الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا﴾ ﴿فَأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنسِيًّا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أمْرَ النَّفْخِ في آياتٍ فَقالَ: ﴿فَنَفَخْنا فِيهِ مِن رُوحِنا﴾ [التَّحْرِيمِ: ١٢] أيْ: في عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قالَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ [ الحِجْرِ: ٢٩] وقالَ فَنَفَخْنا فِيها لِأنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ في بَطْنِها واخْتَلَفُوا في النّافِخِ، فَقالَ بَعْضُهم كانَ النَّفْخُ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِقَوْلِهِ: ﴿فَنَفَخْنا فِيهِ مِن رُوحِنا﴾ وظاهِرُهُ يُفِيدُ أنَّ النّافِخَ هو اللَّهُ تَعالى لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٥٩] ومُقْتَضى التَّشْبِيهِ حُصُولُ المُشابَهَةِ إلّا فِيما أخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، وفي حَقِّ آدَمَ النّافِخُ هو اللَّهُ تَعالى لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ فَكَذا هَهُنا وقالَ آخَرُونَ: النّافِخُ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّ الظّاهِرَ مِن قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لِأهَبَ لَكِ﴾ [ مَرْيَمَ: ١٩] أنَّهُ أُمِرَ أنْ يَكُونَ مِن قِبَلِهِ حَتّى يَحْصُلَ الحَمْلُ لِمَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ فَلا بُدَّ مِن إحالَةِ النَّفْخِ إلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ النَّفْخِ عَلى قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُ وهْبٍ أنَّهُ نَفَخَ جِبْرِيلُ في جَيْبِها حَتّى وصَلَتْ إلى الرَّحِمِ. الثّانِي: في ذَيْلِها فَوَصَلَتْ إلى الفَرَجِ. الثّالِثُ: قَوْلُ السُّدِّيِّ: أخَذَ بِكُمِّها فَنَفَخَ في جَنْبِ دِرْعِها فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ صَدْرَها فَحَمَلَتْ فَجاءَتْها أُخْتُها امْرَأةُ زَكَرِيّا (p-١٧٢)تَزُورُها فالتَزَمَتْها فَلَمّا التَزَمَتْها عَلِمَتْ أنَّها حُبْلى وذَكَرَتْ مَرْيَمُ حالَها، فَقالَتِ امْرَأةُ زَكَرِيّا إنِّي وجَدْتُ ما في بَطْنِي يَسْجُدُ لِما في بَطْنِكِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٣٩] . الرّابِعُ: أنَّ النَّفْخَةَ كانَتْ في فِيها فَوَصَلَتْ إلى بَطْنِها فَحَمَلَتْ في الحالِ، إذْ عَرَفْتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ في الكَلامِ حَذْفًا وهو، وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا، فَنَفَخَ فِيها فَحَمَلَتْهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قِيلَ حَمَلَتْهُ وهي بِنْتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ: بَنْتُ عِشْرِينَ وقَدْ كانَتْ حاضَتْ حَيْضَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تَحْمِلَ، ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأحْوالِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿فانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ أيِ: اعْتَزَلَتْ وهو في بَطْنِها كَقَوْلِهِ: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٠] أيْ تَنْبُتُ والدُّهْنُ فِيها، واخْتَلَفُوا في عِلَّةِ الِانْتِباذِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: ما رَواهُ الثَّعْلَبِيُّ في ”العَرائِسِ“ عَنْ وهْبٍ قالَ: إنَّ مَرْيَمَ لَمّا حَمَلَتْ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَعَها ابْنُ عَمٍّ لَها يُقالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجّارُ وكانا مُنْطَلِقَيْنِ إلى المَسْجِدِ الَّذِي عِنْدَ جَبَلِ صَهْيُونَ، وكانَ يُوسُفُ ومَرْيَمُ يَخْدِمانِ ذَلِكَ المَسْجِدَ ولا يُعْلَمُ في أهْلِ زَمانِهِما أحَدٌ أشَدُّ اجْتِهادًا ولا عِبادَةً مِنهُما، وأوَّلُ مَن عَرَفَ حَمْلَ مَرْيَمَ يُوسُفُ فَتَحَيَّرَ في أمْرِها فَكُلَّما أرادَ أنْ يَتَّهِمَها ذَكَرَ صَلاحَها وعِبادَتَها، وأنَّها لَمْ تَغِبْ عَنْهُ ساعَةً قَطُّ، وإذا أرادَ أنْ يُبَرِّئَها رَأى الَّذِي ظَهَرَ بِها مِنَ الحَمْلِ فَأوَّلُ ما تَكَلَّمَ أنَّهُ قالَ إنَّهُ وقَعَ في نَفْسِي مِن أمْرِكِ شَيْءٌ وقَدْ حَرِصْتُ عَلى كِتْمانِهِ فَغَلَبَنِي ذَلِكَ فَرَأيْتُ أنَّ الكَلامَ فِيهِ أشَفى لِصَدْرِي، فَقالَتْ: قُلْ قَوْلًا جَمِيلًا، قالَ: أخْبِرِينِي يا مَرْيَمُ هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بَذْرٍ وهَلْ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ مِن غَيْرِ غَيْثٍ، وهَلْ يَكُونُ ولَدٌ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ؟ قالَتْ نَعَمْ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ أنْبَتَ الزَّرْعَ يَوْمَ خَلَقَهُ مِن غَيْرِ بَذْرٍ وهَذا البَذْرُ إنَّما حَصَلَ مِنَ الزَّرْعِ الَّذِي أنْبَتَهُ مِن غَيْرِ بَذْرٍ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْبَتَ الشَّجَرَةَ مِن غَيْرِ غَيْثٍ وبِالقُدْرَةِ جَعَلَ الغَيْثَ حَياةَ الشَّجَرِ بَعْدَ ما خَلَقَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما عَلى حِدَةٍ، أوَ تَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَقْدِرُ عَلى أنْ يُنْبِتَ الشَّجَرَةَ حَتّى اسْتَعانَ بِالماءِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلى إنْباتِها ؟ فَقالَ يُوسُفُ: لا أقُولُ هَذا ولَكِنِّي أقُولُ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى ما يَشاءُ فَيَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَقالَتْ لَهُ مَرْيَمُ: أوَلَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وامْرَأتَهُ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ولا أُنْثى ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ زالَتِ التُّهْمَةُ عَنْ قَلْبِهِ وكانَ يَنُوبُ عَنْها في خِدْمَةِ المَسْجِدِ لِاسْتِيلاءِ الضَّعْفِ عَلَيْها بِسَبَبِ الحَمْلِ وضِيقِ القَلْبِ، فَلَمّا دَنا نِفاسُها أوْحى اللَّهُ إلَيْها أنِ اخْرُجِي مِن أرْضِ قَوْمِكِ لِئَلّا يَقْتُلُوا ولَدَكِ فاحْتَمَلَها يُوسُفُ إلى أرْضِ مِصْرَ عَلى حِمارٍ لَهُ، فَلَمّا بَلَغَتْ تِلْكَ البِلادَ أدْرَكَها النِّفاسُ فَألْجَأها إلى أصْلِ نَخْلَةٍ، وذَلِكَ في زَمانِ بَرْدٍ فاحْتَضَنَتْها فَوَضَعَتْ عِنْدَها. وثانِيها: أنَّها اسْتَحْيَتْ مِن زَكَرِيّا فَذَهَبَتْ إلى مَكانٍ بَعِيدٍ لا يَعْلَمُ بِها زَكَرِيّا. وثالِثُها: أنَّها كانَتْ مَشْهُورَةً في بَنِي إسْرائِيلَ بِالزُّهْدِ لِنَذْرِ أُمِّها وتَشاحَّ الأنْبِياءُ في تَرْبِيَتِها وتَكَفَّلَ زَكَرِيّا بِها، ولِأنَّ الرِّزْقَ كانَ يَأْتِيها مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، فَلَمّا كانَتْ في نِهايَةِ الشُّهْرَةِ اسْتَحْيَتْ مِن هَذِهِ الواقِعَةِ فَذَهَبَتْ إلى مَكانٍ بَعِيدٍ لا يَعْلَمُ بِها زَكَرِيّا. ورابِعُها: أنَّها خافَتْ عَلى ولَدِها لَوْ ولَدَتْهُ فِيما بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ مُحْتَمَلَةٌ، ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِنها. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في مُدَّةِ حَمْلِها عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّها كانَتْ تِسْعَةَ أشْهُرٍ كَما في سائِرِ النِّساءِ بِدَلِيلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ مَدائِحَها في هَذا المَوْضِعِ فَلَوْ كانَتْ عادَتُها في مُدَّةِ حَمْلِها بِخِلافِ عاداتِ النِّساءِ لَكانَ ذَلِكَ أوْلى بِالذِّكْرِ. الثّانِي: أنَّها كانَتْ ثَمانِيَةَ أشْهُرٍ، ولَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ وُضِعَ لِثَمانِيَةٍ إلّا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. الثّالِثُ: وهو قَوْلُ عَطاءٍ وأبِي العالِيَةِ والضَّحّاكِ: سَبْعَةُ أشْهُرٍ. (p-١٧٣)الرّابِعُ: أنَّها كانَتْ سِتَّةَ أشْهُرٍ. الخامِسُ: ثَلاثُ ساعاتٍ حَمَلَتْهُ في ساعَةٍ وصُوِّرَ في ساعَةٍ ووَضَعَتْهُ في ساعَةٍ. السّادِسُ: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أيْضًا كانَتْ مُدَّةُ الحَمْلِ ساعَةً واحِدَةً ويُمْكِنُ الِاسْتِدْلالُ عَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ [ مَرْيَمَ: ٢٣] ﴿فَأجاءَها المَخاضُ﴾ [ مَرْيَمَ: ٢٣]، ﴿فَناداها مِن تَحْتِها﴾ [ مَرْيَمَ: ٢٤] والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الفاءاتُ عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأحْوالِ حَصَلَ عَقِيبَ الآخَرِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ، وذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ مُدَّةِ الحَمْلِ ساعَةً واحِدَةً، لا يُقالُ انْتِباذُها مَكانًا قَصِيًّا كَيْفَ يَحْصُلُ في ساعَةٍ واحِدَةٍ ؟ لِأنّا نَقُولُ: السُّدِّيُّ فَسَّرَهُ بِأنَّها ذَهَبَتْ إلى أقْصى مَوْضِعٍ في جانِبِ مِحْرابِها. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في وصْفِهِ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٥٩] فَثَبَتَ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى لَهُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ وهَذا مِمّا لا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُدَّةُ الحَمْلِ، وإنَّما تُعْقَلُ تِلْكَ المُدَّةُ في حَقِّ مَن يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطْفَةِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ﴿قَصِيًّا﴾ أيْ: بَعِيدًا مِن أهْلِها، يُقالُ: مَكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بِمَعْنًى واحِدٍ مِثْلُ عاصٍ وعَصِيٍّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: أقْصى الدّارِ، وقِيلَ وراءَ الجَبَلِ، وقِيلَ: سافَرَتْ مَعَ ابْنِ عَمِّها يُوسُفَ وقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الحِكايَةُ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: [ أجاءَ ] مَنقُولٌ مَن جاءَ إلّا أنَّ اسْتِعْمالَهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْدَ النَّقْلِ إلى مَعْنى الإلْجاءِ فَإنَّكَ لا تَقُولُ جِئْتُ المَكانَ، وأجاءْنِيهِ زَيْدٌ كَما تَقُولُ بَلَغَنِيهِ وأبْلَغْتُهُ، والمَعْنى أنْ طَلْقَها ألْجَأها إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أنَّها إنَّما ذَهَبَتْ إلى النَّخْلَةِ طَلَبًا لِسُهُولَةِ الوِلادَةِ لِلتَّشَبُّثِ بِها. ويُحْتَمَلُ لِلتَّقْوِيَةِ والِاسْتِنادِ إلَيْها، ويُحْتَمَلُ لِلتَّسَتُّرِ بِها مِمَّنْ يُخْشى مِنهُ القالَةُ إذا رَآها، ولِذَلِكَ حَكى اللَّهُ عَنْها أنَّها تَمَنَّتِ المَوْتَ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ في ”الكَشّافِ“ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ المَخاضِ بِالكَسْرِ يُقالُ: مَخَضَتِ الحامِلُ مَخاضًا ومِخاضًا وهو تَمَخُّضُ الوَلَدِ في بَطْنِها. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قالَ في ”الكَشّافِ“ كانَ جِذْعَ نَخْلَةٍ يابِسَةٍ في الصَّحْراءِ لَيْسَ لَها رَأْسٌ ولا ثَمَرٌ ولا خُضْرَةٌ، وكانَ الوَقْتُ شِتاءً، والتَّعْرِيفُ إمّا أنْ يَكُونَ مِن تَعْرِيفِ الأسْماءِ الغالِبَةِ كَتَعْرِيفِ النَّجْمِ والصَّعْقِ كَأنَّ تِلْكَ الصَّحْراءَ كانَ فِيها جِذْعُ نَخْلَةٍ مَشْهُورٌ عِنْدَ النّاسِ، فَإذا قِيلَ: جِذْعُ النَّخْلَةِ فُهِمَ مِنهُ ذَلِكَ دُونَ سائِرِهِ وإمّا أنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الجِنْسِ أيْ: إلى جِذْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ خاصَّةً كَأنَّ اللَّهَ أرْشَدَها إلى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَها مِنها الرُّطَبَ الَّذِي هو أشَدُّ الأشْياءِ مُوافَقَةً لِلنُّفَساءِ، ولِأنَّ النَّخْلَةَ أقَلُّ الأشْياءِ صَبْرًا عَلى البَرْدِ ولا تُثْمِرُ إلّا عِنْدَ اللِّقاحِ، وإذا قُطِعَتْ رَأْسُها لَمْ تُثْمِرْ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ كَما أنَّ الأُنْثى لا تَلِدُ إلّا مَعَ الذَّكَرِ فَكَذا النَّخْلَةُ لا تُثْمِرُ إلّا عِنْدَ اللِّقاحِ، ثُمَّ إنِّي أُظْهِرُ الرُّطَبَ مِن غَيْرِ اللِّقاحِ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى جَوازِ ظُهُورِ الوَلَدِ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ. المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: لِمَ قالَتْ: ﴿قالَتْ يالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا﴾ مَعَ أنَّها كانَتْ تَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعَثَ جِبْرِيلَ إلَيْها وخَلَقَ ولَدَها مِن نَفْخِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ووَعَدَها بِأنْ يَجْعَلَها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قالَ وهْبٌ: أنْساها كُرْبَةَ الغُرْبَةِ وما سَمِعَتْهُ مِنَ النّاسِ ”مِن“ بِشارَةِ المَلائِكَةِ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. الثّانِي: أنَّ عادَةَ الصّالِحِينَ إذا وقَعُوا في بَلاءٍ أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ أنَّهُ نَظَرَ إلى طائِرٍ عَلى شَجَرَةٍ فَقالَ: طُوبى لَكَ يا طائِرُ تَقَعُ عَلى الشَّجَرَةِ وتَأْكُلُ مِنَ الثَّمَرِ! ودِدْتُ أنِّي ثَمَرَةٌ يَنْقُرُها الطّائِرُ ! وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ أخَذَ تِبْنَةً مِن (p-١٧٤)الأرْضِ وقالَ: لَيْتَنِي هَذِهِ التِّبْنَةُ يا لَيْتَنِي لَمْ أكُ شَيْئًا ! وقالَ عَلِيٌّ يَوْمَ الجَمَلَ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا اليَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وعَنْ بِلالٍ: لَيْتَ بِلالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ. فَثَبَتَ أنَّ هَذا الكَلامَ يَذْكُرُهُ الصّالِحُونَ عِنْدَ اشْتِدادِ الأمْرِ عَلَيْهِمْ. الثّالِثُ: لَعَلَّها قالَتْ ذَلِكَ لِكَيْ لا تَقَعَ المَعْصِيَةُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيها، وإلّا فَهي راضِيَةٌ بِما بُشِّرَتْ بِهِ. المَسْألَةُ العاشِرَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ النِّسْيُ ما مِن حَقِّهِ أنْ يُطْرَحَ ويُنْسى كَخِرْقَةِ الطَّمْثِ ونَحْوِها كالذَّبْحِ اسْمُ ما مِن شَأْنِهِ أنْ يُذْبَحَ كَقَوْلِهِ: ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧] تَمَنَّتْ لَوْ كانَتْ شَيْئًا تافِهًا لا يَؤْبَهُ بِهِ ومِن حَقِّهِ أنْ يُنْسى في العادَةِ وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وحَمْزَةُ ”نَسْيًا“ بِالفَتْحِ والباقُونَ ”نِسْيًا“ بِالكَسْرِ قالَ الفَرّاءُ: هُما لُغَتانِ كالوَتْرِ والوِتْرِ والجَسْرِ والجِسْرِ، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ نَسِيئًا بِالهَمْزِ، وهو الحَلِيبُ المَخْلُوطُ بِالماءِ يَنْسَؤُهُ أهْلُهُ لِقِلَّتِهِ، وقَرَأ الأعْمَشُ مِنسِيًّا بِالكَسْرِ عَلى الإتْباعِ كالمِغْيِرِ والمِنخِرِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب