الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ عِتِيًّا وصِلِيّا وجِثِيًّا وبِكِيًّا بِكَسْرِ العَيْنِ والصّادِ والجِيمِ والباءِ، وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿وبُكِيًّا﴾ بِالضَّمِّ والباقِي بِالكَسْرِ والباقُونَ جَمِيعًا بِالضَّمِّ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ بِفَتْحِ العَيْنِ والصّادِ مَن عَتِيًّا وصَلِيًّا. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ عَبّاسٍ عِسِيًّا بِالسِّينِ غَيْرِ المُعْجَمَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الألْفاظِ وهي ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: الغُلامُ الإنْسانُ الذَّكَرُ في ابْتِداءِ شَهْوَتِهِ لِلْجِماعِ ومِنهُ اغْتَلَمَ إذا اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ لِلْجِماعِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ في التِّلْمِيذِ يُقالُ: غُلامٌ ثَعْلَبٌ. الثّانِي: العِتِيُّ والعِسِيُّ واحِدٌ (p-١٦٠)تَقُولُ عَتا يَعْتُو عُتُوًّا وعِتِيًّا فَهو عاتٍ وعَسا يَعْسُو عُسَوًّا وعِسِيًّا فَهو عاسٍ والعاسِي هو الَّذِي غَيَّرَهُ طُولُ الزَّمانِ إلى حالِ البُؤْسِ، ولَيْلٌ عاتٍ طَوِيلٌ، وقِيلَ شَدِيدُ الظُّلْمَةِ. الثّالِثُ: لَمْ يُقِلْ عاقِرَةً لِأنَّ ما كانَ عَلى فاعِلٍ مِن صِفَةِ المُؤَنَّثِ مِمّا لَمْ يَكُنْ لِلْمُذَكَّرِ فَإنَّهُ لا تَدْخُلُ فِيهِ الهاءُ نَحْوَ: امْرَأةٌ عاقِرٌ وحائِضٌ قالَ الخَلِيلُ: هَذِهِ صِفاتٌ مُذَكَّرَةٌ وُصِفَ بِها المُؤَنَّثُ كَما وصَفُوا المُذَكَّرَ بِالمُؤَنَّثِ حِينَ قالُوا: رَجُلٌ مَلْحَةٌ ورَبْعَةٌ وغُلامٌ نَفْعَةٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ سُؤالانِ: الأوَّلُ: أنَّ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَ تَعَجَّبَ بِقَوْلِهِ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ مَعَ أنَّهُ هو الَّذِي طَلَبَ الغُلامَ ؟ . السُّؤالُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ لَمْ يَكُنْ هَذا مَذْكُورًا بَيْنَ أُمَّتِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ يُخْفِي هَذِهِ الأُمُورَ عَنْ أُمَّتِهِ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ ذَكَرَهُ في نَفْسِهِ، وهَذا التَّعَجُّبُ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ شاكًّا في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ كُفْرٌ وهو غَيْرُ جائِزٍ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ: أمّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ خُصُوصَ الوَلَدِ فالسُّؤالُ زائِلٌ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ طَلَبَ الوَلَدَ فالجَوابُ عَنْهُ أنَّ المَقْصُودَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ هو التَّعَجُّبُ مِن أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُهُما شابَّيْنِ ثُمَّ يَرْزُقُهُما الوَلَدَ أوْ يَتْرُكُهُما شَيْخَيْنِ ويَرْزُقُهُما الوَلَدَ مَعَ الشَّيْخُوخَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلامِ لا بِطْرِيقِ التَّعْجِيبِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وزَكَرِيّا إذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ﴾ (الأنْبِياءِ: ٨٩، ٩٠) وما هَذا الإصْلاحُ إلّا أنَّهُ أعادَ قُوَّةَ الوِلادَةِ وقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ، وذَكَرَ السُّدِّيُّ في الجَوابِ وجْهًا آخَرَ فَقالَ: إنَّهُ لَمّا سَمِعَ النِّداءَ بِالبِشارَةِ جاءَهُ الشَّيْطانُ فَقالَ: إنَّ هَذا الصَّوْتَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ تَعالى بَلْ هو مِنَ الشَّيْطانِ يَسْخَرُ مِنكَ، فَلَمّا شَكَّ زَكَرِيّا قالَ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ واعْلَمْ أنَّ غَرَضَ السُّدِّيِّ مِن هَذا أنَّ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ عَلِمَ أنَّ المُبَشِّرَ بِذَلِكَ هو اللَّهُ تَعالى لَما جازَ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ؛ فارْتَكَبَ هَذا، وقالَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ هَذا باطِلٌ قَطْعًا؛ إذْ لَوْ جَوَّزَ الأنْبِياءُ في بَعْضِ ما يَرِدُ عَنِ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ مِنَ الشَّيْطانِ لَجَوَّزُوا في سائِرِهِ ولَزالَتِ الثِّقَةُ عَنْهم في الوَحْيِ وعَنّا فِيما يُورِدُونَهُ إلَيْنا، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ هَذا الِاحْتِمالَ قائِمٌ في أوَّلِ الأمْرِ وإنَّما يَزُولُ بِالمُعْجِزَةِ فَلَعَلَّ المُعْجِزَةَ لَمْ تَكُنْ حاصِلَةً في هَذِهِ الصُّورَةِ فَحَصَلَ الشَّكُّ فِيها دُونَ ما عَداها، واللَّهُ أعْلَمُ. والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى﴾ لَيْسَ نَصًّا في كَوْنِ ذَلِكَ الغُلامِ ولَدًا لَهُ بَلْ يُحْتَمَلُ أنْ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ راعى الأدَبَ ولَمْ يَقُلْ هَذا الكَلامَ هَلْ يَكُونُ لِي ولَدٌ أمْ لا ؟ بَلْ ذَكَرَ أسْبابَ تَعَذُّرِ حُصُولِ الوَلَدِ في العادَةِ حَتّى إنَّ تِلْكَ البِشارَةَ إنْ كانَتْ بِالوَلَدِ فاللَّهُ تَعالى يُزِيلُ الإبْهامَ ويَجْعَلُ الكَلامَ صَرِيحًا، فَلَمّا ذَكَرَ ذَلِكَ صَرَّحَ اللَّهُ تَعالى بِكَوْنِ ذَلِكَ الوَلَدِ مِنهُ فَكانَ الغَرَضُ مِن كَلامِ زَكَرِيّا هَذا لا أنَّهُ كانَ شاكًّا في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ. الثّانِي: أنَّهُ ما ذَكَرَ ذَلِكَ لِلشَّكِّ لَكِنْ عَلى وجْهِ التَّعْظِيمِ لِقُدْرَتِهِ وهَذا كالرَّجُلِ الَّذِي يَرى صاحِبَهُ قَدْ وهَبَ الكَثِيرَ الخَطِيرَ فَيَقُولُ: أنّى سَمَحَتْ نَفْسُكَ بِإخْراجِ مِثْلِ هَذا مِن مِلْكِكَ ! تَعْظِيمًا وتَعَجُّبًا. الثّالِثُ: أنَّ مِن شَأْنِ مَن بُشِّرَ بِما يَتَمَنّاهُ أنْ يَتَوَلَّدَ لَهُ فَرْطُ السُّرُورِ بِهِ عِنْدَ أوَّلِ ما يَرِدُ عَلَيْهِ اسْتِثْباتُ ذَلِكَ الكَلامِ إمّا لِأنَّ شِدَّةَ فَرَحِهِ بِهِ تُوجِبُ ذُهُولَهُ عَنْ مُقْتَضَياتِ العَقْلِ والفِكْرِ وهَذا كَما أنَّ امْرَأةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ أنْ بُشِّرَتْ بِإسْحاقَ قالَتْ: ﴿أألِدُ وأنا عَجُوزٌ وهَذا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ (هُودٍ: ٧٢) فَأُزِيلَ تَعَجُّبُها بِقَوْلِهِ: ﴿أتَعْجَبِينَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ (هُودٍ: ٧٣) وإمّا طَلَبًا لِلِالتِذاذِ بِسَماعِ ذَلِكَ الكَلامِ مَرَّةً أُخْرى، وإمّا مُبالَغَةً في تَأْكِيدِ التَّفْسِيرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب