الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قالَ إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ اعْلَمْ أنَّ لَفْظَ الغُلامِ قَدْ يَتَناوَلُ الشّابَّ البالِغَ، بِدَلِيلِ أنَّهُ يُقالُ: رَأْيُ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِن مَشْهَدِ الغُلامِ؛ جَعَلَ الشَّيْخَ نَقِيضًا لِلْغُلامِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الغُلامَ هو الشّابُّ، وأصْلُهُ مِنَ الِاغْتِلامِ وهو شِدَّةُ الشَّبَقِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ في الشَّبابِ، وأمّا تَناوُلُ هَذا اللَّفْظِ لِلصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فَظاهِرٌ، ولَيْسَ في القُرْآنِ كَيْفَ لَقِياهُ؛ هَلْ كانَ يَلْعَبُ مَعَ جَمْعٍ مِنَ الغِلْمانِ الصِّبْيانِ، أوْ كانَ مُنْفَرِدًا ؟ وهَلْ كانَ مُسْلِمًا، أوْ كانَ كافِرًا ؟ وهَلْ كانَ مُنْعَزِلًا ؟ وهَلْ كانَ بالِغًا أوْ كانَ صَغِيرًا ؟ وكانَ اسْمُ الغُلامِ بِالصَّغِيرِ ألْيَقَ، وإنِ احْتَمَلَ الكَبِيرَ إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ ألْيَقُ بِالبالِغِ مِنهُ بِالصَّبِيِّ؛ لِأنَّ الصَّبِيَّ لا يُقْتَلُ وإنْ قَتَلَ، وأيْضًا فَهَلْ قَتَلَهُ بِأنْ حَزَّ رَأْسَهُ أوْ بِأنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالجِدارِ، أوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ؛ فَلَيْسَ في لَفْظِ القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ، فَعِنْدَ هَذا قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (زاكِيَةً) بِالألِفِ، والباقُونَ (زَكِيَّةً) بِغَيْرِ ألِفٍ قالَ الكِسائِيُّ: الزّاكِيَةُ والزَّكِيَّةُ لُغَتانِ، ومَعْناهُما الطّاهِرَةُ، وقالَ أبُو عَمْرٍو الزّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبُ، والزَّكِيَّةُ الَّتِي أذْنَبَتْ ثُمَّ تابَتْ. البَحْثُ الثّانِي: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتَبْعَدَ أنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ إلّا لِأجْلِ القِصاصِ بِالنَّفْسِ ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قَدْ يَحِلُّ دَمُهُ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ، وجَوابُهُ أنَّ السَّبَبَ الأقْوى هو ذَلِكَ. البَحْثُ الثّالِثُ: النُّكْرُ أعْظَمُ مِنَ الإمْرِ في القُبْحِ، وهَذا إشارَةٌ إلى أنَّ قَتْلَ الغُلامِ أقْبَحُ مِن خَرْقِ السَّفِينَةِ لِأنَّ ذَلِكَ ما كانَ إتْلافًا لِلنَّفْسِ؛ لِأنَّهُ كانَ يُمْكِنُ أنْ لا يَحْصُلَ الغَرَقُ، أمّا هَهُنا حَصَلَ الإتْلافُ قَطْعًا؛ فَكانَ أنْكَرَ، وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا﴾ أيْ: عَجَبًا، والنُّكْرُ أعْظَمُ مِنَ العَجَبِ، وقِيلَ النُّكْرُ ما أنْكَرَتْهُ العُقُولُ، ونَفَرَتْ عَنْهُ النُّفُوسُ؛ فَهو أبْلَغُ في تَقْبِيحِ الشَّيْءِ مِنَ الإمْرِ، ومِنهم مَن قالَ: الإمْرُ أعْظَمُ. قالَ: لِأنَّ خَرْقَ السَّفِينَةِ يُؤَدِّي إلى إتْلافِ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ، وهَذا القَتْلُ لَيْسَ إلّا إتْلافَ شَخْصٍ واحِدٍ، وأيْضًا (الإمْرُ) هو الدّاهِيَةُ العَظِيمَةُ فَهو أبْلَغُ مِنَ (النُّكْرِ) وإنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ ذَلِكَ العالِمِ أنَّهُ ما زادَ عَلى أنْ ذَكَّرَهُ ما عاهَدَهُ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ وهَذا عَيْنُ ما ذَكَرَهُ في المَسْألَةِ الأُولى إلّا أنَّهُ زادَ هَهُنا لَفْظَةَ ”لَكَ“؛ لِأنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُؤَكِّدُ التَّوْبِيخَ، فَعِنْدَ هَذا قالَ مُوسى: ﴿إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي﴾ مَعَ العِلْمِ بِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلى مُصاحَبَتِهِ وهَذا كَلامُ نادِمٍ شَدِيدِ النَّدامَةِ ثُمَّ قالَ: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ والمُرادُ مِنهُ أنَّهُ يَمْدَحُهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِن حَيْثُ احْتَمَلَهُ مَرَّتَيْنِ أوَّلًا وثانِيًا، مَعَ قُرْبِ المُدَّةِ وبَقِيَ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالقِراءَةِ في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةُ مَواضِعَ: الأوَّلُ: قَرَأ نافِعٌ بِرِوايَةِ ورْشٍ وقالُونُ وابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (نُكُرًا) بِضَمِّ الكافِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، والباقُونَ ساكِنَةَ الكافِ حَيْثُ كانَ وهُما لُغَتانِ. الثّانِي: الكُلُّ قَرَءُوا: (لا تُصاحِبْنِي) بِالألِفِ إلّا يَعْقُوبَ (p-١٣٣)فَإنَّهُ قَرَأ: (لا تَصْحَبْنِي) مِن صَحِبَ والمَعْنى واحِدٌ. الثّالِثُ: في ﴿لَدُنِّي﴾ قِراءاتٌ: الأُولى: قِراءَةُ نافِعٍ وأبِي بَكْرٍ في بَعْضِ الرِّواياتِ عَنْ عاصِمٍ: (مِن لَدُنِي) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وضَمِّ الدّالِ. الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: (لَدُنِّي) مُشَدَّدَةَ النُّونِ وضَمَّ الدّالِ. الثّالِثَةُ: قَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِالإشْمامِ وغَيْرِ إشْباعٍ. الرّابِعَةُ: (مِن لُدْنِي) بِضَمِّ اللّامِ وسُكُونِ الدّالِ في بَعْضِ الرِّواياتِ عَنْ عاصِمٍ وهَذِهِ القِراءاتُ كُلُّها لُغاتٌ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب