الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدَ الرَّحْمَنُ عِبادَهُ بِالغَيْبِ إنَّهُ كانَ وعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إلّا سَلامًا ولَهم رِزْقُهم فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في التّائِبِ أنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وصَفَ الجَنَّةَ بِأُمُورٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدَ الرَّحْمَنُ عِبادَهُ بِالغَيْبِ﴾ والعَدْنُ الإقامَةُ وصَفَها بِالدَّوامِ عَلى خِلافِ حالِ الجِنانِ في الدُّنْيا الَّتِي لا تَدُومُ، ولِذَلِكَ فَإنَّ حالَها لا يَتَغَيَّرُ في مَناظِرِها فَلَيْسَتْ كَجِنانِ الدُّنْيا الَّتِي حالُها يَخْتَلِفُ في خُضْرَةِ الوَرَقِ، وظُهُورِ النَّوْرِ، والثَّمَرِ، وبَيَّنَ تَعالى أنَّها: ”وعْدُ الرَّحْمَنِ لِعِبادِهِ“ وأمّا قَوْلُهُ: ﴿بِالغَيْبِ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى وعَدَ[هم إيّا]ها وهي غائِبَةٌ عَنْهم غَيْرُ حاضِرَةٍ أوْ هم غائِبُونَ عَنْها لا يُشاهِدُونَها. والثّانِي: أنَّ المُرادَ وعْدُ الرَّحْمَنِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِبادًا بِالغَيْبِ أيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ في السِّرِّ بِخِلافِ المُنافِقِينَ فَإنَّهم يَعْبُدُونَهُ في الظّاهِرِ، ولا يَعْبُدُونَهُ في السِّرِّ وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ. والوَجْهُ الأوَّلُ أقْوى؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ الوَعْدَ مِنهُ تَعالى وإنْ كانَ بِأمْرٍ غائِبٍ فَهو كَأنَّهُ مُشاهَدٌ حاصِلٌ، لِذَلِكَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿إنَّهُ كانَ وعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ أمّا قَوْلُهُ: ﴿مَأْتِيًّا﴾ فَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، والوَجْهُ أنَّ الوَعْدَ هو الجَنَّةُ وهم يَأْتُونَها، قالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ ما وصَلَ إلَيْكَ فَقَدْ وصَلْتَ إلَيْهِ، وما أتاكَ فَقَدْ أتَيْتَهُ، والمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ وعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ بَيانٌ أنَّ الوَعْدَ مِنهُ تَعالى، وإنْ كانَ بِأمْرٍ غائِبٍ فَهو كَأنَّهُ مَشاهَدٌ وحاصِلٌ والمُرادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ في القُلُوبِ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إلّا سَلامًا﴾ واللَّغْوُ مِنَ الكَلامِ ما سَبِيلُهُ أنْ يُلْغى ويُطْرَحَ وهو المُنْكَرُ مِنَ القَوْلِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً﴾ [الغاشية: ١١] وفِيهِ تَنْبِيهٌ ظاهِرٌ عَلى وُجُوبِ تَجَنُّبِ اللَّغْوِ حَيْثُ نَزَّهَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ الدّارَ الَّتِي لا تَكْلِيفَ فِيها وما أحْسَنَ قَوْلَهُ: ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]، ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٥] أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا سَلامًا﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ فِيهِ إشْكالًا وهو أنَّ السَّلامَ لَيْسَ مِن جِنْسِ اللَّغْوِ فَكَيْفَ اسْتَثْنى السَّلامَ مِنَ اللَّغْوِ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مَعْنى السَّلامِ هو الدُّعاءُ بِالسَّلامَةِ وأهْلُ الجَنَّةِ لا حاجَةَ بِهِمْ إلى هَذا الدُّعاءِ فَكانَ ظاهِرُهُ مِن بابِ اللَّغْوِ وفُضُولِ الحَدِيثِ لَوْلا ما فِيهِ مِن فائِدَةِ الإكْرامِ. وثانِيها: أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ. وثالِثُها: أنَّ يَكُونَ هَذا مِن جِنْسِ قَوْلِ الشّاعِرِ:(p-٢٠٣) ؎ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ البَحْثُ الثّانِي: أنَّ ذَلِكَ السَّلامَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن سَلامِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ أوْ مِن تَسْلِيمِ المَلائِكَةِ، أوْ مِن تَسْلِيمِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤] وقَوْلُهُ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] . ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَهم رِزْقُهم فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآياتِ وصْفُ الجَنَّةِ بِأحْوالٍ مُسْتَعْظَمَةٍ، ووُصُولُ الرِّزْقِ إلَيْهِمْ بُكْرَةً وعَشِيًّا لَيْسَ مِنَ الأُمُورِ المُسْتَعْظَمَةِ. والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قالَ الحَسَنُ أرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُرَغِّبَ كُلَّ قَوْمٍ بِما أحَبُّوهُ في الدُّنْيا، ولِذَلِكَ ذَكَرَ أساوِرَ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ولُبْسَ الحَرِيرِ الَّتِي كانَتْ عادَةَ العَجَمِ والأرائِكَ الَّتِي هي الحِجالُ المَضْرُوبَةُ عَلى الأسِرَّةِ، وكانَتْ مِن عادَةِ أشْرافِ العَرَبِ في اليَمَنِ، ولا شَيْءَ كانَ أحَبَّ إلى العَرَبِ مِنَ الغَداءِ والعَشاءِ فَوَعَدَهم بِذَلِكَ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ دَوامُ الرِّزْقِ كَما تَقُولُ أنا عِنْدَ فُلانٍ صَباحًا ومَساءً وبُكْرَةً وعَشِيًّا تُرِيدُ الدَّوامَ ولا تَقْصِدُ الوَقْتَيْنِ المَعْلُومَيْنِ. السُّؤالُ الثّانِي: قالَ تَعالى: ﴿لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان: ١٣] وقالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”«لا صَباحَ عِنْدَ رَبِّكَ ولا مَساءَ» “ والبُكْرَةُ والعَشِيُّ لا يُوجَدانِ إلّا عِنْدَ وُجُودِ الصَّباحِ والمَساءِ. والجَوابُ المُرادُ أنَّهم يَأْكُلُونَ عِنْدَ مِقْدارِ الغَداةِ والعَشِيِّ إلّا أنَّهُ لَيْسَ في الجَنَّةِ غُدْوَةٌ وعَشِيٌّ إذْ لا لَيْلَ فِيها ويَحْتَمِلُ ما قِيلَ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ لِقَدْرِ اليَوْمِ عَلامَةً يَعْرِفُونَ بِها مَقادِيرَ الغَداةِ والعَشِيِّ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ لَهم رِزْقُهم مَتى شاءُوا كَما جَرَتِ العادَةُ في الغَداةِ والعَشِيِّ. وخامِسُها: قَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ﴾ هَذِهِ الإشارَةُ إنَّما صَحَّتْ؛ لِأنَّ الجَنَّةَ غائِبَةٌ. وثانِيها: ذَكَرُوا في نُورِثُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: نُورِثُ اسْتِعارَةٌ أيْ نُبْقِي عَلَيْهِ الجَنَّةَ كَما نُبْقِي عَلى الوارِثِ مالَ المُورِثِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ أنّا نَنْقُلُ تِلْكَ المَنازِلَ مِمَّنْ لَوْ أطاعَ لَكانَتْ لَهُ إلى عِبادِنا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم فَجُعِلَ هَذا النَّقْلُ إرْثًا قالَهُ الحَسَنُ. الثّالِثُ: أنَّ الأتْقِياءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهم يَوْمَ القِيامَةِ وقَدِ انْقَضَتْ أعْمالُهم وثَمَراتُها باقِيَةٌ، وهي الجَنَّةُ فَإذا أدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ فَقَدْ أوْرَثَهم مِن تَقْواهم كَما يَرِثُ الوارِثُ المالَ مِنَ المُتَوَفّى. ورابِعُها: مَعْنى مَن كانَ تَقِيًّا مَن تَمَسَّكَ بِاتِّقاءِ مَعاصِيهِ وجَعَلَهُ عادَتَهُ واتَّقى تَرْكَ الواجِباتِ، قالَ القاضِي: فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الجَنَّةَ يَخْتَصُّ بِدُخُولِها مَن كانَ مُتَّقِيًا، والفاسِقُ المُرْتَكِبُ لِلْكَبائِرِ لا يُوصَفُ بِذَلِكَ. والجَوابُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُتَّقِيَ يَدْخُلُها ولَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ غَيْرَ المُتَّقِي لا يَدْخُلُها، وأيْضًا فَصاحِبُ الكَبِيرَةِ مُتَّقٍ عَنِ الكُفْرِ، ومَن صَدَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الكُفْرِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ مُتَّقٍ؛ لِأنَّ المُتَّقِيَ جُزْءٌ مِن مَفْهُومِ قَوْلِنا المُتَّقِي عَنِ الكُفْرِ، وإذا كانَ صاحِبُ الكَبِيرَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مُتَّقٍ وجَبَ أنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ فالآيَةُ بِأنْ تَدُلَّ عَلى أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أوْلى مِن أنْ تَدُلَّ عَلى أنَّهُ لا يَدْخُلُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب