الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ ﴿وأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ ﴿فَأرَدْنا أنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْمًا﴾ ﴿وأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ المَسائِلَ الثَّلاثَةَ مُشْتَرِكَةٌ في شَيْءٍ واحِدٍ وهو أنَّ أحْكامَ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَبْنِيَّةٌ عَلى الظَّواهِرِ كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ واللَّهُ يَتَوَلّى السَّرائِرَ» . وهَذا العالِمُ ما كانَتْ أحْكامُهُ مَبْنِيَّةً عَلى ظَواهِرِ الأُمُورِ بَلْ كانَتْ مَبْنِيَّةً عَلى الأسْبابِ الحَقِيقِيَّةِ الواقِعَةِ في نَفْسِ الأمْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ في أمْوالِ النّاسِ وفي أرْواحِهِمْ في المَسْألَةِ الأُولى وفي الثّانِيَةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ظاهِرٍ يُبِيحُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ؛ لِأنَّ تَخْرِيقَ السَّفِينَةِ تَنْقِيصٌ لِمِلْكِ الإنْسانِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ظاهِرٍ، وقَتْلَ الغُلامِ تَفْوِيتٌ لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ظاهِرٍ، والإقْدامَ عَلى إقامَةِ ذَلِكَ الجِدارِ المائِلِ في المَسْألَةِ الثّالِثَةِ تَحَمُّلُ التَّعَبِ والمَشَقَّةِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ظاهِرٍ، وفي هَذِهِ المَسائِلِ الثَّلاثَةِ لَيْسَ حُكْمُ ذَلِكَ العالِمِ فِيها مَبْنِيًّا عَلى الأسْبابِ الظّاهِرَةِ المَعْلُومَةِ، بَلْ كانَ ذَلِكَ الحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلى أسْبابٍ مُعْتَبَرَةٍ في نَفْسِ الأمْرِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ العالِمَ كانَ قَدْ آتاهُ اللَّهُ قُوَّةً عَقْلِيَّةً؛ قَدَرَ بِها أنْ يُشْرِفَ عَلى بَواطِنِ الأُمُورِ، ويَطَّلِعَ بِها عَلى حَقائِقِ الأشْياءِ؛ فَكانَتْ مَرْتَبَةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في مَعْرِفَةِ الشَّرائِعِ والأحْكامِ بِناءَ الأمْرِ عَلى الظَّواهِرِ، وهَذا العالِمُ كانَتْ مَرْتَبَتُهُ الوُقُوفَ عَلى بَواطِنِ الأشْياءِ وحَقائِقِ الأُمُورِ والِاطِّلاعِ عَلى أسْرارِها الكامِنَةِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أنَّ مَرْتَبَتَهُ في العِلْمِ كانَتْ فَوْقَ مَرْتَبَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المَسائِلُ الثَّلاثَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ وهو أنَّ عِنْدَ تَعارُضِ الضَّرَرَيْنِ يَجِبُ تَحَمُّلُ الأدْنى لِدَفْعِ الأعْلى؛ فَهَذا هو الأصْلُ المُعْتَبَرُ في المَسائِلِ الثَّلاثَةِ. أمّا المَسْألَةُ الأُولى: فَلِأنَّ ذَلِكَ العالِمَ عَلِمَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَعِبْ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِالتَّخْرِيقِ لَغَصَبَها ذَلِكَ المَلِكُ، وفاتَتْ مَنافِعُها عَنْ مُلّاكِها بِالكُلِّيَّةِ فَوَقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ أنْ يَخْرِقَها ويَعِيبَها فَتَبْقى مَعَ ذَلِكَ عَلى مُلّاكِها، وبَيْنَ أنْ لا يَخْرِقَها فَيَغْصِبَها المَلِكُ فَتَفُوتَ مَنافِعُها بِالكُلِّيَّةِ عَلى مُلّاكِها، ولا شَكَّ أنَّ الضَّرَرَ الأوَّلَ أقَلُّ فَوَجَبَ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الثّانِي الَّذِي هو أعْظَمُهُما. (p-١٣٦)وأمّا المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: فَكَذَلِكَ لِأنَّ بَقاءَ ذَلِكَ الغُلامِ حَيًّا كانَ مَفْسَدَةً لِلْوالِدَيْنِ في دِينِهِمْ وفي دُنْياهم، ولَعَلَّهُ عَلِمَ بِالوَحْيِ أنَّ المَضارَّ النّاشِئَةَ مِن قَتْلِ ذَلِكَ الغُلامِ أقَلُّ مِنَ المَضارِّ النّاشِئَةِ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ المَفاسِدِ لِلْأبَوَيْنِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أقْدَمَ عَلى قَتْلِهِ. والمَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أيْضًا كَذَلِكَ لِأنَّ المَشَقَّةَ الحاصِلَةَ بِسَبَبِ الإقْدامِ عَلى إقامَةِ ذَلِكَ الجِدارِ ضَرَرُها أقَلُّ مِن سُقُوطِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَضاعَ مالُ تِلْكَ الأيْتامِ، وفِيهِ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، فالحاصِلُ أنَّ ذَلِكَ العالِمَ كانَ مَخْصُوصًا بِالوُقُوفِ عَلى بَواطِنِ الأشْياءِ وبِالِاطِّلاعِ عَلى حَقائِقِها كَما هي عَلَيْها في أنْفُسِها، وكانَ مَخْصُوصًا بِبِناءِ الأحْكامِ الحَقِيقِيَّةِ عَلى تِلْكَ الأحْوالِ الباطِنَةِ، وأمّا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَما كانَ كَذَلِكَ بَلْ كانَتْ أحْكامُهُ مَبْنِيَّةً عَلى ظَواهِرِ الأُمُورِ فَلا جَرَمَ ظَهَرَ التَّفاوُتُ بَيْنَهُما في العِلْمِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَحاصِلُ الكَلامِ أنَّهُ تَعالى أطْلَعَهُ عَلى بَواطِنِ الأشْياءِ وحَقائِقِها في نَفْسِها، وهَذا النَّوْعُ مِنَ العِلْمِ لا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ، ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ذَهَبَ إلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنهُ العِلْمَ فَكانَ مِنَ الواجِبِ عَلى ذَلِكَ العالِمِ أنْ يُظْهِرَ لَهُ عِلْمًا يُمْكِنُ لَهُ تَعَلُّمُهُ، وهَذِهِ المَسائِلُ الثَّلاثَةُ عُلُومٌ لا يُمْكِنُ تَعَلُّمُها؛ فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِها وإظْهارِها ؟ والجَوابُ: أنَّ العِلْمَ بِظَواهِرِ الأشْياءِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِناءً عَلى مَعْرِفَةِ الشَّرائِعِ الظّاهِرَةِ، وأمّا العِلْمُ بِبَواطِنِ الأشْياءِ فَإنَّما يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِناءً عَلى تَصْفِيَةِ الباطِنِ وتَجْرِيدِ النَّفْسِ وتَطْهِيرِ القَلْبِ عَنِ العَلائِقِ الجَسَدانِيَّةِ، ولِهَذا قالَ تَعالى في صِفَةِ عِلْمِ ذَلِكَ العالِمِ: ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ (الكَهْفِ: ٦٥)، ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كَمُلَتْ مَرْتَبَتُهُ في عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى هَذا العالِمِ لِيَعْلَمَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ كَمالَ الدَّرَجَةِ في أنْ يَنْتَقِلَ الإنْسانُ مِن عُلُومِ الشَّرِيعَةِ المَبْنِيَّةِ عَلى الظَّواهِرِ إلى عُلُومِ الباطِنِ المَبْنِيَّةِ عَلى الإشْرافِ عَلى البَواطِنِ والتَّطَلُّعِ عَلى حَقائِقِ الأُمُورِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ العالِمَ أجابَ عَنِ المَسْألَةِ الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ وفِيهِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ تِلْكَ السَّفِينَةَ كانَتْ لِأقْوامٍ مُحْتاجِينَ مُتَعَيِّشِينَ بِها في البَحْرِ واللَّهُ تَعالى سَمّاهم مَساكِينَ، واعْلَمْ أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ حالَ الفَقِيرِ في الضُّرِّ والحاجَةِ أشَدُّ مِن حالِ المِسْكِينِ؛ لِأنَّهُ تَعالى سَمّاهم مَساكِينَ مَعَ أنَّهم كانُوا يَمْلِكُونَ تِلْكَ السَّفِينَةَ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ مُرادَ ذَلِكَ العالِمِ مِن هَذا الكَلامِ أنَّهُ ما كانَ مَقْصُودِي مِن تَخْرِيقِ تِلْكَ السَّفِينَةِ تَغْرِيقَ أهْلِها؛ بَلْ مَقْصُودِي أنَّ ذَلِكَ المَلِكَ الظّالِمَ كانَ يَغْصِبُ السُّفُنَ الخالِيَةَ عَنِ العُيُوبِ؛ فَجَعَلْتُ هَذِهِ السَّفِينَةَ مَعِيبَةً؛ لِئَلّا يَغْصِبَها ذَلِكَ الظّالِمُ، فَإنَّ ضَرَرَ هَذا التَّخْرِيقِ أسْهَلُ مِنَ الضَّرَرِ الحاصِلِ مِن ذَلِكَ الغَصْبِ، فَإنْ قِيلَ وهَلْ يَجُوزُ لِلْأجْنَبِيِّ أنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِ الغَيْرِ لِمِثْلِ هَذا الغَرَضِ ؟ قُلْنا: هَذا مِمّا يَخْتَلِفُ أحْوالُهُ بِحَسَبِ اخْتِلافِ الشَّرائِعِ فَلَعَلَّ هَذا المَعْنى كانَ جائِزًا في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وأمّا في شَرِيعَتِنا فَمِثْلُ هَذا الحُكْمِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَإنّا إذا عَلِمْنا أنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ ويَأْخُذُونَ جَمِيعَ مِلْكِ الإنْسانِ، فَإنْ دَفَعْنا إلى قاطِعِ الطَّرِيقِ بَعْضَ ذَلِكَ المالِ سَلِمَ الباقِي فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ مِنّا أنْ نَدْفَعَ بَعْضَ مالِ ذَلِكَ الإنْسانِ إلى قاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِيَسْلَمَ الباقِي، وكانَ هَذا مِنّا يُعَدُّ إحْسانًا إلى ذَلِكَ المالِكِ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ ذَلِكَ التَّخْرِيقَ وجَبَ أنْ يَكُونَ واقِعًا عَلى وجْهٍ لا تَبْطُلُ بِهِ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِالكُلِّيَّةِ إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الضَّرَرُ الحاصِلُ مِن غَصْبِها أبْلَغَ مِنَ الضَّرَرِ الحاصِلِ مِن تَخْرِيقِها، وحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ تَخْرِيقُها جائِزًا. الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: لَفْظُ الوَراءِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وكانَ وراءَهُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ وكانَ أمامَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ، هَكَذا قالَهُ الفَرّاءُ (p-١٣٧)وتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ (الجاثِيَةِ: ١٠) أيْ أمامِهِمْ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَذَرُونَ وراءَهم يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ (الإنْسانِ: ٢٧) وتَحْقِيقُهُ أنَّ كُلَّ ما غابَ عَنْكَ فَقَدْ تَوارى عَنْكَ وأنْتَ مُتَوارٍ عَنْهُ، فَكُلُّ ما غابَ عَنْكَ فَهو وراءَكَ، وأمامُ الشَّيْءِ وقُدّامُهُ إذا كانَ غائِبًا عَنْهُ مُتَوارِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَبْعُدْ إطْلاقُ لَفْظِ وراءَ عَلَيْهِ. والقَوْلُ الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَلِكُ كانَ مِن وراءِ المَوْضِعِ الَّذِي يَرْكَبُ مِنهُ صاحِبُهُ وكانَ مَرْجِعُ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب