذْ قالَ: ﴿وإذا لَقُوكم قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكم إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿إنْ تَمْسَسْكم حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها﴾ [آل عمران: ١١٩، ١٢٠] وكَذا قالَ: ﴿ودُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضاءُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] . واعْلَمْ أنَّ الحَسَدَ رُبَّما أفْضى إلى التَّنازُعِ والتَّقاتُلِ. (p-٢١٧)السَّبَبُ الثّانِي: التَّعَزُّزُ، فَإنَّ واحِدًا مِن أمْثالِهِ إذا نالَ مَنصِبًا عالِيًا تَرَفَّعُ عَلَيْهِ، وهو لا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، فَيُرِيدُ زَوالَ ذَلِكَ المَنصِبِ عَنْهُ، ولَيْسَ مِن غَرَضِهِ أنْ يَتَكَبَّرَ، بَلْ غَرَضُهُ أنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ، فَإنَّهُ قَدْ يَرْضى بِمُساواتِهِ، ولَكِنَّهُ لا يَرْضى بِتَرَفُّعِهِ عَلَيْهِ. السَّبَبُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ في طَبِيعَتِهِ أنْ يَسْتَخْدِمَ غَيْرَهُ، فَيُرِيدُ زَوالَ النِّعْمَةِ مِن ذَلِكَ الغَيْرِ لِيَقْدِرَ عَلى ذَلِكَ الغَرَضِ، ومِن هَذا البابِ كانَ حَسَدُ أكْثَرِ الكُفّارِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذْ قالُوا: كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنا غُلامٌ يَتِيمٌ، وكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رُءُوسَنا ؟ فَقالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] وقالَ تَعالى يَصِفُ قَوْلَ قُرَيْشٍ: ﴿أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا﴾ [الأنعام: ٥٣] كالِاسْتِحْقارِ بِهِمْ والأنَفَةِ مِنهم. السَّبَبُ الرّابِعُ: التَّعَجُّبُ كَما أخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، إذْ قالُوا: ﴿ما أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [يس: ١٥]، وقالُوا: ﴿أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٧]، وقالُوا مُتَعَجِّبِينَ: ﴿أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤] وقالُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ﴾ [الفرقان: ٢١] وقالَ: ﴿أوَعَجِبْتُمْ أنْ جاءَكم ذِكْرٌ مِن رَبِّكم عَلى رَجُلٍ مِنكم لِيُنْذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٦٣] . السَّبَبُ الخامِسُ: الخَوْفُ مِن فَوْتِ المَقاصِدِ، وذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالمُتَزاحِمِينَ عَلى مَقْصُودٍ واحِدٍ، فَإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَحْسُدُ صاحِبَهُ في كُلِّ نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ في الِانْفِرادِ بِمَقْصُودِهِ، ومِن هَذا البابِ تَحاسُدُ الضَّرّاتِ في التَّزاحُمِ عَلى مَقاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وتَحاسُدُ الإخْوَةِ في التَّزاحُمِ عَلى نَيْلِ المَنزِلَةِ في قُلُوبِ الأبَوَيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إلى مَقاصِدِ المالِ والكَرامَةِ، وكَذَلِكَ تَحاسُدُ الواعِظِينَ المُتَزاحِمِينَ عَلى أهْلِ بَلْدَةٍ واحِدَةٍ، إذْ كانَ غَرَضُهُما نَيْلَ المالِ والقَبُولِ عِنْدَهم. السَّبَبُ السّادِسُ: حُبُّ الرِّياسَةِ وطَلَبُ الجاهِ نَفْسِهِ مِن غَيْرِ تَوَسُّلٍ بِهِ إلى مَقْصُودِهِ، وذَلِكَ كالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ في فَنٍّ مِنَ الفُنُونِ، فَإنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ في أقْصى العالَمِ ساءَهُ ذَلِكَ، وأحَبَّ مَوْتَهُ وزَوالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِها يُشارِكُهُ في المَنزِلَةِ مِن شَجاعَةٍ أوْ عِلْمٍ أوْ زُهْدٍ أوْ ثَرْوَةٍ، ويَفْرَحُ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ. السَّبَبُ السّابِعُ: شُحُّ النَّفْسِ بِالخَيْرِ عَلى عِبادِ اللَّهِ، فَإنَّكَ تَجِدُ مَن لا يَشْتَغِلُ بِرِياسَةٍ ولا بِكِبْرٍ ولا بِطَلَبِ مالٍ، إذا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حالِ عَبْدٍ مِن عِبادِ اللَّهِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وإذا وُصِفَ اضْطِرابُ أُمُورِ النّاسِ وإدْبارُهم وتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ، فَهو أبَدًا يُحِبُّ الإدْبارَ لِغَيْرِهِ، ويَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ، كَأنَّهم يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِن مِلْكِهِ وخِزانَتِهِ، ويُقالُ: البَخِيلُ مَن بَخِلَ بِمالِ غَيْرِهِ، فَهَذا يَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ لا عَداوَةٌ ولا رابِطَةٌ، وهَذا لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظاهِرٌ إلّا خُبْثُ النَّفْسِ، ورَذالَةُ جِبِلَّتِهِ في الطَّبْعِ؛ لِأنَّ سائِرَ أنْواعِ الحَسَدِ يُرْجى زَوالُهُ لِإزالَةِ سَبَبِهِ، وهَذا خُبْثٌ في الجِبِلَّةِ لا عَنْ سَبَبٍ عارِضٍ فَتَعْسُرُ إزالَتُهُ. فَهَذِهِ هي أسْبابُ الحَسَدِ، وقَدْ يَجْتَمِعُ بَعْضُ هَذِهِ الأسْبابِ أوْ أكْثَرُها أوْ جَمِيعُها في شَخْصٍ واحِدٍ، فَيَعْظُمُ فِيهِ الحَسَدُ، ويَقْوى قُوَّةً لا يَقْوى صاحِبُها مَعَها عَلى الإخْفاءِ والمُجامَلَةِ، بَلْ يَهْتِكُ حِجابَ المُجامَلَةِ، ويُظْهِرُ العَداوَةَ بِالمُكاشَفَةِ، وأكْثَرُ المُحاسَداتِ تَجْتَمِعُ فِيها جُمْلَةٌ مِن هَذِهِ الأسْبابِ، وقَلَّما يَتَجَرَّدُ واحِدٌ مِنها. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في سَبَبِ كَثْرَةِ الحَسَدِ وقِلَّتِهِ وقُوَّتِهِ وضَعْفِهِ. اعْلَمْ أنَّ الحَسَدَ إنَّما يَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَكْثُرُ فِيهِمُ الأسْبابُ الَّتِي ذَكَرْناها، إذِ الشَّخْصُ الواحِدُ يَجُوزُ أنْ يَحْسُدَ لِأنَّهُ يَمْتَنِعُ مِن قَوْلِ المُتَكَبِّرِ، ولِأنَّهُ يَتَكَبَّرُ، ولِأنَّهُ (p-٢١٨)عَدُوٌّ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأسْبابِ، وهَذِهِ الأسْبابُ إنَّما تَكْثُرُ بَيْنَ قَوْمٍ تَجْمَعُهم رَوابِطُ يَجْتَمِعُونَ بِسَبَبِها في مَجالِسِ المُخاطَباتِ، ويَتَوارَدُونَ عَلى الأغْراضِ، والمُنازَعَةُ مَظِنَّةُ المُنافَرَةِ، والمُنافَرَةُ مُؤَدِّيَةٌ إلى الحَسَدِ، فَحَيْثُ لا مُخالَطَةَ فَلَيْسَ هُناكَ مُحاسَدَةٌ، ولَمّا لَمْ تُوجَدِ الرّابِطَةُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ في بَلَدَيْنِ لا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما مُحاسَدَةٌ، فَلِذَلِكَ تَرى العالِمَ يَحْسُدُ العالِمَ دُونَ العابِدِ، والعابِدَ يَحْسُدُ العابِدَ دُونَ العالِمِ، والتّاجِرَ يَحْسُدُ التّاجِرَ، بَلِ الإسْكافُ يَحْسُدُ الإسْكافَ، ولا يَحْسُدُ البَزّازَ، ويَحْسُدُ الرَّجُلُ أخاهُ وابْنَ عَمِّهِ أكْثَرَ مِمّا يَحْسُدُ الأجانِبَ، والمَرْأةُ تَحْسُدُ ضَرَّتَها وسُرِّيَّةَ زَوْجِها أكْثَرَ مِمّا تَحْسُدُ أُمَّ الزَّوْجِ وابْنَتَهُ؛ لِأنَّ مَقْصِدَ البَزّازِ غَيْرُ مَقْصِدِ الإسْكافِ؛ فَلا يَتَزاحَمُونَ عَلى المَقاصِدِ، ثُمَّ مُزاحَمَةُ البَزّازِ المُجاوِرِ لَهُ أكْثَرُ مِن مُزاحَمَةِ البَعِيدِ عَنْهُ إلى طَرَفِ السُّوقِ، وبِالجُمْلَةِ فَأصْلُ الحَسَدِ العَداوَةُ، وأصْلُ العَداوَةِ التَّزاحُمُ عَلى غَرَضٍ واحِدٍ، والغَرَضُ الواحِدُ لا يَجْمَعُ مُتَباعِدَيْنِ، بَلْ لا يَجْمَعُ إلّا مُتَناسِبَيْنِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الحَسَدُ بَيْنَهم، نَعَمْ مَنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلى الجاهِ العَرِيضِ والصِّيتِ في أطْرافِ العالَمِ، فَإنَّهُ يَحْسُدُ كُلَّ مَن في العالَمِ مِمَّنْ يُشارِكُهُ في الخَصْلَةِ الَّتِي يَتَفاخَرُ بِها، أقُولُ: والسَّبَبُ الحَقِيقِيُّ فِيهِ أنَّ الكَمالَ مَحْبُوبٌ بِالذّاتِ، وضِدُّ المَحْبُوبِ مَكْرُوهٌ، ومِن جُمْلَةِ أنْواعِ الكَمالِ التَّفَرُّدُ بِالكَمالِ، فَلا جَرَمَ كانَ الشَّرِيكُ في الكَمالِ مُبَغَّضًا لِكَوْنِهِ مُنازِعًا في الفَرْدانِيَّةِ الَّتِي هي مِن أعْظَمِ أبْوابِ الكَمالِ، إلّا أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنَ الكَمالِ لَمّا امْتَنَعَ حُصُولُهُ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ، ووَقَعَ اليَأْسُ عَنْهُ فاخْتَصَّ الحَسَدُ بِالأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الدُّنْيا لا تَفِي بِالمُتَزاحِمِينَ، أمّا الآخِرَةُ فَلا ضِيقَ فِيها، وإنَّما مِثالُ الآخِرَةِ نِعْمَةُ العِلْمِ، فَلا جَرَمَ مَن يُحِبُّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى ومَعْرِفَةَ صِفاتِهِ ومَلائِكَتِهِ، فَلا يَحْسُدُ غَيْرَهُ إذا عَرَفَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ المَعْرِفَةَ لا تَضِيقُ عَلى العارِفِينَ، بَلِ المَعْلُومُ الواحِدُ يَعْرِفُهُ ألْفُ ألْفٍ، ويَفْرَحُ بِمَعْرِفَتِهِ، ويَلْتَذُّ بِهِ، ولا تَنْقُصُ لَذَّةُ أحَدٍ بِسَبَبِ غَيْرِهِ، بَلْ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ العارِفِينَ زِيادَةُ الأُنْسِ، فَلِذَلِكَ لا يَكُونُ بَيْنَ عُلَماءِ الدِّينِ مُحاسَدَةٌ؛ لِأنَّ مَقْصِدَهم مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وهي بَحْرٌ واسِعٌ لا ضِيقَ فِيها، وغَرَضُهُمُ المَنزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ ولا ضِيقَ فِيها، نَعَمْ إذا قَصَدَ العُلَماءُ بِالعِلْمِ المالَ والجاهَ تَحاسَدُوا؛ لِأنَّ المالَ أعْيانٌ إذا وقَعَتْ في يَدِ واحِدٍ خَلَتْ عَنْها يَدُ الآخَرِ، ومَعْنى الجاهِ مَلْءُ القُلُوبِ، ومَهْما امْتَلَأ قَلْبُ شَخْصٍ بِتَعْظِيمِ عالِمٍ انْصَرَفَ عَنْ تَعْظِيمِ الآخَرِ، أمّا إذا امْتَلَأ قَلْبٌ بِالفَرَحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُ غَيْرِهِ، وأنْ يَفْرَحَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِعَدَمِ الحَسَدِ فَقالَ: ﴿ونَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ إخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧] . * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: في الدَّواءِ المُزِيلِ لِلْحَسَدِ، وهو أمْرانِ: العِلْمُ والعَمَلُ. أمّا العِلْمُ فَفِيهِ مَقامانِ: إجْمالِيٌّ، وتَفْصِيلِيٌّ، أمّا الإجْمالِيُّ فَهو أنْ يَعْلَمَ أنَّ كُلَّ ما دَخَلَ في الوُجُودِ فَقَدْ كانَ ذَلِكَ مِن لَوازِمِ قَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ؛ لِأنَّ المُمْكِنَ ما لَمْ يَنْتَهِ إلى الواجِبِ لَمْ يَقِفْ، ومَتى كانَ كَذَلِكَ فَلا فائِدَةَ في النَّفْرَةِ عَنْهُ، وإذا حَصَلَ الرِّضا بِالقَضاءِ زالَ الحَسَدُ. وأمّا التَّفْصِيلِيُّ فَهو أنْ تَعْلَمَ أنَّ الحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ في الدِّينِ والدُّنْيا، وأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَلى المَحْسُودِ ضَرَرٌ في الدِّينِ والدُّنْيا، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ في الدِّينِ والدُّنْيا، أمّا أنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْكَ في الدِّينِ فَمِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّكَ بِالحَسَدِ كَرِهْتَ حُكْمَ اللَّهِ ونازَعْتَهُ في قِسْمَتِهِ الَّتِي قَسَمَها لِعِبادِهِ، وعَدْلِهِ الَّذِي أقامَهُ في خَلْقِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ، وهَذِهِ جِنايَةٌ عَلى حَدَقَةِ التَّوْحِيدِ، وقَذًى في عَيْنِ الإيمانِ. وثانِيها: أنَّكَ إنْ غَشَشْتَ رَجُلًا مِنَ المُؤْمِنِينَ فارَقْتَ أوْلِياءَ اللَّهِ في حُبِّهِمُ الخَيْرَ لِعِبادِ اللَّهِ، وشارَكْتَ إبْلِيسَ وسائِرَ الكُفّارِ في مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ البَلايا. وثالِثُها: العِقابُ العَظِيمُ المُرَتَّبُ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ، وأمّا كَوْنُهُ ضَرَرًا عَلَيْكَ في الدُّنْيا فَهو أنَّكَ بِسَبَبِ الحَسَدِ لا تَزالُ تَكُونُ في الغَمِّ والكَمَدِ، وأعْداؤُكَ لا يُخَلِّيهِمُ اللَّهُ مِن أنْواعِ النِّعَمِ، فَلا تَزالُ تَتَعَذَّبُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ (p-٢١٩)تَراها وتَتَألَّمُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ تَنْصَرِفُ عَنْهم، فَتَبْقى أبَدًا مَغْمُومًا مَهْمُومًا، فَقَدْ حَصَلَ لَكَ ما أرَدْتَ حُصُولَهُ لِأعْدائِكَ وأرادَ أعْداؤُكَ حُصُولَهُ لَكَ فَقَدْ كُنْتَ تُرِيدُ المِحْنَةَ لِعَدُوِّكَ فَسَعَيْتَ في تَحْصِيلِ المِحْنَةِ لِنَفْسِكَ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الغَمَّ إذا اسْتَوْلى عَلَيْكَ أمْرَضَ بَدَنَكَ وأزالَ الصِّحَّةَ عَنْكَ، وأوْقَعَكَ في الوَساوِسِ ونَغَّصَ عَلَيْكَ لَذَّةَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ. وأمّا أنَّهُ لا ضَرَرَ عَلى المَحْسُودِ في دِينِهِ ودُنْياهُ فَواضِحٌ؛ لِأنَّ النِّعْمَةَ لا تَزُولُ عَنْهُ بِحَسَدِكَ، بَلْ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ مِن إقْبالٍ ونِعْمَةٍ فَلا بُدَّ وأنْ يَدُومَ إلى أجَلٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ، فَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، ولِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ، ومَهْما لَمْ تَزُلِ النِّعْمَةُ بِالحَسَدِ لَمْ يَكُنْ عَلى المَحْسُودِ ضَرَرٌ في الدُّنْيا، ولا عَلَيْهِ إثْمٌ في الآخِرَةِ، ولَعَلَّكَ تَقُولُ: لَيْتَ النِّعْمَةَ كانَتْ لِي، وتَزُولُ عَنِ المَحْسُودِ بِحَسَدِي، وهَذا غايَةُ الجَهْلِ، فَإنَّهُ بَلاءٌ تَشْتَهِيهِ أوَّلًا لِنَفْسِكَ، فَإنَّكَ أيْضًا لا تَخْلُو عَنْ عَدُوٍّ يَحْسُدُكَ، فَلَوْ زالَتِ النِّعْمَةُ بِالحَسَدِ لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ عَلَيْكَ نِعْمَةٌ، لا في الدِّينِ ولا في الدُّنْيا، وإنِ اشْتَهَيْتَ أنْ تَزُولَ النِّعْمَةُ عَنِ الخَلْقِ بِحَسَدِكَ، ولا تَزُولَ عَنْكَ بِحَسَدِ غَيْرِكَ، فَهَذا أيْضًا جَهْلٌ، فَإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن حَمْقى الحُسّادِ يَشْتَهِي أنْ يَخْتَصَّ بِهَذِهِ الخاصِّيَّةِ، ولَسْتَ أوْلى بِذَلِكَ مِنَ الغَيْرِ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ في أنْ لَمْ يُزِلِ النِّعْمَةَ بِالحَسَدِ مِمّا يَجِبُ شُكْرُها عَلَيْكَ، وأنْتَ بِجَهْلِكَ تَكْرَهُها. وأمّا أنَّ المَحْسُودَ يَنْتَفِعُ بِهِ في الدِّينِ والدُّنْيا فَواضِحٌ، أمّا مَنفَعَتُهُ في الدِّينِ فَهو أنَّهُ مَظْلُومٌ مِن جِهَتِكَ لا سِيَّما إذا أخْرَجْتَ الحَسَدَ إلى القَوْلِ والفِعْلِ بِالغِيبَةِ، والقَدْحِ فِيهِ وهَتْكِ سِتْرِهِ، وذِكْرِ مَساوِئِهِ، فَهي هَدايا يُهْدِيها اللَّهُ إلَيْهِ، أعْنِي أنَّكَ تُهْدِي إلَيْهِ حَسَناتِكَ، فَإنَّكَ كُلَّما ذَكَرْتَهُ بِسُوءٍ، نَقَلَ إلى دِيوانِهِ حَسَناتِكَ، وازْدادَتْ سَيِّئاتُكَ، فَكَأنَّكَ اشْتَهَيْتَ زَوالَ نِعَمِ اللَّهِ عَنْهُ إلَيْكَ، فَأُزِيلَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَنْكَ إلَيْهِ، ولَمْ تَزَلْ في كُلِّ حِينٍ وأوانٍ تَزْدادُ شَقاوَةً، وأمّا مَنفَعَتُهُ في الدُّنْيا فَمِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ أهَمَّ أغْراضِ الخَلْقِ مَساءَةُ الأعْداءِ وكَوْنُهم مَغْمُومِينَ مُعَذَّبِينَ ولا عَذابَ أعْظَمُ مِمّا أنْتَ فِيهِ مِن ألَمِ الحَسَدِ، بَلِ العاقِلُ لا يَشْتَهِي مَوْتَ عَدُوِّهِ، بَلْ يُرِيدُ طُولَ حَياتِهِ؛ لِيَكُونَ في عَذابِ الحَسَدِ، لِيَنْظُرَ في كُلِّ حِينٍ وأوانٍ إلى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَيَتَقَطَّعَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، ولِذَلِكَ قِيلَ: ؎لا ماتَ أعْداؤُكَ بَلْ خُلِّدُوا حَتّى يَرَوْا مِنكَ الَّذِي يُكْمِدُ ؎لا زِلْتَ مَحْسُودًا عَلى نِعْمَةٍ ∗∗∗ فَإنَّما الكامِلُ مَن يُحْسَدُ الثّانِي: أنَّ النّاسَ يَعْلَمُونَ أنَّ المَحْسُودَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ ذا نِعْمَةٍ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِحَسَدِ الحاسِدِ عَلى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا مِن عِنْدِ اللَّهِ بِأنْواعِ الفَضائِلِ والمَناقِبِ، وأعْظَمُ الفَضائِلِ مِمّا لا يُسْتَطاعُ دَفْعُهُ، وهو الَّذِي يُورِثُ الحَسَدَ فَصارَ الحَسَدُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى اتِّصافِ المَحْسُودِ بِأنْواعِ الفَضائِلِ والمَناقِبِ. الثّالِثُ: أنَّ الحاسِدَ يَصِيرُ مَذْمُومًا بَيْنَ الخَلْقِ مَلْعُونًا عِنْدَ الخالِقِ، وهَذا مِن أعْظَمِ المَقاصِدِ لِلْمَحْسُودِ. الرّابِعُ: وهو أنَّهُ سَبَبٌ لِازْدِيادِ مَسَرَّةِ إبْلِيسَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الحاسِدَ لَمّا خَلا عَنِ الفَضائِلِ الَّتِي اخْتَصَّ المَحْسُودُ بِها، فَإنْ رَضِيَ بِذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الثَّوابَ العَظِيمَ، فَخافَ إبْلِيسُ مِن أنْ يَرْضى بِذَلِكَ فَيَصِيرَ مُسْتَوْجِبًا لِذَلِكَ الثَّوابِ، فَلَمّا لَمْ يَرْضَ بِهِ بَلْ أظْهَرَ الحَسَدَ فاتَهُ ذَلِكَ الثَّوابُ واسْتَوْجَبَ العِقابَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَرَحِ إبْلِيسَ، وغَضَبِ اللَّهِ تَعالى. الخامِسُ: أنَّكَ عَساكَ تَحْسُدُ رَجُلًا مِن أهْلِ العِلْمِ، وتُحِبُّ أنْ يُخْطِئَ في دِينِ اللَّهِ، وتَكْشِفَ خَطَأهُ لِيُفْتَضَحَ، وتُحِبُّ أنْ يُخْرَسَ لِسانُهُ حَتّى لا يَتَكَلَّمَ، أوْ يَمْرَضَ حَتّى لا يُعَلِّمَ ولا يَتَعَلَّمَ، وأيُّ إثْمٍ يَزِيدُ عَلى ذَلِكَ، وأيُّ مَرْتَبَةٍ أخَسُّ مِن هَذِهِ. وقَدْ ظَهَرَ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ أيُّها الحاسِدُ أنَّكَ بِمَثابَةِ مَن يَرْمِي حَجَرًا إلى عَدُوِّهِ لِيُصِيبَ بِهِ مَقْتَلَهُ فَلا يُصِيبُهُ، بَلْ يَرْجِعُ إلى حَدَقَتِهِ اليُمْنى فَيَقْلَعُها، فَيَزْدادُ غَضَبُهُ، فَيَعُودُ ويَرْمِيهِ ثانِيًا أشَدَّ مِنَ الأوَّلِ، فَيَرْجِعُ الحَجَرُ عَلى عَيْنِهِ الأُخْرى فَيُعْمِيهِ، فَيَزْدادُ غَيْظُهُ ويَعُودُ ثالِثًا، فَيَعُودُ عَلى رَأْسِهِ فَيَشُجُّهُ، وعَدُوُّهُ سالِمٌ في كُلِّ الأحْوالِ، والوَبالُ راجِعٌ إلَيْهِ دائِمًا، (p-٢٢٠)وأعْداؤُهُ حَوالَيْهِ يَفْرَحُونَ بِهِ ويَضْحَكُونَ عَلَيْهِ، بَلْ حالُ الحاسِدِ أقْبَحُ مِن هَذا؛ لِأنَّ الحَجَرَ العائِدَ لَمْ يُفَوِّتْ إلّا العَيْنَ، ولَوْ بَقِيَتْ لَفاتَتْ بِالمَوْتِ، وأمّا حَسَدُهُ فَإنَّهُ يَسُوقُ إلى غَضَبِ اللَّهِ وإلى النّارِ، فَلَأنْ تَذْهَبَ عَيْنُهُ في الدُّنْيا خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يَبْقى لَهُ عَيْنٌ ويَدْخُلَ بِها النّارَ، فانْظُرْ كَيْفَ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنَ الحاسِدِ إذا أرادَ زَوالَ النِّعْمَةِ عَنِ المَحْسُودِ، فَما أزالَها عَنْهُ، ثُمَّ أزالَ نِعْمَةَ الحاسِدِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] فَهَذِهِ الأدْوِيَةُ العِلْمِيَّةُ فَمَهْما تَفَكَّرَ الإنْسانُ فِيها بِذِهْنٍ صافٍ وقَلْبٍ حاضِرٍ انْطَفَأ مِن قَلْبِهِ نارُ الحَسَدِ، وأمّا العَمَلُ النّافِعُ فَهو أنْ يَأْتِيَ بِالأفْعالِ المُضادَّةِ لِمُقْتَضَياتِ الحَسَدِ، فَإنْ بَعَثَهُ الحَسَدُ عَلى القَدْحِ فِيهِ كَلَّفَ لِسانَهُ المَدْحَ لَهُ، وإنْ حَمَلَهُ عَلى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ كَلَّفَ نَفْسَهُ التَّواضُعَ لَهُ، وإنْ حَمَلَهُ عَلى قَطْعِ أسْبابِ الخَيْرِ عَنْهُ كَلَّفَ نَفْسَهُ السَّعْيَ في إيصالِ الخَيْراتِ إلَيْهِ، فَمَهْما عَرَفَ المَحْسُودُ ذَلِكَ طابَ قَلْبُهُ وأحَبَّ الحاسِدَ، وذَلِكَ يُفْضِي آخِرَ الأمْرِ إلى زَوالِ الحَسَدِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المَحْسُودَ إذا أحَبَّ الحاسِدَ فَعَلَ ما يُحِبُّهُ الحاسِدُ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الحاسِدُ مُحِبًّا لِلْمَحْسُودِ، ويَزُولُ الحَسَدُ حِينَئِذٍ. الثّانِي: أنَّ الحاسِدَ إذا أتى بِضِدِّ مُوجِباتِ الحَسَدِ عَلى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ يَصِيرُ ذَلِكَ بِالآخِرَةِ طَبْعًا لَهُ فَيَزُولُ الحَسَدُ عَنْهُ. * * * المَسْألَةُ السّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ النَّفْرَةَ القائِمَةَ بِقَلْبِ الحاسِدِ مِنَ المَحْسُودِ أمْرٌ غَيْرُ داخِلٍ في وُسْعِهِ، فَكَيْفَ يُعاقَبُ عَلَيْهِ ؟ وأمّا الَّذِي في وُسْعِهِ أمْرانِ: أحَدُهُما: كَوْنُهُ راضِيًا بِتِلْكَ النَّفْرَةِ. والثّانِي: إظْهارُ آثارِ تِلْكَ النَّفْرَةِ مِنَ القَدْحِ فِيهِ، والقَصْدُ إلى إزالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ، وجَرُّ أسْبابِ المَحَبَّةِ إلَيْهِ، فَهَذا هو الدّاخِلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، ولْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ: أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا﴾ فالمُرادُ أنَّهم كانُوا يُرِيدُونَ رُجُوعَ المُؤْمِنِينَ عَنِ الإيمانِ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهم أنَّ الإيمانَ صَوابٌ وحَقٌّ، والعالِمُ بِأنَّ غَيْرَهُ عَلى حَقٍّ لا يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ رَدَّهُ عَنْهُ إلّا بِشُبْهَةٍ يُلْقِيها إلَيْهِ؛ لِأنَّ المُحِقَّ لا يَعْدِلُ عَنِ الحَقِّ إلّا بِشُبْهَةٍ، والشُّبْهَةُ ضَرْبانِ: أحَدُهُما: ما يَتَّصِلُ بِالدُّنْيا، وهو أنْ يُقالَ لَهم: قَدْ عَلِمْتُمْ ما نَزَلَ بِكم مِن إخْراجِكم مِن دِيارِكم، وضِيقِ الأمْرِ عَلَيْكم واسْتِمْرارِ المَخافَةِ بِكم، فاتْرُكُوا الإيمانَ الَّذِي ساقَكم إلى هَذِهِ الأشْياءِ. والثّانِي: في بابِ الدِّينِ، بِطَرْحِ الشُّبَهِ في المُعْجِزاتِ أوْ تَحْرِيفِ ما في التَّوْراةِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ حُبَّهم لِأنْ يَرْجِعُوا عَنِ الإيمانِ - إنَّما كانَ لِأجْلِ الحَسَدِ. قالَ الجُبّائِيُّ: عَنى بِقَوْلِهِ: ﴿كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ أنَّهم لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ مِن قِبَلِهِ تَعالى، وأنَّ كُفْرَهم هو فِعْلُهم، لا مِن خَلْقِ اللَّهِ فِيهِمْ، والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ”ودَّ“ عَلى مَعْنى أنَّهم أحَبُّوا ذَلِكَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهم أنَّكم عَلى الحَقِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَمَنِّيهِمْ مِن قِبَلِ طَلَبِ الحَقِّ ؟ . الثّانِي: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”حَسَدًا“، أيْ: حَسَدًا عَظِيمًا مُنْبَعِثًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ اليَهُودَ بَعْدَما أرادُوا صَرْفَ المُؤْمِنِينَ عَنِ الإيمانِ (p-٢٢١)احْتالُوا في ذَلِكَ بِإلْقاءِ الشُّبَهِ عَلى ما بَيَّنّاهُ، ولا يَجُوزُ أنْ يَأْمُرَهم تَعالى بِالعَفْوِ والصَّفْحِ عَلى وجْهِ الرِّضا بِما فَعَلُوا؛ لِأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى أحَدِ أمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ تَرْكُ المُقابَلَةِ والإعْراضُ عَنِ الجَوابِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أقْرَبُ إلى تَسْكِينِ الثّائِرَةِ في الوَقْتِ، فَكَأنَّهُ تَعالى أمَرَ الرَّسُولَ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ عَنِ اليَهُودِ، فَكَذا أمَرَهُ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ عَنْ مُشْرِكِي العَرَبِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤] وقَوْلِهِ: ﴿واهْجُرْهم هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: ١٠] ولِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عَلى الدَّوامِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِغايَةٍ فَقالَ: ﴿حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ المُجازاةُ يَوْمَ القِيامَةِ عَنِ الحَسَنِ. وثانِيها: أنَّهُ قُوَّةُ الرَّسُولِ وكَثْرَةُ أُمَّتِهِ. وثالِثُها: وهو قَوْلُ أكْثَرِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، أنَّهُ الأمْرُ بِالقِتالِ؛ لِأنَّ عِنْدَهُ يَتَعَيَّنُ أحَدُ أمْرَيْنِ: إمّا الإسْلامُ، وإمّا الخُضُوعُ لِدَفْعِ الجِزْيَةِ وتَحَمُّلِ الذُّلِّ والصَّغارِ، فَلِهَذا قالَ العُلَماءُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] «وعَنِ الباقِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقِتالٍ حَتّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩] وقَلَّدَهُ سَيْفًا، فَكانَ أوَّلَ قِتالٍ قاتَلَ أصْحابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ بِبَطْنِ نَخْلٍ، وبَعْدَهُ غَزْوَةُ» بَدْرٍ، وهَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: كَيْفَ يَكُونُ مَنسُوخًا وهو مُعَلَّقٌ بِغايَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، وإنْ لَمْ يَكُنْ وُرُودُ اللَّيْلِ ناسِخًا، فَكَذا هَهُنا، الجَوابُ: أنَّ الغايَةَ الَّتِي يُعَلَّقُ بِها الأمْرُ إذا كانَتْ لا تُعْلَمُ إلّا شَرْعًا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الوارِدُ شَرْعًا عَنْ أنْ يَكُونَ ناسِخًا، ويَحِلُّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ إلى أنْ أنْسَخَهُ عَنْكم. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ يَعْفُونَ ويَصْفَحُونَ، والكُفّارُ كانُوا أصْحابَ الشَّوْكَةِ والقُوَّةِ، والصَّفْحُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ قُدْرَةٍ ؟ والجَوابُ: أنَّ الرَّجُلَ مِنَ المُسْلِمِينَ كانَ يُنالُ بِالأذى، فَيَقْدِرُ في تِلْكَ الحالَةِ قَبْلَ اجْتِماعِ الأعْداءِ أنْ يَدْفَعَ عَدُوَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، وأنْ يَسْتَعِينَ بِأصْحابِهِ، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ ذَلِكَ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ كَيْ لا يُهَيِّجُوا شَرًّا وقِتالًا. القَوْلُ الثّانِي: في التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ حَسُنَ الِاسْتِدْعاءُ، واسْتُعْمِلَ ما يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ النُّصْحِ والإشْفاقِ والتَّشَدُّدِ فِيهِ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ لا يَجُوزُ نَسْخُهُ، وإنَّما يَجُوزُ نَسْخُهُ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَهو تَحْذِيرٌ لَهم بِالوَعِيدِ، سَواءٌ حُمِلَ عَلى الأمْرِ بِالقِتالِ أوْ غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب