الباحث القرآني

وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إذْ بَدَلٌ مِن مَرْيَمَ بَدَلَ اشْتِمالٍ؛ لِأنَّ الأحْيانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى ما فِيها وفِيهِ أنَّ المَقْصُودَ بِذِكْرِ مَرْيَمَ ذِكْرُ وقْتِ هَذا الوُقُوعِ لِهَذِهِ القِصَّةِ العَجِيبَةِ فِيهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: النَّبْذُ أصْلُهُ الطَّرْحُ والإلْقاءُ، والِانْتِباذُ افْتِعالٌ مِنهُ، ومِنهُ: ﴿فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨٧] وانْتَبَذَتْ تَنَحَّتْ يُقالُ: جَلَسَ نُبْذَةً مِنَ النّاسِ، ونَبْذَةً بِضَمِّ النُّونِ وفَتْحِها أيْ: ناحِيَةً، وهَذا إذا جَلَسَ قَرِيبًا مِنكَ حَتّى لَوْ نَبَذْتَ إلَيْهِ شَيْئًا وصَلَ إلَيْهِ، ونَبَذْتُ الشَّيْءَ رَمَيْتُهُ ومِنهُ النَّبِيذُ؛ لِأنَّهُ يُطْرَحُ في الإناءِ وأصْلُهُ مَنبُوذٌ؛ فَصُرِفَ إلى فَعِيلٍ ومِنهُ قِيلَ لِلَّقِيطِ مَنبُوذٌ؛ لِأنَّهُ يُرْمى بِهِ ومِنهُ النَّهْيُ عَنِ المُنابَذَةِ في البَيْعِ وهو أنْ يَقُولَ: إذا نَبَذْتُ إلَيْكَ هَذا الثَّوْبَ أوِ الحَصاةَ فَقَدْ وجَبَ البَيْعُ، إذْ عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ مَعْناهُ تَباعَدَتْ وانْفَرَدَتْ عَلى سُرْعَةٍ إلى مَكانٍ يَلِي ناحِيَةَ الشَّرْقِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّها مَعَ ذَلِكَ اتَّخَذَتْ مِن دُونِ أهْلِها حِجابًا مَسْتُورًا، وظاهِرُ ذَلِكَ أنَّها لَمْ تَقْتَصِرْ عَلى أنِ انْفَرَدَتْ إلى مَوْضِعٍ بَلْ جَعَلَتْ بَيْنَها وبَيْنَهم حائِلًا مِن حائِطٍ أوْ غَيْرِهِ ويُحْتَمَلُ أنَّها جَعَلَتْ بَيْنَ نَفْسِها وبَيْنَهم سِتْرًا وهَذا الوَجْهُ الثّانِي أظْهَرُ مِنَ الأوَّلِ ثُمَّ لا بُدَّ مِنَ احْتِجابِها مِن أنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ولَيْسَ مَذْكُورًا واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّها لَمّا رَأتِ الحَيْضَ تَباعَدَتْ عَنْ مَكانِها المُعْتادِ لِلْعِبادَةِ لِكَيْ تَنْتَظِرَ الطُّهْرَ فَتَغْتَسِلَ وتَعُودَ فَلَمّا طَهُرَتْ جاءَها جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. والثّانِي: أنَّها طَلَبَتِ الخَلْوَةَ لِئَلّا تَشْتَغِلَ عَنِ العِبادَةِ. والثّالِثُ: قَعَدَتْ في مَشْرَقَةٍ لِلِاغْتِسالِ مِنَ الحَيْضِ مُحْتَجِبَةً بِشَيْءٍ يَسْتُرُها. والرّابِعُ: أنَّها كانَ لَها في مَنزِلِ زَوْجِ أُخْتِها زَكَرِيّاءَ مِحْرابٌ عَلى حِدَةٍ تَسْكُنُهُ وكانَ زَكَرِيّا إذا خَرَجَ أغْلَقَ عَلَيْها فَتَمَنَّتْ (عَلى) اللَّهِ (أنْ) تَجِدَ خَلْوَةً في الجَبَلِ لِتُفَلِّيَ رَأْسَها فانْفَرَجَ السَّقْفُ لَها فَخَرَجَتْ إلى المَفازَةِ فَجَلَسَتْ في المَشْرَقَةِ وراءَ الجَبَلِ فَأتاها المَلَكُ. وخامِسُها: عَطِشَتْ فَخَرَجَتْ إلى المَفازَةِ لِتَسْتَقِيَ، واعْلَمْ أنَّ كُلَّ هَذِهِ الوُجُوهِ مُحْتَمَلٌ ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى تَرْجِيحِ واحِدٍ مِنها. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المَكانُ الشَّرْقِيُّ هو الَّذِي يَلِي شَرْقِيَّ بَيْتِ المَقْدِسِ أوْ شَرْقِيَّ دارِها وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنِّي لَأعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصارى المَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ فاتَّخَذُوا مِيلادَ عِيسى قِبْلَةً. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أنَّها لَمّا جَلَسَتْ في ذَلِكَ المَكانِ أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْها الرُّوحَ واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذا الرُّوحِ فَقالَ الأكْثَرُونَ: إنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وقالَ أبُو مُسْلِمٍ إنَّهُ الرُّوحُ الَّذِي تَصَوَّرَ في بَطْنِها بَشَرًا، والأوَّلُ أقْرَبُ لِأنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يُسَمّى رُوحًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٣، ١٩٤] (p-١٦٨)وسُمِّيَ رُوحًا؛ لِأنَّهُ رُوحانِيٌّ وقِيلَ: خُلِقَ مِنَ الرُّوحِ، وقِيلَ: لِأنَّ الدِّينَ يَحْيا بِهِ أوْ سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى بِرُوحِهِ عَلى المَجازِ مَحَبَّةً لَهُ وتَقْرِيبًا كَما تَقُولُ لِحَبِيبِكَ رُوحِي، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ رَوْحَنا بِالفَتْحِ؛ لِأنَّهُ سَبَبٌ لِما فِيهِ رَوْحُ العِبادِ، وإصابَةُ الرَّوْحِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هو عِدَةُ المُتَّقِينَ في قَوْلِهِ: ﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ ﴿فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقِعَةِ: ٨٩] أوْ لِأنَّهُ مِنَ المُقَرَّبِينَ وهُمُ المَوْعُودُونَ بِالرَّوْحِ أيْ: مُقَرِّبَنا وذا رَوْحِنا وإذا ثَبَتَ أنَّهُ يُسَمّى رُوحًا فَهو هُنا يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ هو؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [ مَرْيَمَ: ١٩] ولا يَلِيقُ ذَلِكَ إلّا بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ واخْتَلَفُوا في أنَّهُ كَيْفَ ظَهَرَ لَها. فالأوَّلُ: أنَّهُ ظَهَرَ لَها عَلى صُورَةِ شابٍّ أمَرَدَ حَسَنِ الوَجْهِ سَوِيِّ الخَلْقِ. والثّانِي: أنَّهُ ظَهَرَ لَها عَلى صُورَةِ تِرْبٍ لَها، اسْمُهُ يُوسُفُ مِن خَدَمِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ولا دَلالَةَ في اللَّفْظِ عَلى التَّعْيِينِ، ثُمَّ قالَ: وإنَّما تَمَثَّلَ لَها في صُورَةِ الإنْسانِ لِتَسْتَأْنِسَ بِكَلامِهِ ولا تَنْفِرَ عَنْهُ فَلَوْ ظَهَرَ لِها في صُورَةِ المَلائِكَةِ لَنَفَرَتْ عَنْهُ ولَمْ تَقْدِرْ عَلى اسْتِماعِ كَلامِهِ ثُمَّ هَهُنا إشْكالاتٌ: أحَدُهُما: وهو أنَّهُ لَوْ جازَ أنْ يَظْهَرَ المَلَكُ في صُورَةِ إنْسانٍ مُعَيَّنٍ فَحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُنا القَطْعُ بِأنَّ هَذا الشَّخْصَ الَّذِي أراهُ في الحالِ هو زَيْدٌ الَّذِي رَأيْتُهُ بِالأمْسِ لِاحْتِمالِ أنَّ المَلَكَ أوِ الجِنِّيَّ تَمَثَّلَ في صُورَتِهِ، وفَتْحُ هَذا البابِ يُؤَدِّي إلى السَّفْسَطَةِ، لا يُقالُ هَذا إنَّما يَجُوزُ في زَمانِ جَوازِ البَعْثَةِ فَأمّا في زَمانِنا هَذا فَلا يَجُوزُ؛ لِأنّا نَقُولُ: هَذا الفَرْقُ إنَّما يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ، فالجاهِلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ يَجِبُ أنْ لا يَقْطَعَ بِأنَّ هَذا الشَّخْصَ الَّذِي أراهُ الآنَ هو الشَّخْصُ الَّذِي رَأيْتُهُ بِالأمْسِ. وثانِيها: أنَّهُ جاءَ في الأخْبارِ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَخْصٌ عَظِيمٌ جِدًّا فَذَلِكَ الشَّخْصُ العَظِيمُ كَيْفَ صارَ بَدَنُهُ في مِقْدارِ جُثَّةِ الإنْسانِ أبِأْنَ تَساقَطَتْ أجْزاؤُهُ وتَفَرَّقَتْ بِنْيَتُهُ فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى جِبْرِيلُ أوْ بِأنْ تَداخَلَتْ أجْزاؤُهُ وذَلِكَ يُوجِبُ تَداخُلَ الأجْزاءِ وهو مُحالٌ. وثالِثُها: وهو أنّا لَوْ جَوَّزْنا أنْ يَتَمَثَّلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ في صُورَةِ الآدَمِيِّ فَلِمَ لا يَجُوزُ تَمَثُّلُهُ في صُورَةِ جِسْمٍ أصْغَرَ مِنَ الآدَمِيِّ حَتّى الذُّبابُ والبَقُّ والبَعُوضُ ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ جَرَّ إلى ذَلِكَ فَهو باطِلٌ. ورابِعُها: أنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إلى القَدْحِ في خَبَرِ التَّواتُرِ فَلَعَلَّ الشَّخْصَ الَّذِي حارَبَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا بَلْ كانَ شَخْصًا آخَرَ تَشَبَّهَ بِهِ وكَذا القَوْلُ في الكُلِّ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّ ذَلِكَ التَّجْوِيزَ لازِمٌ عَلى الكُلِّ لِأنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِافْتِقارِ العالَمِ إلى الصّانِعِ المُخْتارِ فَقَدْ قَطَعَ بِكَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى أنْ يَخْلُقَ شَخْصًا آخَرَ مِثْلَ زَيْدٍ في خِلْقَتِهِ وتَخْطِيطِهِ وإذا جَوَّزْنا ذَلِكَ فَقَدْ لَزِمَ الشَّكُّ في أنَّ زَيْدًا المُشاهِدَ الآنَ هو الَّذِي شاهَدْناهُ بِالأمْسِ أمْ لا، ومَن أنْكَرَ الصّانِعَ المُخْتارَ وأسْنَدَ الحَوادِثَ إلى اتِّصالاتِ الكَواكِبِ وتَشَكِيلاتِ الفَلَكِ لَزِمَهُ تَجْوِيزُ أنْ يَحْدُثَ اتِّصالٌ غَرِيبٌ في الأفْلاكِ يَقْتَضِي حُدُوثَ شَخْصٍ مِثْلَ زَيْدٍ في كُلِّ الأُمُورِ وحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّجْوِيزُ المَذْكُورُ. وعَنِ الثّانِي: أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُ أجْزاءٌ أصْلِيَّةٌ وأجْزاءٌ فاضِلَةٌ، والأجْزاءُ الأصْلِيَّةُ قَلِيلَةٌ جِدًّا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِصُورَةِ الإنْسانِ، هَذا إذا جَعَلْناهُ جُسْمانِيًّا أمّا إذا جَعَلْناهُ رُوحانِيًّا فَأيُّ اسْتِبْعادٍ في أنْ يَتَدَرَّعَ تارَةً بِالهَيْكَلِ العَظِيمِ وأُخْرى بِالهَيْكَلِ الصَّغِيرِ. وعَنِ الثّالِثِ: أنَّ أصْلَ التَّجْوِيزِ قائِمٌ في العَقْلِ وإنَّما عُرِفَ فَسادُهُ بِدَلائِلِ السَّمْعِ وهو الجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الرّابِعِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب