الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن كانَ في الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتّى إذا رَأوْا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذابَ وإمّا السّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَن هو شَرٌّ مَكانًا وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا الجَوابُ الثّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وتَقْرِيرُهُ لِنَفْرِضْ أنَّ هَذا الضّالَّ المُتَنَعِّمَ في الدُّنْيا قَدْ مَدَّ اللَّهُ في أجَلِهِ وأمْهَلَهُ مُدَّةً مَدِيدَةً حَتّى يَنْضَمَّ إلى النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ المُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، فَلا بُدَّ وأنْ يَنْتَهِيَ إلى عَذابٍ في الدُّنْيا أوْ عَذابٍ في الآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ سَيَعْلَمُونَ أنَّ نِعَمَ الدُّنْيا ما تُنْقِذُهم مِن ذَلِكَ العَذابِ فَقَوْلُهُ: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَن هو شَرٌّ مَكانًا﴾ مَذْكُورٌ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿خَيْرٌ مَقامًا﴾ [مريم: ٧٣] ﴿وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم وإنْ ظَنُّوا في الحالِ أنَّ مَنزِلَتَهم أفْضَلُ مِن حَيْثُ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالمَقامِ والنَّدِيِّ؛ فَسَيَعْلَمُونَ مِن بَعْدُ أنَّ الأمْرَ بِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ، وأنَّهم شَرٌّ مَكانًا فَإنَّهُ لا مَكانَ شَرٌّ مِنَ النّارِ والمُناقَشَةِ في الحِسابِ. ﴿وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ فَقَدْ كانُوا يَظُنُّونَ وهم في الدُّنْيا أنَّ اجْتِماعَهم يَنْفَعُ فَإذا رَأوْا أنْ لا ناصِرَ لَهم في الآخِرَةِ عَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أنَّهم كانُوا في الدُّنْيا مُبْطِلِينَ فِيما ادَّعَوْهُ. بَقِيَ البَحْثُ عَنِ الألْفاظِ وهو مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: مَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ أيْ أمْهَلَهُ وأمْلى لَهُ في العُمْرِ فَأُخْرِجَ عَلى لَفْظِ الأمْرِ إيذانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ وأنَّهُ مَفْعُولٌ لا مَحالَةَ كالمَأْمُورِ المُمْتَثِلِ لِيَقْطَعَ مَعاذِيرَ الضّالِّ، ويُقالُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ [فاطر: ٣٧] وكَقَوْلِهِمْ: ﴿إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾ [آلِ عِمْرانَ ] . (p-٢١٢)وثانِيها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إمّا العَذابَ وإمّا السّاعَةَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالعَذابِ عَذابٌ يَحْصُلُ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإمّا السّاعَةَ﴾ المُرادُ مِنهُ يَوْمُ القِيامَةِ ثُمَّ العَذابُ الَّذِي يَحْصُلُ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هو عَذابَ القَبْرِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هو العَذابَ الَّذِي سَيَكُونُ عِنْدَ المُعايَنَةِ؛ لِأنَّهم عِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُونَ ما يَسْتَحِقُّونَ، ويُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ تَغَيُّرَ أحْوالِهِمْ في الدُّنْيا مِنَ العِزِّ إلى الذُّلِّ، ومِنَ الغِنى إلى الفَقْرِ، ومِنَ الصِّحَّةِ إلى المَرَضِ، ومِنَ الأمْنِ إلى الخَوْفِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ تَسْلِيطَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، ويُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ ما نالَهم يَوْمَبَدْرٍ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ مَذْكُورَةٌ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ كَما يُعامِلُ الكُفّارَ بِما ذَكَرَهُ فَكَذَلِكَ يَزِيدُ المُؤْمِنِينَ المُهْتَدِينَ هُدًى، واعْلَمْ أنّا نُبَيِّنُ إمْكانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ العَقْلِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ أنْواعِ الِاهْتِداءِ مَشْرُوطًا بِالبَعْضِ فَإنَّ حاصِلَ الِاهْتِداءِ يَرْجِعُ إلى العِلْمِ ولا امْتِناعَ في كَوْنِ بَعْضِ العِلْمِ مَشْرُوطًا بِالبَعْضِ، فَمَنِ اهْتَدى بِالهِدايَةِ الَّتِي هي الشَّرْطُ صارَ بِحَيْثُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يُعْطى الهِدايَةَ الَّتِي هي المَشْرُوطُ، فَصَحَّ قَوْلُهُ: ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ مِثالُهُ الإيمانُ هُدًى والإخْلاصُ في الإيمانِ زِيادَةُ هُدًى ولا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الإخْلاصِ إلّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الإيمانِ فَمَنِ اهْتَدى بِالإيمانِ زادَهُ اللَّهُ الهِدايَةَ بِالإخْلاصِ، هَذا إذا أجْرَيْنا لَفْظَ الهِدايَةِ عَلى ظاهِرِهِ، ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ الزِّيادَةَ في الهُدى عَلى الثَّوابِ أيْ ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا ثَوابًا عَلى ذَلِكَ الِاهْتِداءِ ومِنهم مَن فَسَّرَ هَذِهِ الزِّيادَةَ بِالعِباداتِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى الإيمانِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: يَزِيدُ مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ؛ لِأنَّهُ واقِعٌ مَوْقِعَ الخَبَرِ وتَقْدِيرُهُ مَن كانَ في الضَّلالَةِ يَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ويَزِيدُ أيْ يَزِيدُ في ضَلالِ الضُّلّالِ بِخِذْلانِهِ بِذَلِكَ المَدِّ، ويَزِيدُ المُهْتَدِينَ هِدايَةً بِتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ ما عَلَيْهِ المُهْتَدُونَ هو الَّذِي يَنْفَعُ في العاقِبَةِ فَقالَ: ﴿والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا﴾ وذَلِكَ؛ لِأنَّ ما عَلَيْهِ المُهْتَدُونَ ضَرَرٌ قَلِيلٌ مُتَناهٍ يَعْقُبُهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَناهٍ، والَّذِي عَلَيْهِ الضّالُّونَ نَفْعٌ قَلِيلٌ مُتَناهٍ يَعْقُبُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَناهٍ، وكُلُّ أحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الأوَّلَ أوْلى، وبِهَذا الطَّرِيقِ تَسْقُطُ الشُّبْهَةُ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَيْها، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالباقِياتِ الصّالِحاتِ فَقالَ المُحَقِّقُونَ إنَّها الإيمانُ والأعْمالُ الصّالِحَةُ سَمّاها باقِيَةً؛ لِأنَّ نَفْعَها يَدُومُ ولا يَبْطُلُ ومِنهم مَن قالَ المُرادُ بِها بَعْضُ العِباداتِ، ولَعَلَّهم ذَكَرُوا ما هو أعْظَمُ ثَوابًا فَبَعْضُهم ذَكَرَ الصَّلَواتِ وبَعْضُهم ذَكَرَ التَّسْبِيحَ ورُوِيَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: ”«جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ وأخَذَ عُودًا يابِسًا فَأزالَ الوَرَقَ عَنْهُ ثُمَّ قالَ: إنَّ قَوْلَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واللَّهُ أكْبَرُ وسُبْحانَ اللَّهِ يَحُطُّ الخَطايا حَطًّا كَما يَحُطُّ ورَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ. . خُذْهُنَّ يا أبا الدَّرْداءِ قَبْلَ أنْ يُحالَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الباقِياتُ الصّالِحاتُ وهُنَّ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ“، وكانَ أبُو الدَّرْداءِ يَقُولُ: لَأُعَلِّمَنَّ ذَلِكَ ولَأُكْثِرَنَّ مِنهُ حَتّى إذا رَآنِي جاهِلٌ حَسِبَ أنِّي مَجْنُونٌ» . والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما وصَفَها بِالباقِياتِ الصّالِحاتِ مِن حَيْثُ يَدُومُ ثَوابُها ولا يَنْقَطِعُ فَبَعْضُ العِباداتِ وإنْ كانَ أنْقَصَ ثَوابًا مِنَ البَعْضِ فَهي مُشْتَرِكَةٌ في الدَّوامِ فَهي بِأسْرِها باقِيَةٌ صالِحَةٌ نَظَرًا إلى آثارِها الَّتِي هي الثَّوابُ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّها: ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: هَذا خَيْرٌ إلّا والمُرادُ أنَّهُ خَيْرٌ مِن غَيْرِهِ، فالمُرادُ إذَنْ أنَّها خَيْرٌ مِمّا ظَنَّهُ الكُفّارُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿خَيْرٌ مَقامًا وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب