الباحث القرآني
القِصَّةُ الثّالِثَةُ: قِصَّةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إبْراهِيمَ إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ ﴿إذْ قالَ لِأبِيهِ ياأبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ ﴿ياأبَتِ إنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ العِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا﴾ ﴿ياأبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ ﴿ياأبَتِ إنِّي أخافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ ولِيًّا﴾
اعْلَمْ أنَّ الغَرَضَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ بَيانُ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والحَشْرِ، والمُنْكِرُونَ لِلتَّوْحِيدِ هُمُ الَّذِينَ أثْبَتُوا مَعْبُودًا سِوى اللَّهِ تَعالى، وهَؤُلاءِ فَرِيقانِ: مِنهم مَن أثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ حَيًّا عاقِلًا فاهِمًا وهُمُ النَّصارى، ومِنهم مَن أثْبَتَ مَعْبُودًا غَيْرَ اللَّهِ جَمادًا لَيْسَ بِحَيٍّ ولا عاقِلٍ ولا فاهِمٍ وهم عَبَدَةُ الأوْثانِ والفَرِيقانِ وإنِ اشْتَرَكا في الضَّلالِ إلّا أنَّ ضَلالَ الفَرِيقِ الثّانِي أعْظَمُ فَلَمّا بَيَّنَ تَعالى ضَلالَ الفَرِيقِ الأوَّلِ تَكَلَّمَ في ضَلالِ الفَرِيقِ الثّانِي وهم عَبَدَةُ الأوْثانِ فَقالَ: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ﴾ والواوُ في قَوْلِهِ ﴿واذْكُرْ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ كَأنَّهُ لَمّا انْتَهَتْ قِصَّةُ عِيسى وزَكَرِيّا عَلَيْهِما السَّلامُ قالَ قَدْ ذَكَرْتَ حالَ زَكَرِيّا فاذْكُرْ حالَ إبْراهِيمَ وإنَّما أُمِرَ بِذِكْرِهِ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ هو ولا قَوْمُهُ ولا أهْلُ بَلْدَتِهِ مُشْتَغِلِينَ بِالعِلْمِ ومُطالَعَةِ الكُتُبِ فَإذا أخْبَرَ عَنْ هَذِهِ القِصَّةِ كَما كانَتْ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ كانَ ذَلِكَ إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ ومُعْجِزًا قاهِرًا دالًّا عَلى نُبُوَّتِهِ. وإنَّما شَرَعَ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أبا العَرَبِ وكانُوا مُقِرِّينَ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وطَهارَةِ دِينِهِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ (الحَجِّ: ٧٨) وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (البَقَرَةِ: ١٣٠) فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ لِلْعَرَبِ إنْ كُنْتُمْ مُقَلِّدِينَ لِآبائِكم عَلى ما هو قَوْلُكم: ﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ أشْرَفَ آبائِكم وأجَلَّهم قَدْرًا هو إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَلِّدُوهُ في تَرْكِ عِبادَةِ الأوْثانِ وإنْ كُنْتُمْ مِنَ المُسْتَدِلِّينَ فانْظُرُوا في هَذِهِ الدَّلائِلِ الَّتِي ذَكَرَها إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِتَعْرِفُوا فَسادَ عِبادَةِ الأوْثانِ وبِالجُمْلَةِ فاتَّبِعُوا إبْراهِيمَ إمّا تَقْلِيدًا وإمّا اسْتِدْلالًا.
وثانِيها: أنَّ كَثِيرًا مِنَ الكُفّارِ في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ كانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ نَتْرُكُ دِينَ آبائِنا وأجْدادِنا فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى قِصَّةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وبَيَّنَ أنَّهُ تَرَكَ دِينَ أبِيهِ وأبْطَلَ قَوْلَهُ بِالدَّلِيلِ ورَجَّحَ مُتابَعَةَ الدَّلِيلِ عَلى مُتابَعَةِ أبِيهِ لِيَعْرِفَ الكُفّارُ أنَّ تَرْجِيحَ جانِبِ الأبِ عَلى جانِبِ الدَّلِيلِ رَدٌّ عَلى الأبِ الأشْرَفِ الأكْبَرِ الَّذِي هو إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وثالِثُها: أنَّ كَثِيرًا مِنَ الكُفّارِ كانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِالتَّقْلِيدِ ويُنْكِرُونَ الِاسْتِدْلالَ عَلى ما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قالُوا إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٢٣) (p-١٩١)و﴿قالُوا وجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٥٣] فَحَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلالِ تَنْبِيهًا لِهَؤُلاءِ عَلى سُقُوطِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ثُمَّ قالَ تَعالى في وصْفِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ وفي الصِّدِّيقِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ مُبالَغَةٌ في كَوْنِهِ صادِقًا وهو الَّذِي يَكُونُ عادَتُهُ الصِّدْقَ لِأنَّ هَذا البِناءَ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ يُقالُ رَجُلٌ خِمِّيرٌ وسِكِّيرٌ لِلْمُولَعِ بِهَذِهِ الأفْعالِ.
والثّانِي: أنَّهُ الَّذِي يَكُونُ كَثِيرَ التَّصْدِيقِ بِالحَقِّ حَتّى يَصِيرَ مَشْهُورًا بِهِ والأوَّلُ أوْلى، وذَلِكَ لِأنَّ المُصَدِّقَ بِالشَّيْءِ لا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِدِّيقًا إلّا إذا كانَ صادِقًا في ذَلِكَ التَّصْدِيقِ؛ فَيَعُودُ الأمْرُ إلى الأوَّلِ، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ قَدْ قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ ﴿والشُّهَداءُ﴾ (الحَدِيدِ: ١٩) ؟
قُلْنا: المُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ صادِقُونَ في ذَلِكَ التَّصْدِيقِ واعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ صادِقًا في كُلِّ ما أخْبَرَ عَنْهُ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى صَدَّقَهُ؛ ومُصَدَّقُ اللَّهِ صادِقٌ؛ وإلّا لَزِمَ الكَذِبُ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى؛ فَيَلْزَمُ مِن هَذا كَوْنُ الرَّسُولِ صادِقًا في كُلِّ ما يَقُولُ، ولِأنَّ الرُّسُلَ شُهَداءُ اللَّهِ عَلى النّاسِ عَلى ما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النِّساءِ: ٤١] والشَّهِيدُ إنَّما يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذا لَمْ يَكُنْ كاذِبًا.
فَإنْ قِيلَ: فَما قَوْلُكم في إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنْبِياءِ: ٦٣] و﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ قُلْنا قَدْ شَرَحْنا في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآياتِ بِالدَّلائِلِ الظّاهِرَةِ أنَّ شَيْئًا مِن ذَلِكَ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلَمّا ثَبَتَ أنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يَجِبُ أنْ يَكُونَ صِدِّيقًا ولا يَجِبُ في كُلِّ صِدِّيقٍ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا ظَهَرَ بِهَذا قُرْبُ مَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِ مِن مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ فَلِهَذا انْتَقَلَ مِن ذِكْرِ كَوْنِهِ صِدِّيقًا إلى ذِكْرِ كَوْنِهِ نَبِيًّا.
وأمّا النَّبِيُّ فَمَعْناهُ كَوْنُهُ رَفِيعَ القَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ النّاسِ، وأيُّ رِفْعَةٍ أعْلى مِن رِفْعَةِ مَن جَعَلَهُ اللَّهُ واسِطَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿كانَ صِدِّيقًا﴾ قِيلَ: إنَّهُ صارَ، وقِيلَ إنَّ مَعْناهُ وُجِدَ صِدِّيقًا نَبِيًّا أيْ: كانَ مِن أوَّلِ وُجُودِهِ إلى انْتِهائِهِ مَوْصُوفًا بِالصِّدْقِ والصِّيانَةِ.
قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: هَذِهِ الجُمْلَةُ وقَعَتِ اعْتِراضًا بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ وبَدَلِهِ أعْنِي إبْراهِيمَ وإذْ قالَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُكَ: رَأيْتُ زَيْدًا، ونِعْمَ الرَّجُلُ أخاكَ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ إذْ بَكانِ أوْ بِصِدِّيقًا نَبِيًّا، أيْ: كانَ جامِعًا لِخَصائِصِ الصِّدِّيقِينَ والأنْبِياءِ حِينَ خاطَبَ أباهُ بِتِلْكَ المُخاطَباتِ أمّا قَوْلُهُ: ﴿ياأبَتِ﴾ فالتّاءُ عِوَضٌ عَنْ ياءِ الإضافَةِ ولا يُقالُ يا أبَتِي لِئَلّا يُجْمَعَ بَيْنَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ عَنْهُ وقَدْ يُقالُ: يا أبَتا لِكَوْنِ الألِفِ بَدَلًا مِنَ الياءِ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَكَلَّمَ مَعَ أبِيهِ بِأرْبَعَةِ أنْواعٍ مِنَ الكَلامِ:
* * *
النَّوْعُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ وصَفَ الأوْثانَ بِصِفاتٍ ثَلاثَةٍ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها قادِحَةٌ في الإلَهِيَّةِ وبَيانُ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ العِبادَةَ غايَةُ التَّعْظِيمِ فَلا يَسْتَحِقُّها إلّا مَن لَهُ غايَةُ الإنْعامِ وهو الإلَهُ الَّذِي مِنهُ أُصُولُ النِّعَمِ وفُرُوعُها عَلى ما قَرَّرْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ﴾ (آلِ عِمْرانَ: ٥١) وقالَ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨] الآيَةَ، وكَما يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ لا يَجُوزُ الِاشْتِغالُ بِشُكْرِها ما لَمْ تَكُنْ مُنْعِمَةً وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَتِها.
وثانِيها: أنَّها إذا لَمْ تَسْمَعْ ولَمْ تُبْصِرْ ولَمْ تُمَيِّزْ مَن يُطِيعُها عَمَّنْ يَعْصِيها فَأيُّ فائِدَةٍ في عِبادَتِها، وهَذا يُنَبِّهُكَ عَلى أنَّ الإلَهَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ حَتّى يَكُونَ العَبْدُ آمِنًا مِن وُقُوعِ الغَلَطِ لِلْمَعْبُودِ.
وثالِثُها: أنَّ الدُّعاءَ مُخُّ العِبادَةِ فالوَثَنُ إذا لَمْ يَسْمَعْ دُعاءَ الدّاعِي؛ فَأيُّ مَنفَعَةٍ في عِبادَتِهِ ؟ وإذا كانَتْ لا تُبْصِرُ بِتَقَرُّبِ مَن يَقْتَرِبُ إلَيْها؛ فَأيُّ مَنفَعَةٍ في ذَلِكَ التَّقَرُّبِ ؟
ورابِعُها: أنَّ السّامِعَ المُبْصِرَ الضّارَّ النّافِعَ أفْضَلُ مِمَّنْ كانَ عارِيًا عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، والإنْسانُ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفاتِ فَيَكُونُ أفْضَلَ وأكْمَلَ مِنَ الوَثَنِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالأفْضَلِ عِبادَةُ الأخَسِّ.
(p-١٩٢)وخامِسُها: إذا كانَتْ لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ فَلا يُرْجى مِنها مَنفَعَةٌ ولا يُخافُ مِن ضَرَرِها فَأيُّ فائِدَةٍ في عِبادَتِها.
وسادِسُها: إذا كانَتْ لا تَحْفَظُ أنْفُسَها عَنِ الكَسْرِ والإفْسادِ عَلى ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كَسَّرَها وجَعَلَها جُذاذًا فَأيُّ رَجاءٍ لِلْغَيْرِ فِيها ؟ واعْلَمْ أنَّهُ عابَ الوَثَنَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: لا يَسْمَعُ.
وثانِيها: لا يُبْصِرُ.
وثالِثُها: لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا كَأنَّهُ قالَ لَهُ: بَلِ الإلَهِيَّةُ لَيْسَتْ إلّا لِرَبِّي فَإنَّهُ يَسْمَعُ ويُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِي ويُبْصِرُ كَما قالَ: ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [ طَهَ: ٤٦] ويَقْضِي الحَوائِجَ: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ﴾ [ النَّمْلِ: ٦٢] واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ هَهُنا ﴿لِمَ تَعْبُدُ﴾ مَحْمُولٌ عَلى نَفْسِ العِبادَةِ وأمّا قَوْلُهُ في المَقامِ الثّالِثِ: ﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ﴾ لا يُقالُ ذَلِكَ بَلِ المُرادُ الطّاعَةُ لِأنَّهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيْطانَ؛ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى الطّاعَةِ ولِأنّا نَقُولُ لَيْسَ إذا تَرَكْنا الظّاهِرَ هَهُنا لِدَلِيلٍ وجَبَ تَرْكُ الظّاهِرِ في المَقامِ الأوَّلِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَإنْ قِيلَ: إمّا أنْ يُقالَ إنَّ أبا إبْراهِيمَ كانَ يَعْتَقِدُ في تِلْكَ الأوْثانِ أنَّها آلِهَةٌ بِمَعْنى أنَّها قادِرَةٌ مُخْتارَةٌ مُوجِدَةٌ لِلنّاسِ والحَيَواناتِ أوْ يُقالُ إنَّهُ ما كانَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ بَلْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّها تَماثِيلُ الكَواكِبِ، والكَواكِبُ هي الآلِهَةُ المُدَبِّرَةُ لِهَذا العالَمِ، فَتَعْظِيمُ تَماثِيلِ الكَواكِبِ بِمُوجَبِ تَعْظِيمِ الكَواكِبِ أوْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ هَذِهِ الأوْثانَ تَماثِيلُ أشْخاصِ مُعَظَّمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى مِنَ البَشَرِ فَتَعْظِيمُها يَقْتَضِي كَوْنَ أُولَئِكَ الأشْخاصِ شُفَعاءَ لَهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى أوْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ تِلْكَ الأوْثانَ طَلْسَماتٌ رُكِّبَتْ بِحَسَبِ اتِّصالاتٍ مَخْصُوصَةٍ لِلْكَواكِبِ قَلَّما يَتَّفِقُ مِثْلُها، وأنَّها مُشَفَّعٌ بِها، أوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأعْذارِ المَنقُولَةِ عَنْ عَبَدَةِ الأوْثانِ، فَإنْ كانَ أبُو إبْراهِيمَ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ كانَ في نِهايَةِ الجُنُونِ لِأنَّ العِلْمَ بِأنَّ هَذا الخَشَبَ المَنحُوتَ في هَذِهِ السّاعَةِ لَيْسَ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ مِن أجْلى العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، فالشّاكُّ فِيهِ يَكُونُ فاقِدًا لَأجْلى العُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ؛ فَكانَ مَجْنُونًا، والمَجْنُونُ لا يَجُوزُ إيرادُ الحُجَّةِ عَلَيْهِ والمُناظَرَةُ مَعَهُ، وإنْ كانَ مِنَ القِسْمِ الثّانِي فَهَذِهِ الدَّلائِلُ لا تَقْدَحُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ المَذْهَبَ إنَّما يَبْطُلُ بِإقامَةِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ الكَواكِبَ لَيْسَتْ أحْياءً ولا قادِرَةً عَلى خَلْقِ الأجْسامِ وخَلْقِ الحَياةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الدَّلِيلَ المَذْكُورَ هَهُنا لا يُفِيدُ ذَلِكَ المَطْلُوبَ فَعَلِمْنا أنَّ هَذِهِ الدَّلالَةَ عَدِيمَةُ الفائِدَةِ عَلى كُلِّ التَّقْدِيراتِ، قُلْنا: لا نِزاعَ أنَّهُ لا يَخْفى عَلى العاقِلِ أنَّ الخَشَبَةَ المَنحُوتَةَ لا تَصْلُحُ لِخَلْقِ العالَمِ وإنَّما مَذْهَبُهم هَذا عَلى الوَجْهِ الثّانِي، وإنَّما أوْرَدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذِهِ الدَّلالَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ عِبادَتَها تُفِيدُ نَفْعًا إمّا عَلى سَبِيلِ الخاصِّيَّةِ الحاصِلَةِ مِنَ الطَّلْسَماتِ أوْ عَلى سَبِيلِ أنَّ الكَواكِبَ تَنْفَعُ وتَضُرُّ، فَبَيَّنَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ لا مَنفَعَةَ في طاعَتِها ولا مَضَرَّةَ في الإعْراضِ عَنْها فَوَجَبَ أنْ لا تَحْسُنَ عِبادَتُها.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقࣰا نَّبِیًّا","إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا"],"ayah":"إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق