الباحث القرآني

(p-١٣٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو القِصَّةُ الرّابِعَةُ مِنَ القِصَصِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ وفِيها مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّ اليَهُودَ أمَرُوا المُشْرِكِينَ أنْ يَسْألُوا رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- عَنْ قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ وعَنْ قِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ وعَنِ الرُّوحِ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ﴾ هو ذَلِكَ السُّؤالُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ ذا القَرْنَيْنِ مَن هو ؟ وذَكَرُوا فِيهِ أقْوالًا: الأوَّلُ: أنَّهُ هو الإسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ اليُونانِيُّ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الرَّجُلَ المُسَمّى بِذِي القَرْنَيْنِ بَلَغَ مُلْكُهُ إلى أقْصى المَغْرِبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ [الكَهْفِ: ٨٦] وأيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أقْصى المَشْرِقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ [الكَهْفِ: ٩٠] وأيْضًا بَلَغَ مُلْكُهُ أقْصى الشَّمالِ بِدَلِيلِ أنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ قَوْمٌ مِنَ التُّرْكِ يَسْكُنُونَ في أقْصى الشَّمالِ، وبِدَلِيلِ أنَّ السَّدَّ المَذْكُورَ في القُرْآنِ يُقالُ في كُتُبِ التَّوارِيخِ إنَّهُ مَبْنِيٌّ في أقْصى الشَّمالِ فَهَذا الإنْسانُ المُسَمّى بِذِي القَرْنَيْنِ في القُرْآنِ قَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلى أنَّ مُلْكَهُ بَلَغَ أقْصى المَغْرِبِ والمَشْرِقِ والشَّمالِ وهَذا هو تَمامُ القَدْرِ المَعْمُورِ مِنَ الأرْضِ، ومِثْلُ هَذا المَلِكِ البَسِيطِ لا شَكَّ أنَّهُ عَلى خِلافِ العاداتِ وما كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَبْقى ذِكْرُهُ مُخَلَّدًا عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، وأنْ لا يَبْقى مَخْفِيًّا مُسْتَتِرًا، والمَلِكُ الَّذِي اشْتُهِرَ في كُتُبِ التَّوارِيخِ أنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ إلى هَذا الحَدِّ لَيْسَ إلّا الإسْكَنْدَرَ، وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَمّا ماتَ أبُوهُ جَمَعَ مُلُوكَ الرُّومِ بَعْدَ أنْ كانُوا طَوائِفَ ثُمَّ جَمَعَ مُلُوكَ المَغْرِبِ وقَهَرَهم، وأمْعَنَ حَتّى انْتَهى إلى البَحْرِ الأخْضَرِ ثُمَّ عادَ إلى مِصْرَ؛ فَبَنى الإسْكَنْدَرِيَّةَ وسَمّاها بِاسْمِ نَفْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ الشّامَ، وقَصَدَ بَنِي إسْرائِيلَ، ووَرَدَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وذَبَحَ في مَذْبَحِهِ ثُمَّ انْعَطَفَ إلى أرْمِينِيَّةَ وبابِ الأبْوابِ، ودانَتْ لَهُ العِراقِيُّونَ والقِبْطُ والبَرْبَرُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ دارا بْنِ دارا، وهَزَمَهُ مَرّاتٍ إلى أنْ قَتَلَهُ صاحِبُ حَرَسِهِ؛ فاسْتَوْلى الإسْكَنْدَرُ عَلى مَمالِكِ الفُرْسِ ثُمَّ قَصَدَ الهِنْدَ والصِّينَ، وغَزا الأُمَمَ البَعِيدَةَ، ورَجَعَ إلى خُراسانَ وبَنى المُدُنَ الكَثِيرَةَ ورَجَعَ إلى العِراقِ ومَرِضَ بِشَهْرَزُورَ، وماتَ بِها. فَلَمّا ثَبَتَ بِالقُرْآنِ أنَّ ذا القَرْنَيْنِ كانَ رَجُلًا مَلَكَ الأرْضَ بِالكُلِّيَّةِ، أوْ ما يَقْرُبُ مِنها، وثَبَتَ بِعِلْمِ التَّوارِيخِ أنَّ الَّذِي هَذا شَأْنُهُ ما كانَ إلّا الإسْكَنْدَرَ؛ وجَبَ القَطْعُ بِأنَّ المُرادَ بِذِي القَرْنَيْنِ هو الإسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِبُوسَ اليُونانِيُّ ثُمَّ ذَكَرُوا في سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ بِهَذا الِاسْمِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّهُ لُقِّبَ بِهَذا اللَّقَبِ لِأجْلِ بُلُوغِهِ قَرْنَيِ الشَّمْسِ أيْ مَطْلَعِها ومَغْرِبِها كَما لُقِّبَ أرْدَشِيرُ بْنُ بَهْمَنَ بِطَوِيلِ اليَدَيْنِ، لِنُفُوذِ أمْرِهِ حَيْثُ أرادَ. والثّانِي: أنَّ الفُرْسَ قالُوا: إنْ دارا الأكْبَرَ كانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِابْنَةِ فِيلِبُوسَ؛ فَلَمّا قَرُبَ مِنها وجَدَ مِنها رائِحَةً مُنْكَرَةً؛ فَرَدَّها عَلى أبِيها فِيلِبُوسَ، وكانَتْ قَدْ حَمَلَتْ مِنهُ بِالإسْكَنْدَرِ؛ فَوَلَدَتِ الإسْكَنْدَرَ بَعْدَ عَوْدِها إلى أبِيها؛ فَبَقِيَ الإسْكَنْدَرُ عِنْدَ فِيلِبُوسَ، وأظْهَرَ فِيلِبُوسُ أنَّهُ ابْنُهُ، وهو في الحَقِيقَةِ ابْنُ دارا الأكْبَرِ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الإسْكَنْدَرَ لَمّا أدْرَكَ دارا بْنَ دارا وبِهِ رَمَقٌ وضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِهِ، وقالَ لِدارا: يا أبِي أخْبِرْنِي عَمَّنْ فَعَلَ هَذا لِأنْتَقِمَ لَكَ مِنهُ ! فَهَذا ما قالَهُ الفُرْسُ، قالُوا: وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالإسْكَنْدَرُ أبُوهُ دارا الأكْبَرُ، وأُمُّهُ بِنْتُ فِيلِبُوسَ، فَهو إنَّما تَوَلَّدَ مِن أصْلَيْنِ (p-١٤٠)مُخْتَلِفَيْنِ الفُرْسِ والرُّومِ، وهَذا الَّذِي قالَهُ الفُرْسُ إنَّما ذَكَرُوهُ لِأنَّهم أرادُوا أنْ يَجْعَلُوهُ مِن نَسْلِ مُلُوكِ العَجَمِ حَتّى لا يَكُونَ مَلِكٌ مِثْلُهُ مِن نَسَبٍ غَيْرِ نَسَبِ مُلُوكِ العَجَمِ، وهو في الحَقِيقَةِ كَذِبٌ، وإنَّما قالَ الإسْكَنْدَرُ لِدارا: يا أبِي عَلى سَبِيلِ التَّواضُعِ، وأكْرَمَ دارا بِذَلِكَ الخِطابِ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ أبُو الرَّيْحانِ الهَرَوِيُّ المُنَجِّمُ في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ بِالآثارِ الباقِيَةِ عَنِ القُرُونِ الخالِيَةِ، قِيلَ: إنَّ ذا القَرْنَيْنِ هو أبُو كَرْبٍ شِمْرُ بْنُ عُبَيْرِ بْنِ أفْرِيقِشَ الحِمْيَرِيُّ فَإنَّهُ بَلَغَ مُلْكُهُ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، وهو الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ أحَدُ الشُّعَراءِ مِن حِمْيَرَ حَيْثُ قالَ: ؎قَدْ كانَ ذُو القَرْنَيْنِ قَبْلِي مُسْلِمًا مَلِكًا عَلا في الأرْضِ غَيْرَ مُفْنِدِي ؎بَلَغَ المَشارِقَ والمَغارِبَ يَبْتَغِي ∗∗∗ أسْبابَ مُلْكٍ مِن كَرِيمٍ سَيِّدِ ثُمَّ قالَ أبُو الرَّيْحانِ: ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا القَوْلُ أقْرَبَ لِأنَّ الأذْواءَ كانُوا مِنَ اليَمَنِ وهُمُ الَّذِينَ لا تَخْلُو أسامِيهِمْ مِن ذِي كَذِي النّادِي، وذِي نُواسٍ، وذِي النُّونِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ كانَ عَبْدًا صالِحًا مَلَّكَهُ اللَّهُ الأرْضَ وأعْطاهُ العِلْمَ والحِكْمَةَ وألْبَسَهُ الهَيْبَةَ، وإنْ كُنّا لا نَعْرِفُ أنَّهُ مَن هو، ثُمَّ ذَكَرُوا في تَسْمِيَتِهِ بِذِي القَرْنَيْنِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: سَألَ ابْنُ الكَوّا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ، وقالَ أمَلِكٌ هو أمْ نَبِيٌّ ؟ فَقالَ: لا مَلِكٌ، ولا نَبِيٌّ، كانَ عَبْدًا صالِحًا ضُرِبَ عَلى قَرْنِهِ الأيْمَنِ في طاعَةِ اللَّهِ فَماتَ ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَضُرِبَ عَلى قَرْنِهِ الأيْسَرِ؛ فَماتَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ؛ فَسُمِّيَ بِذِي القَرْنَيْنِ، ومَلِكِ مُلْكِهِ. الثّانِي: سُمِّيَ بِذِي القَرْنَيْنِ؛ لِأنَّهُ انْقَرَضَ في وقْتِهِ قَرْنانِ مِنَ النّاسِ. الثّالِثُ: قِيلَ كانَ صَفْحَتا رَأْسِهِ مِن نُحاسٍ. الرّابِعُ: كانَ عَلى رَأْسِهِ ما يُشْبِهُ القَرْنَيْنِ. الخامِسُ: (كانَ) لِتاجِهِ قَرْنانِ. السّادِسُ: «عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- سُمِّيَ ذا القَرْنَيْنِ؛ لِأنَّهُ طافَ قَرْنَيِ الدُّنْيا يَعْنِي شَرْقَها وغَرْبَها» . السّابِعُ: كانَ لَهُ قَرْنانِ أيْ ضَفِيرَتانِ. الثّامِنُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى سَخَّرَ لَهُ النُّورَ والظُّلْمَةَ، فَإذا سَرى يَهْدِيهِ النُّورُ مِن أمامِهِ، وتَمُدُّهُ الظَّلَمَةُ مِن ورائِهِ. التّاسِعُ: يَجُوزُ أنْ يُلَقَّبَ بِذَلِكَ لِشَجاعَتِهِ كَما يُسَمّى الشُّجاعُ كَبْشًا كَأنَّهُ يَنْطَحُ أقْرانَهُ. العاشِرُ: رَأى في المَنامِ كَأنَّهُ صَعِدَ الفَلَكَ فَتَعَلَّقَ بِطَرَفَيِ الشَّمْسِ وقَرْنَيْها وجانِبَيْها فَسُمِّيَ لِهَذا السَّبَبِ بِذِي القَرْنَيْنِ. الحادِي عَشَرَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ دَخَلَ النُّورَ والظُّلْمَةَ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ ذا القَرْنَيْنِ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ، عَنْ عُمَرَ أنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يا ذا القَرْنَيْنِ فَقالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا؛ أما رَضِيتُمْ أنْ تُسَمُّوا بِأسْماءِ الأنْبِياءِ حَتّى تُسَمُّوا بِأسْماءِ المَلائِكَةِ ! فَهَذا جُمْلَةُ ما قِيلَ في هَذا البابِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ لِأجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ وهو أنَّ مِثْلَ هَذا المَلِكِ العَظِيمِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الحالِ عِنْدَ أهْلِ الدُّنْيا، والَّذِي هو مَعْلُومُ الحالِ بِهَذا المُلْكِ العَظِيمِ هو الإسْكَنْدَرُ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِذِي القَرْنَيْنِ هو هو إلّا أنَّ فِيهِ إشْكالًا قَوِيًّا وهو أنَّهُ كانَ تِلْمِيذَ أرِسْطاطالِيسَ الحَكِيمِ، وكانَ عَلى مَذْهَبِهِ، فَتَعْظِيمُ اللَّهِ إيّاهُ يُوجِبُ الحُكْمَ بِأنَّ مَذْهَبَ أرِسْطاطالِيسَ حَقٌّ وصِدْقٌ وذَلِكَ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في ذِي القَرْنَيْنِ هَلْ كانَ مِنَ الأنْبِياءِ أمْ لا ؟ مِنهم مَن قالَ: إنَّهُ كانَ نَبِيًّا واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ﴾ والأوْلى حَمْلُهُ عَلى التَّمْكِينِ في الدِّينِ والتَّمْكِينُ الكامِلُ في الدِّينِ هو النُّبُوَّةُ. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ ومِن جُمْلَةِ الأشْياءِ النُّبُوَّةُ فَمُقْتَضى العُمُومِ في (p-١٤١)قَوْلِهِ: ﴿وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ هو أنَّهُ تَعالى آتاهُ في النُّبُوَّةِ سَبَبًا. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذِّبَ وإمّا أنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ (الكَهْفِ: ٨٦) والَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ مَعَهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ نَبِيًّا، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ كانَ عَبْدًا صالِحًا وما كانَ نَبِيًّا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في دُخُولِ السِّينِ في قَوْلِهِ: ﴿سَأتْلُو﴾ مَعْناهُ إنِّي سَأفْعَلُ هَذا إنْ وفَّقَنِي اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وأنْزَلَ فِيهِ وحَيًّا وأخْبَرَنِي عَنْ كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الحالِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا مَكَّنّا لَهُ في الأرْضِ﴾ فَهَذا التَّمْكِينُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ المُلْكِ مِن حَيْثُ إنَّهُ مَلَكَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ التَّمْكِينَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ أعْلى مِنَ التَّمْكِينِ بِسَبَبِ المُلْكِ، وحَمْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ الأفْضَلِ أوْلى، ثُمَّ قالَ: ﴿وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ قالُوا: السَّبَبُ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الحَبْلِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى المَقْصُودِ وهو يَتَناوَلُ العِلْمَ والقُدْرَةَ والآلَةَ فَقَوْلُهُ: ﴿وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ مَعْناهُ: أعْطَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِها إلى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ كانَ نَبِيًّا قالُوا: مِن جُمْلَةِ الأشْياءِ النُّبُوَّةُ، فَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أعْطاهُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إلى تَحْصِيلِ النُّبُوَّةِ، والَّذِينَ أنْكَرُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا قالُوا: المُرادُ بِهِ وآتَيْناهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ يَحْتاجُ إلَيْهِ في إصْلاحِ مُلْكِهِ سَبَبًا، إلّا أنَّ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنْ تَخْصِيصَ العُمُومِ خِلافُ الظّاهِرِ فَلا يُصارُ إلَيْهِ إلّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَأتْبَعَ سَبَبًا﴾ ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى لَمّا أعْطاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَهُ فَإذا أرادَ شَيْئًا أتْبَعَ سَبَبًا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، ويُقَرِّبُهُ مِنهُ، قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (فاتَّبَعَ) بِتَشْدِيدِ التّاءِ، وكَذَلِكَ ثُمَّ اتَّبَعَ أيْ سَلَكَ وسارَ، والباقُونَ فَأتْبَعَ بِقَطْعِ الألِفِ وسُكُونِ التّاءِ مُخَفَّفَةً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب