الباحث القرآني

ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الخَضِرِ أنَّهُ قالَ: ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المُتَعَلِّمَ عَلى قِسْمَيْنِ: مُتَعَلِّمٌ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ، ولَمْ يُمارِسِ القِيلَ والقالَ، ولَمْ يَتَعَوَّدِ التَّقْرِيرَ والِاعْتِراضَ، ومُتَعَلِّمٌ حَصَّلَ العُلُومَ الكَثِيرَةَ ومارَسَ الِاسْتِدْلالَ والِاعْتِراضَ. ثُمَّ إنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُخالِطَ إنْسانًا أكْمَلَ مِنهُ لِيَبْلُغَ دَرَجَةَ التَّمامِ والكَمالِ؛ والتَّعَلُّمُ في هَذا القِسْمِ الثّانِي شاقٌّ شَدِيدٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا رَأى شَيْئًا أوْ سَمِعَ كَلامًا؛ فَرُبَّما كانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الظّاهِرِ مُنْكَرًا إلّا أنَّهُ كانَ في الحَقِيقَةِ حَقًّا صَوابًا. فَهَذا المُتَعَلِّمُ لِأجْلِ أنَّهُ ألِفَ القِيلَ والقالَ، وتَعَوَّدَ الكَلامَ والجِدالَ؛ يَغْتَرُّ ظاهِرُهُ، ولِأجْلِ عَدَمِ كَمالِهِ؛ لا يَقِفُ عَلى سِرِّهِ وحَقِيقَتِهِ، وحِينَئِذٍ يُقْدِمُ عَلى النِّزاعِ والِاعْتِراضِ والمُجادَلَةِ، وذَلِكَ مِمّا يَثْقُلُ سَماعُهُ عَلى الأُسْتاذِ الكامِلِ المُتَبَحِّرِ. فَإذا اتَّفَقَ مِثْلُ هَذِهِ الواقِعَةِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثَةً؛ حَصَلَتِ النَّفْرَةُ التّامَّةُ والكَراهَةُ الشَّدِيدَةُ، وهَذا هو الَّذِي أشارَ إلَيْهِ الخَضِرُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ ألِفَ الكَلامَ وتَعَوَّدَ الإثْباتَ والإبْطالَ والِاسْتِدْلالَ والِاعْتِراضَ، وقَوْلِهِ: ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ إشارَةً إلى كَوْنِهِ غَيْرَ عالِمٍ بِحَقائِقِ الأشْياءِ كَما هي، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ مَتى حَصَلَ الأمْرانِ صَعُبَ السُّكُوتُ وعَسُرَ التَّعْلِيمُ وانْتَهى الأمْرُ بِالآخِرَةِ إلى النَّفْرَةِ والكَراهِيَةِ وحُصُولِ التَّقاطُعِ والتَّنافُرِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ عَلى أنَّ الِاسْتِطاعَةَ لا تَحْصُلُ قَبْلَ (p-١٣٠)الفِعْلِ. قالُوا: لَوْ كانَتِ الِاسْتِطاعَةُ عَلى الفِعْلِ حاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ الفِعْلِ؛ لَكانَتِ الِاسْتِطاعَةُ عَلى الصَّبْرِ حاصِلَةً لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ حُصُولِ الصَّبْرِ؛ فَيَلْزَمُ أنْ يَصِيرَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ كَذِبًا، ولَمّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ الِاسْتِطاعَةَ لا تُوجَدُ قَبْلَ الفِعْلِ؛ أجابَ الجُبّائِيُّ عَنْهُ أنَّ المُرادَ مِن هَذا القَوْلِ؛ أنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لا أنَّهُ لا يَسْتَطِيعُهُ، يُقالُ في العُرْفِ: إنَّ فُلانًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَرى فَلانًا و(لا) أنْ يُجالِسَهُ إذا كانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ أيْ كانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِماعُ، فَيُقالُ لَهُ: هَذا عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ وإنَّهُ لا يَجُوزُ. وأقُولُ: مِمّا يُؤَكِّدُ هَذا الِاسْتِدْلالَ الَّذِي ذَكَرَهُ الأصْحابُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ اسْتَبْعَدَ حُصُولَ الصَّبْرِ عَلى ما لَمْ يَقِفِ الإنْسانُ عَلى حَقِيقَتِهِ، ولَوْ كانَتِ الِاسْتِطاعَةُ قَبْلَ الفِعْلِ لَكانَتِ القُدْرَةُ عَلى العِلْمِ حاصِلَةً قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ العِلْمِ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما كانَ حُصُولُ الصَّبْرِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ العِلْمِ مُسْتَبْعَدًا؛ لِأنَّ القادِرَ عَلى الفِعْلِ لا يَبْعُدُ مِنهُ إقْدامُهُ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ، ولَمّا حَكَمَ اللَّهُ بِاسْتِبْعادِهِ عَلِمْنا أنَّ الِاسْتِطاعَةَ لا تَحْصُلُ قَبْلَ الفِعْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب