الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالُوا: التَّعَجُّبُ هو اسْتِعْظامُ الشَّيْءِ مَعَ الجَهْلِ بِسَبَبِ عِظَمِهِ، ثُمَّ يَجُوزُ اسْتِعْمالُ لَفْظِ التَّعَجُّبِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الِاسْتِعْظامِ مِن غَيْرِ خَفاءِ السَّبَبِ أوْ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِلْعِظَمِ سَبَبُ حُصُولٍ، قالَ الفَرّاءُ قالَ سُفْيانُ: قَرَأْتُ عِنْدَ شُرَيْحٍ: ﴿بَلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرُونَ﴾ [ الصّافّاتِ: ١٢] فَقالَ: إنَّ اللَّهَ لا يَعْجَبُ مِن شَيْءٍ إنَّما يَعْجَبُ مَن لا يَعْلَمُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقالَ: إنَّ شُرَيْحًا شاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ، وعَبْدُ اللَّهِ أعْلَمُ بِذَلِكَ مِنهُ قَرَأها: ”بَلْ عَجِبْتُ ويَسْخَرُونَ“ ومَعْناهُ أنَّهُ صَدَرَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فِعْلٌ لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنِ الخَلْقِ لَدَلَّ عَلى حُصُولِ التَّعَجُّبِ في قُلُوبِهِمْ، وبِهَذا التَّأْوِيلِ يُضافُ المَكْرُ والِاسْتِهْزاءُ إلى اللَّهِ تَعالى، وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لِلتَّعَجُّبِ صِفَتانِ: إحْداهُما: ما أفْعَلَهُ. والثّانِيَةُ: أفْعِلْ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ والنَّحْوِيُّونَ ذَكَرُوا لَهُ تَأْوِيلاتٍ: الأوَّلُ: قالُوا: أكْرِمْ بِزَيْدٍ أصْلُهُ أكْرَمَ زَيْدٌ أيْ صارَ ذا كَرَمٍ كَأغَدَّ البَعِيرُ؛ أيْ: صارَ ذا غُدَّةٍ، إلّا أنَّهُ خَرَجَ عَلى لَفْظِ الأمْرِ ومَعْناهُ الخَبَرُ كَما خَرَجَ عَلى لَفْظِ الخَبَرِ ما مَعْناهُ الأمْرُ كَقَوْلِهِ تَعالى: (p-١٨٩)﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢٨] ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣٣]، ﴿قُلْ مَن كانَ في الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ [ مَرْيَمَ: ٧٥] أيْ: يَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، وكَذا قَوْلُهم: رَحِمَهُ اللَّهُ خَبَرٌ وإنْ كانَ مَعْناهُ الدُّعاءَ، والباءُ زائِدَةٌ. الثّانِي: أنْ يُقالَ إنَّهُ أمْرٌ لِكُلِّ أحَدٍ بِأنْ يَجْعَلَ زَيْدًا كَرِيمًا أيْ: بِأنْ يَصِفَهُ بِالكَرْمِ، والباءُ زائِدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٩٥] ولَقَدْ سَمِعْتُ لِبَعْضِ الأُدَباءِ فِيهِ تَأْوِيلًا. ثالِثًا: وهو أنَّ قَوْلَكَ أكْرِمْ بِزَيْدٍ يُفِيدُ أنَّ زَيْدًا بَلَغَ في الكَرَمِ إلى حَيْثُ كَأنَّهُ في ذاتِهِ صارَ كَرَمًا حَتّى لَوْ أرَدْتَ جَعْلَ غَيْرِهِ كَرِيمًا فَهو الَّذِي يُلْصِقُكَ بِمَقْصُودِكَ ويُحَصِّلُ لَكَ غَرَضَكَ، كَما أنَّ مَن قالَ: أكْتُبُ بِالقَلَمِ فَمَعْناهُ أنَّ القَلَمَ هو الَّذِي يُلْصِقُكَ بِمَقْصُودِكَ ويُحَصِّلُ لَكَ غَرَضَكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: وهو المَشْهُورُ الأقْوى أنَّ مَعْناهُ ما أسْمَعَهم وما أبْصَرَهم والتَّعَجُّبُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ كَما تَقَدَّمَ، وإنَّما المُرادُ أنَّ أسْماعَهم وأبْصارَهم يَوْمَئِذٍ جَدِيرٌ بِأنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُما بَعْدَما كانُوا صُمًّا وعُمْيًا في الدُّنْيا. وقِيلَ: مَعْناهُ التَّهْدِيدُ مِمّا سَيَسْمَعُونَ وسَيُبْصِرُونَ مِمّا يَسُوءُ بَصَرَهم ويُصَدِّعُ قُلُوبَهم. وثانِيها: قالَ القاضِي ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أسْمِعْ هَؤُلاءِ وأبْصِرْهم أيْ عَرِّفْهم حالَ القَوْمِ الَّذِينَ يَأْتُونَنا لِيَعْتَبِرُوا ويَنْزَجِرُوا. وثالِثُها: قالَ الجُبّائِيُّ: ويَجُوزُ أسْمِعِ النّاسَ بِهَؤُلاءِ وأبْصِرْهم بِهِمْ لِيَعْرِفُوا أمْرَهم وسُوءَ عاقِبَتِهِمْ فَيَنْزَجِرُوا عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ فِعْلِهِمْ أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ وفي الآخِرَةِ يَعْرِفُونَ الحَقَّ. والثّانِي: ﴿لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وهم في الآخِرَةِ في ضَلالٍ عَنِ الجَنَّةِ بِخِلافِ المُؤْمِنِينَ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْذِرْهُمْ﴾ فَلا شُبْهَةَ في أنَّهُ أمْرٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ بِأنْ يُنْذِرَ مَن في زَمانِهِ فَيَصْلُحَ بِأنْ يَجْعَلَ هَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ قَوْلَهُ فاخْتَلَفَ الأحْزابُ أرادَ بِهِ اخْتِلافَ جَمِيعِهِمْ في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ وأمّا الإنْذارُ فَهو التَّخْوِيفُ مِنَ العَذابِ لِكَيْ يَحْذَرُوا مِن تَرْكِ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وأمّا يَوْمُ الحَسْرَةِ فَلا شُبْهَةَ في أنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ مِن حَيْثُ يَكْثُرُ التَّحَسُّرُ مِن أهْلِ النّارِ وقِيلَ يَتَحَسَّرُ أيْضًا في الجَنَّةِ إذا لَمْ يَكُنْ مِنَ السّابِقِينَ الواصِلِينَ إلى الدَّرَجاتِ العالِيَةِ، والأوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِأنَّ الحَسْرَةَ غَمٌّ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِأهْلِ الثَّوابِ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قُضِيَ الأمْرُ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: إذْ قُضِيَ الأمْرُ بِبَيانِ الدَّلائِلِ وشَرْحِ أمْرِ الثَّوابِ والعِقابِ. وثانِيها: إذْ قُضِيَ الأمْرُ يَوْمَ الحَسْرَةِ بِفَناءِ الدُّنْيا وزَوالِ التَّكْلِيفِ، والأوَّلُ أقْرَبُ لِقَوْلِهِ: ﴿وهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ فَكَأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ ظَهَرَتِ الحُجَجُ والبَيِّناتُ وهم في غَفْلَةٍ وهم لا يُؤْمِنُونَ. وثالِثُها: رُوِيَ أنَّهُ «سُئِلَ النَّبِيُّ -ﷺ- عَنْ قَوْلِهِ: قُضِيَ الأمْرُ: فَقالَ: (حِينَ يُجاءُ بِالمَوْتِ في صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ فَيُذْبَحُ والفَرِيقانِ يَنْظُرانِ فَيَزْدادُ أهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا عَلى فَرَحٍ وأهْلُ النّارِ غَمًّا عَلى غَمٍّ» ) واعْلَمْ أنَّ المَوْتَ عَرَضٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يَصِيرَ جِسْمًا حَيَوانِيًّا بَلِ المُرادُ أنَّهُ لا مَوْتَ البَتَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وهم في غَفْلَةٍ﴾ أيْ: عَنْ ذَلِكَ اليَوْمِ وعَنْ كَيْفِيَّةِ حَسْرَتِهِ وهم لا يُؤْمِنُونَ أيْ: بِذَلِكَ اليَوْمِ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها﴾ أيْ: هَذِهِ الأُمُورِ تَؤُولُ إلى أنْ لا يَمْلِكَ الضُّرَّ والنَّفْعَ إلّا اللَّهُ تَعالى: ﴿وإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ أيْ: إلى مَحَلِّ حُكْمِنا وقَضائِنا؛ لِأنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ المَكانِ حَتّى يَكُونَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ وهَذا تَخْوِيفٌ عَظِيمٌ وزَجْرٌ بَلِيغٌ لِلْعُصاةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب