الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿ويَقُولُ الإنْسانُ أئِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ ﴿أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهم والشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهم حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهم أشَدُّ عَلى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أعْلَمُ بِالَّذِينَ هم أوْلى بِها صِلِيًّا﴾ . (p-٢٠٦)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالعِبادَةِ والمُصابَرَةِ عَلَيْها فَكَأنَّ سائِلًا سَألَ وقالَ هَذِهِ العِباداتُ لا مَنفَعَةَ فِيها في الدُّنْيا، وأمّا في الآخِرَةِ فَقَدْ أنْكَرَها قَوْمٌ فَلا بُدَّ مِن ذِكْرِ الدَّلالَةِ عَلى القَوْلِ بِالحَشْرِ حَتّى يَظْهَرَ أنَّ الِاشْتِغالَ بِالعِبادَةِ مُفِيدٌ فَلِهَذا حَكى اللَّهُ تَعالى قَوْلَ مُنْكِرِي الحَشْرِ فَقالَ: ﴿ويَقُولُ الإنْسانُ أئِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ وإنَّما قالُوا ذَلِكَ عَلى وجْهِ الإنْكارِ والِاسْتِبْعادِ، وذَكَرُوا في الإنْسانِ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ يَكُونَ المُرادُ الجِنْسَ بِأسْرِهِ، فَإنْ قِيلَ كُلُّهم غَيْرُ قائِلِينَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذا القَوْلُ ؟ قُلْنا الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ المَقالَةَ لَمّا كانَتْ مَوْجُودَةً فِيما هو مِن جِنْسِهِمْ صَحَّ إسْنادُها إلى جَمِيعِهِمْ، كَما يُقالُ: بَنُو فُلانٍ قَتَلُوا فُلانًا وإنَّما القاتِلُ رَجُلٌ مِنهم. والثّانِي: أنَّ هَذا الِاسْتِبْعادَ مَوْجُودٌ ابْتِداءً في طَبْعِ كُلِّ أحَدٍ إلّا أنَّ بَعْضَهم تَرَكَ ذَلِكَ الِاسْتِبْعادَ المَبْنِيَّ عَلى مَحْضِ الطَّبْعِ بِالدَّلالَةِ القاطِعَةِ الَّتِي قامَتْ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِهِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالإنْسانِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ فَقِيلَ: هو أبُو جَهْلٍ، وقِيلَ: هو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وقِيلَ: المُرادُ جِنْسُ الكُفّارِ القائِلِينَ بِعَدَمِ البَعْثِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى أقامَ الدَّلالَةَ عَلى صِحَّةِ البَعْثِ بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ والقُرّاءُ كُلُّهم عَلى يَذَّكَّرُ بِالتَّشْدِيدِ إلّا نافِعًا وابْنَ عامِرٍ وعاصِمًا قَدْ خَفَّفُوا، أيْ أوَلا يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ، وإذا قُرِئَ أوَلا يَذَّكَّرُ فَهو أقْرَبُ إلى المُرادِ إذِ الغَرَضُ التَّفَكُّرُ والنَّظَرُ في أنَّهُ إذا خُلِقَ مِن قَبْلُ لا مِن شَيْءٍ فَجائِزٌ أنْ يُعادَ ثانِيًا، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ الخَلائِقِ عَلى إيرادِ حُجَّةٍ في البَعْثِ عَلى هَذا الِاخْتِصارِ لَما قَدَرُوا عَلَيْها، إذْ لا شَكَّ أنَّ الإعادَةَ ثانِيًا أهْوَنُ مِنَ الإيجادِ أوَّلًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ جَواهِرَ مُتَألِّفَةٍ قامَتْ بِها أعْراضٌ وهَذا المَجْمُوعُ ما كانَ شَيْئًا، ولَكِنْ لِمَ قُلْتَ إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ ما كانَ شَيْئًا قَبْلَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا ؟ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ أمَرَ تَعالى الإنْسانَ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ الذِّكْرَ هو العِلْمُ بِما قَدْ عَلِمَهُ مِن قَبْلُ ثُمَّ تَخَلَّلَهُما سَهْوٌ ؟ قُلْنا: المُرادُ أوَلا يَتَفَكَّرُ فَيَعْلَمَ ؟ خُصُوصًا إذا قُرِئَ أوَلا يَذَّكَّرُ الإنْسانُ بِالتَّشْدِيدِ أمّا إذا قُرِئَ أوَلا يَذْكُرُ بِالتَّخْفِيفِ فالمُرادُ أوَلا يَعْلَمُ ذَلِكَ مِن حالِ نَفْسِهِ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَيًّا في الدُّنْيا ثُمَّ صارَ حَيًّا، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قَرَّرَ المَطْلُوبَ بِالدَّلِيلِ أرْدَفَهُ بِالتَّهْدِيدِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهم والشَّياطِينَ﴾ وفائِدَةُ القَسَمِ أمْرانِ: أحَدُهُما: أنَّ العادَةَ جارِيَةٌ بِتَأْكِيدِ الخَبَرِ بِاليَمِينِ. والثّانِي: أنَّ في إقْسامِ اللَّهِ تَعالى بِاسْمِهِ مُضافًا إلى اسْمِ رَسُولِهِ ﷺ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ ﷺ ورَفْعًا مِنهُ كَما رَفَعَ مِن شَأْنِ السَّماءِ والأرْضِ في قَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ﴾ [الذاريات: ٢٣] والواوُ في ﴿والشَّياطِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ، وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى مَعَ وهي بِمَعْنى مَعَ أوْقَعُ، والمَعْنى أنَّهم يُحْشَرُونَ مَعَ قُرَنائِهِمْ مِنَ الشَّياطِينِ الَّذِينَ أغْوَوْهم يُقْرَنُ كُلُّ كافِرٍ مَعَ شَيْطانٍ في سِلْسِلَةٍ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهم حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ وهَذا الإحْضارُ يَكُونُ قَبْلَ إدْخالِهِمْ جَهَنَّمَ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُحْضِرُهم عَلى أذَلِّ صُورَةٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿جِثِيًّا﴾ لِأنَّ البارِكَ عَلى رُكْبَتَيْهِ صُورَتُهُ صُورَةُ الذَّلِيلِ أوْ صُورَتُهُ صُورَةُ العاجِزِ، فَإنَّ قِيلَ هَذا المَعْنى حاصِلٌ لِلْكُلِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً﴾ [الجاثية: ٢٨] والسَّبَبُ فِيهِ جَرَيانُ العادَةِ أنَّ النّاسَ في مَواقِفِ المُطالَباتِ مِنَ المُلُوكِ يَتَجاثَوْنَ عَلى رُكَبِهِمْ لِما في ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِنْظارِ والقَلَقِ، أوْ لِما يَدْهَمُهم مِن شِدَّةِ الأمْرِ الَّذِي لا يُطِيقُونَ مَعَهُ القِيامَ عَلى أرْجُلِهِمْ، وإذا كانَ هَذا عامًّا لِلْكُلِّ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلى مَزِيدِ ذُلٍّ لِلْكُفّارِ ؟ قُلْنا: لَعَلَّ المُرادَ أنَّهم يَكُونُونَ مِن وقْتِ الحَشْرِ إلى وقْتِ الحُضُورِ في المَوْقِفِ عَلى هَذِهِ الحالَةِ وذَلِكَ (p-٢٠٧)يُوجِبُ مَزِيدَ الذُّلِّ في حَقِّهِمْ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهم أشَدُّ عَلى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ والمُرادُ بِالشِّيعَةِ وهي فِعْلَةٌ كَفِرْقَةٍ وفِئَةٍ الطّائِفَةُ الَّتِي شاعَتْ، أيْ تَبِعَتْ غاوِيًا مِنَ الغُواةِ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا﴾ [الأنعام: ١٥٩] والمُرادُ أنَّهُ تَعالى يُحْضِرُهم أوَّلًا حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ يُمَيِّزُ البَعْضَ مِنَ البَعْضِ، فَمَن كانَ أشَدَّهم تَمَرُّدًا في كُفْرِهِ خُصَّ بِعَذابٍ أعْظَمَ؛ لِأنَّ عَذابَ الضّالِّ المُضِلِّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ فَوْقَ عَذابِ مَن يَضِلُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، ولَيْسَ عَذابُ مَن يَتَمَرَّدُ ويَتَجَبَّرُ كَعَذابِ المُقَلِّدِ ولَيْسَ عَذابُ مَن يُورِدُ الشُّبَهَ في الباطِلِ كَعَذابِ مَن يَقْتَدِي بِهِ مَعَ الغَفْلَةِ قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النحل: ٨٨] . وقالَ: ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يَنْزِعُ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مَن كانَ أشَدَّ عُتُوًّا وأشَدَّ تَمَرُّدًا لِيَعْلَمَ أنَّ عَذابَهُ أشَدُّ، فَفائِدَةُ هَذا التَّمْيِيزِ التَّخْصِيصُ بِشِدَّةِ العَذابِ، لا التَّخْصِيصُ بِأصْلِ العَذابِ، فَلِذَلِكَ قالَ في جَمِيعِهِمْ: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أعْلَمُ بِالَّذِينَ هم أوْلى بِها صِلِيًّا﴾ ولا يُقالُ أوْلى إلّا مَعَ اشْتِراكِ القَوْمِ في العَذابِ، واخْتَلَفُوا في إعْرابِ أيُّهم فَعَنِ الخَلِيلِ أنَّهُ مُرْتَفِعٌ عَلى الحِكايَةِ تَقْدِيرُهُ لَنَنْزِعَنَّ الَّذِينَ يُقالُ فِيهِمْ أيُّهم أشَدُّ وسِيبَوَيْهِ عَلى أنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لِسُقُوطِ صَدْرِ الجُمْلَةِ الَّتِي هي صِلَةٌ حَتّى لَوْ جِيءَ بِهِ لَأُعْرِبَ وقِيلَ أيُّهم هو أشَدُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب