الباحث القرآني

النَّوْعُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ياأبَتِ إنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ العِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ، وطَمِعَ في التَّمَسُّكِ بِهِ أهْلُ التَّعْلِيمِ وأهْلُ التَّقْلِيدِ أمّا أهْلُ التَّعْلِيمِ فَقالُوا: إنَّهُ أمَرَهُ بِالِاتِّباعِ في الدِّينِ وما أمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِدَلِيلٍ لا يُسْتَفادُ إلّا مِنَ الِاتِّباعِ، وأمّا أهْلُ التَّقْلِيدِ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهِ أيْضًا مِن هَذا الوَجْهِ، ومِنَ النّاسِ مِن طَعَنَ أنَّهُ أمَرَهُ بِالِاتِّباعِ لِتَحْصُلَ الهِدايَةُ، فَإذَنْ لا تَحْصُلُ الهِدايَةُ إلّا بِاتِّباعِهِ، ولا تَبَعِيَّةَ إلّا إذا اهْتَدى لِقَوْلِنا إنَّهُ لا بُدَّ مِنَ اتِّباعِهِ فَيَقَعُ الدَّوْرُ وإنَّهُ باطِلٌ. ”والجَوابُ“ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ المُرادَ بِالهِدايَةِ بَيانُ الدَّلِيلِ وشَرْحُهُ وإيضاحُهُ. فَعِنْدَ هَذا عادَ السّائِلُ فَقالَ: أنا لا أُنْكِرُ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الدَّلالَةِ، ولَكِنِّي أقُولُ الوُقُوفُ عَلى تِلْكَ الدَّلالَةِ لا يُسْتَفادُ إلّا مِمَّنْ لَهُ نَفْسٌ كامِلَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ النَّقْصِ والخَطَأِ، وهي نَفْسُ النَّبِيِّ المَعْصُومِ أوِ الإمامِ المَعْصُومِ، فَإذا سَلَّمْتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النَّبِيِّ في هَذا المَقْصُودِ؛ فَقَدْ سَلَّمْتَ حُصُولَ الغَرَضِ، أجابَ المُجِيبُ وقالَ: أنا ما سَلَّمْتُ أنَّهُ لا بُدَّ في الوُقُوفِ عَلى الدَّلائِلِ مِن هِدايَةِ النَّبِيِّ، ولَكِنِّي أقُولُ: هَذا الطَّرِيقُ أسْهَلُ وإنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ (p-١٩٣)دَعاهُ إلى الأسْهَلِ الأسْهَلِ والجَوابُ عَنْ سُؤالِ الدَّوْرِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاتَّبِعْنِي﴾ لَيْسَ أمْرَ إيجابٍ بَلْ أمْرَ إرْشادٍ. * * * والنَّوْعُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ياأبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ أيْ لا تُطِعْهُ؛ لِأنَّهُ عاصٍ لِلَّهِ فَنَفَّرَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَنِ القَبُولِ مِنهُ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ الخِصالِ المُنَفِّرَةِ، واعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِإمْعانِهِ في الإخْلاصِ لَمْ يَذْكُرْ مِن جِناياتِ الشَّيْطانِ إلّا كَوْنَهُ عاصِيًا لِلَّهِ، ولَمْ يَذْكُرْ مُعاداتِهِ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَأنَّ النَّظَرَ في عِظَمِ ما ارْتَكَبَهُ مِن ذَلِكَ العِصْيانِ غَمّى فِكْرَهُ وأطْبَقَ عَلى ذِهْنِهِ، وأيْضًا فَإنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعالى لا تَصْدُرُ إلّا عَنْ ضَعِيفِ الرَّأْيِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ حَقِيقًا أنْ لا يُلْتَفَتَ إلى رَأْيِهِ، ولا يُجْعَلَ لِقَوْلِهِ وزْنٌ، فَإنْ قِيلَ: إنَّ هَذا القَوْلَ يَتَوَقَّفُ عَلى إثْباتِ أُمُورٍ: أحَدُها: إثْباتُ الصّانِعِ. وثانِيها: إثْباتُ الشَّيْطانِ. وثالِثُها: إثْباتُ أنَّ الشَّيْطانَ عاصٍ لِلَّهِ. ورابِعُها: أنَّهُ لَمّا كانَ عاصِيًا لَمْ تَجُزْ طاعَتُهُ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ. وخامِسُها: أنَّ الِاعْتِقادَ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الإنْسانُ كانَ مُسْتَفادًا مِن طاعَةِ الشَّيْطانِ، ومِن شَأْنِ الدَّلالَةِ الَّتِي تُورَدُ عَلى الخَصْمِ أنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِن مُقَدِّماتٍ مَعْلُومَةٍ مُسَلَّمَةٍ، ولَعَلَّ أبا إبْراهِيمَ كانَ مُنازِعًا في كُلِّ هَذِهِ المُقَدِّماتِ، وكَيْفَ والمَحْكِيُّ عَنْهُ أنَّهُ ما كانَ يُثْبِتُ إلَهًا سِوى نُمْرُوذَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ وُجُودَ الإلَهِ الرَّحْمَنِ ؟ وإذا لَمْ يُسَلِّمْ وُجُودَهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ أنَّ الشَّيْطانَ كانَ عاصِيًا لِلرَّحْمَنِ ؟ ثُمَّ إنَّ عَلى تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَلِّمُ الخَصْمُ بِمُجَرَّدِ هَذا الكَلامِ أنَّ مَذْهَبَهُ مُقْتَبَسٌ مِنَ الشَّيْطانِ، بَلْ لَعَلَّهُ يَقْلِبُ ذَلِكَ عَلى خَصْمِهِ ؟ قُلْنا: الحُجَّةُ المُعَوَّلُ عَلَيْها في إبْطالِ مَذْهَبِ آزَرَ هو الَّذِي ذَكَرَهُ أوَّلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ فَأمّا هَذا الكَلامُ فَيَجْرِي مَجْرى التَّخْوِيفِ والتَّحْذِيرِ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلى النَّظَرِ في تِلْكَ الدَّلالَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ السُّؤالُ. * * * النَّوْعُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿ياأبَتِ إنِّي أخافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا﴾ قالَ الفَرّاءُ: مَعْنى أخافُ أعْلَمُ. والأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى ظاهِرِهِ، والقَوْلُ الأوَّلُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عالِمًا بِأنَّ أباهُ سَيَمُوتُ عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ، وذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ فَإنَّهُ كانَ يَجُوزُ أنْ يُؤْمِنَ فَيَصِيرَ مِن أهْلِ الثَّوابِ، ويَجُوزُ أنْ يُصِرَّ فَيَمُوتَ عَلى الكُفْرِ، فَيَكُونَ مِن أهْلِ العِقابِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ خائِفًا لا قاطِعًا، واعْلَمْ أنَّ مَن يَظُنُّ وُصُولَ الضَّرَرِ إلى غَيْرِهِ فَإنَّهُ لا يُسَمّى خائِفًا إلّا إذا كانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِن وُصُولِ ذَلِكَ الضَّرَرِ إلَيْهِ تَألُّمُ قَلْبِهِ، كَما يُقالُ أنا خائِفٌ عَلى ولَدِي، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا﴾ فَذَكَرُوا في الوَلِيِّ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ إذا اسْتَوْجَبَ عَذابَ اللَّهِ كانَ مَعَ الشَّيْطانِ في النّارِ، والوِلايَةُ سَبَبٌ لِلْمَعِيَّةِ وإطْلاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ مَجازٌ، وإنْ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلى الوِلايَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلّا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧] وقالَ: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥] وحَكى عَنِ الشَّيْطانِ أنَّهُ يَقُولُ لَهم: ﴿إنِّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ٢٢] . واعْلَمْ أنَّ هَذا الإشْكالَ إنَّما يَتَوَجَّهُ إذا كانَ المُرادُ مِنَ العَذابِ عَذابَ الآخِرَةِ، أمّا إذا كانَ المُرادُ مِنهُ عَذابَ الدُّنْيا فالإشْكالُ ساقِطٌ. وثانِيها: أنْ يُحْمَلَ العَذابُ عَلى الخِذْلانِ أيْ إنِّي أخافُ أنْ يَمَسَّكَ خِذْلانُ اللَّهِ فَتَصِيرَ مُوالِيًا لِلشَّيْطانِ ويَبْرَأ اللَّهُ مِنكَ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١١٩] . وثالِثُها: ولِيًّا أيْ تالِيًا لِلشَّيْطانِ تَلِيهِ، كَما يُسَمّى المَطَرُ الَّذِي يَأْتِي تالِيًا ولِيًّا. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿أخافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا﴾ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ وِلايَةُ الشَّيْطانِ أسْوَأ حالًا مِنَ العَذابِ نَفْسِهِ وأعْظَمَ، فَما السَّبَبُ لِذَلِكَ ؟ والجَوابُ: أنَّ رِضْوانَ اللَّهِ تَعالى أعْظَمُ مِنَ الثَّوابِ عَلى ما قالَ: (p-١٩٤)﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [التوبة: ٧٢] فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ وِلايَةُ الشَّيْطانِ الَّتِي هي في مُقابَلَةِ رِضْوانِ اللَّهِ أكْبَرَ مِنَ العَذابِ نَفْسِهِ وأعْظَمَ. واعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَتَّبَ هَذا الكَلامَ في غايَةِ الحُسْنِ؛ لِأنَّهُ نَبَّهَ أوَّلًا عَلى ما يَدُلُّ عَلى المَنعِ مِن عِبادَةِ الأوْثانِ ثُمَّ أمَرَهُ بِاتِّباعِهِ في النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ، وتَرْكِ التَّقْلِيدِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلى أنَّ طاعَةَ الشَّيْطانِ غَيْرُ جائِزَةٍ في العُقُولِ، ثُمَّ خَتَمَ الكَلامَ بِالوَعِيدِ الزّاجِرِ عَنِ الإقْدامِ عَلى ما لا يَنْبَغِي ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أوْرَدَ هَذا الكَلامَ الحَسَنَ مَقْرُونًا بِاللُّطْفِ والرِّفْقِ، فَإنَّ قَوْلَهُ في مُقَدِّمَةِ كُلِّ كَلامٍ: ﴿ياأبَتِ﴾ دَلِيلٌ عَلى شِدَّةِ الحُبِّ والرَّغْبَةِ في صَوْنِهِ عَنِ العِقابِ وإرْشادِهِ إلى الصَّوابِ، وخَتَمَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أخافُ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَصالِحِهِ وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: قَضاءً لِحَقِّ الأُبُوَّةِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [البقرة: ٨٣] والإرْشادُ إلى الدِّينِ مِن أعْظَمِ أنْواعِ الإحْسانِ، فَإذا انْضافَ إلَيْهِ رِعايَةُ الأدَبِ والرِّفْقِ كانَ ذَلِكَ نُورًا عَلى نُورٍ. وثانِيها: أنَّ الهادِيَ إلى الحَقِّ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ رَفِيقًا لَطِيفًا يُورِدُ الكَلامَ لا عَلى سَبِيلِ العُنْفِ؛ لِأنَّ إيرادَهُ عَلى سَبِيلِ العُنْفِ يَصِيرُ كالسَّبَبِ في إعْراضِ المُسْتَمِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ سَعْيًا في الإغْواءِ. وثالِثُها: ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”أوْحى اللَّهُ إلى إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّكَ خَلِيلِي فَحَسِّنْ خُلُقَكَ ولَوْ مَعَ الكُفّارِ تَدْخُلْ مَداخِلَ الأبْرارِ فَإنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَن حَسَّنَ خُلُقَهُ أنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي وأنْ أُسْكِنَهُ حَظِيرَةَ قُدْسِي وأُدْنِيَهُ مِن جِوارِي“ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب