الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ ﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ ﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ الأكْثَرُونَ: إنَّ ذَلِكَ العَبْدَ كانَ نَبِيًّا، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ﴾ والرَّحْمَةُ هي النُّبُوَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٣٢) وقَوْلِهِ: ﴿وما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ (القَصَصِ: ٨٦) والمُرادُ مِن هَذِهِ الرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أنَّ النُّبُوَّةَ رَحْمَةٌ، أمّا لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ رَحْمَةٍ نُبُوَّةً. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى عَلَّمَهُ لا بِواسِطَةِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ، ولا إرْشادِ مُرْشِدٍ، وكُلُّ مَن عَلَّمَهُ اللَّهُ لا بِواسِطَةِ البَشَرِ وجَبَ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا يَعْلَمُ الأُمُورَ بِالوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، وهَذا الِاسْتِدْلالُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ العُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ تَحْصُلُ ابْتِداءً مِن عِنْدِ اللَّهِ، وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى النُّبُوَّةِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي﴾ والنَّبِيُّ لا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ في التَّعْلِيمِ، وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ لا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ في العُلُومِ الَّتِي بِاعْتِبارِها صارَ نَبِيًّا، أمّا في غَيْرِ تِلْكَ العُلُومِ فَلا. (p-١٢٧) الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ ذَلِكَ العَبْدَ أظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَلى مُوسى حَيْثُ قالَ لَهُ: ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ وأمّا مُوسى فَإنَّهُ أظْهَرَ التَّواضُعَ لَهُ حَيْثُ قالَ: ﴿ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ العالِمَ كانَ فَوْقَ مُوسى، ومَن لا يَكُونُ نَبِيًّا لا يَكُونُ فَوْقَ النَّبِيِّ، وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرُ النَّبِيِّ فَوْقَ النَّبِيِّ في عُلُومٍ لا تَتَوَقَّفُ نُبُوَّتُهُ عَلَيْها، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ، فَإنْ قالُوا: لِأنَّهُ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ. قُلْنا: فَإرْسالُ مُوسى إلى التَّعَلُّمِ مِنهُ بَعْدَ إنْزالِ اللَّهِ عَلَيْهِ التَّوْراةَ وتَكْلِيمِهِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ، فَإنْ قالُوا: إنَّ هَذا لا يُوجِبُ التَّنْفِيرَ، فَكَذا القَوْلُ فِيما ذَكَرُوهُ. الحُجَّةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ الأصَمُّ عَلى نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ في أثْناءِ القِصَّةِ: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ ومَعْناهُ: فَعَلْتُهُ بِوَحْيِ اللَّهِ، وهو يَدُلُّ عَلى النُّبُوَّةِ، وهَذا أيْضًا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وضَعْفُهُ ظاهِرٌ. الحُجَّةُ السّادِسَةُ: ما رُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا وصَلَ إلَيْهِ قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقالَ: وعَلَيْكَ السَّلامُ يا نَبِيَّ بَنِي إسْرائِيلَ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: مَن عَرَّفَكَ هَذا ؟ قالَ: الَّذِي بَعَثَكَ إلَيَّ، قالُوا: وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما عَرَفَ ذَلِكَ بِالوَحْيِ، والوَحْيُ لا يَكُونُ إلّا مَعَ النُّبُوَّةِ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ الكَراماتِ والإلْهاماتِ ؟ . البَحْثُ الثّانِي: قالَ الأكْثَرُونَ: إنَّ ذَلِكَ العَبْدَ هو الخَضِرُ، وقالُوا: إنَّما سُمِّيَ بِالخَضِرِ؛ لِأنَّهُ كانَ لا يَقِفُ مَوْقِفًا إلّا اخْضَرَّ ذَلِكَ المَوْضِعُ، قالَ الجُبّائِيُّ: قَدْ ظَهَرَتِ الرِّوايَةُ أنَّ الخَضِرَ إنَّما بُعِثَ بَعْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنَّ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ هَذا العَبْدُ هو الخَضِرُ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ هَذا العَبْدُ هو الخَضِرُ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الخَضِرُ أعْلى شَأْنًا مِن مُوسى صاحِبِ التَّوْراةِ؛ لِأنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ الألْفاظَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآياتِ تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ يَتَرَفَّعُ عَلى مُوسى، وكانَ مُوسى يُظْهِرُ التَّواضُعَ لَهُ إلّا أنَّ كَوْنَ الخَضِرِ أعْلى شَأْنًا مِن مُوسى غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ الخَضِرَ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أوْ ما كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَقَدْ كانَ مِن أُمَّةِ مُوسى لِقَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ لِفِرْعَوْنَ: ﴿أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ (الشُّعَراءِ: ١٧) والأُمَّةُ لا تَكُونُ أعْلى حالًا مِنَ النَّبِيِّ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ ما كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ أفْضَلَ مِن مُوسى لِقَوْلِهِ تَعالى لِبَنِي إسْرائِيلَ: ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ (البَقَرَةِ: ٤٧) وهَذِهِ الكَلِماتُ تُقَوِّي قَوْلَ مَن يَقُولُ: إنَّ مُوسى هَذا غَيْرُ مُوسى صاحِبِ التَّوْراةِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ يُفِيدُ أنَّ تِلْكَ العُلُومَ حَصَلَتْ عِنْدَهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، والصُّوفِيَّةُ سَمَّوُا العُلُومَ الحاصِلَةَ بِطَرِيقِ المُكاشَفاتِ العُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ، ولِلشَّيْخِ أبِي حامِدٍ الغَزالِيِّ رِسالَةٌ في إثْباتِ العُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وأقُولُ: تَحْقِيقُ الكَلامِ في هَذا البابِ أنْ نَقُولَ: إذا أدْرَكْنا أمْرًا مِنَ الأُمُورِ وتَصَوَّرْنا حَقِيقَةً مِنَ الحَقائِقِ، فَإمّا أنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وهو التَّصْدِيقُ أوْ لا نَحْكُمَ وهو التَّصَوُّرُ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ؛ فَإمّا أنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا حاصِلًا مِن غَيْرِ كَسْبٍ وطَلَبٍ، وإمّا أنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا، أمّا العُلُومُ النَّظَرِيَّةُ فَهي تَحْصُلُ في النَّفْسِ والعَقْلِ مِن غَيْرِ كَسْبٍ وطَلَبٍ، مِثْلُ تَصَوُّرِنا الألَمَ واللَّذَّةَ، والوُجُودَ والعَدَمَ، ومِثْلُ تَصْدِيقِنا بِأنَّ النَّفْيَ والإثْباتَ لا يَجْتَمِعانِ ولا يَرْتَفِعانِ، وأنَّ الواحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ. وأمّا العُلُومُ الكَسْبِيَّةُ فَهي الَّتِي لا تَكُونُ حاصِلَةً في جَوْهَرِ النَّفْسِ ابْتِداءً، بَلْ لا بُدَّ مِن طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى اكْتِسابِ تِلْكَ العُلُومِ، وهَذا الطَّرِيقُ (p-١٢٨)عَلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَتَكَلَّفَ الإنْسانُ تَرَكُّبَ تِلْكَ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ حَتّى يَتَوَصَّلَ بِتَرَكُّبِها إلى اسْتِعْلامِ المَجْهُولاتِ، وهَذا الطَّرِيقُ هو المُسَمّى بِالنَّظَرِ والتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ والتَّرَوِّي والِاسْتِدْلالِ، وهَذا النَّوْعُ مِن تَحْصِيلِ العُلُومِ هو الطَّرِيقُ الَّذِي لا يَتِمُّ إلّا بِالجُهْدِ والطَّلَبِ. والنَّوْعُ الثّانِي: أنْ يَسْعى الإنْسانُ بِواسِطَةِ الرِّياضاتِ والمُجاهَداتِ في أنْ تَصِيرَ القُوى الحِسِّيَّةُ والخَيالِيَّةُ ضَعِيفَةً، فَإذا ضَعُفَتْ قَوِيَتِ القُوَّةُ العَقْلِيَّةُ، وأشْرَقَتِ الأنْوارُ الإلَهِيَّةُ في جَوْهَرِ العَقْلِ، وحَصَلَتِ المَعارِفُ وكَمُلَتِ العُلُومُ مِن غَيْرِ واسِطَةِ سَعْيٍ وطَلَبٍ في التَّفَكُّرِ والتَّأمُّلِ، وهَذا هو المُسَمّى بِالعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: جَواهِرُ النَّفْسِ النّاطِقَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالماهِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ النَّفْسُ نَفْسًا مُشْرِقَةً نُورانِيَّةً إلَهِيَّةً عُلْوِيَّةً قَلِيلَةَ التَّعَلُّقِ بِالجَواذِبِ البَدَنِيَّةِ والنَّوازِعِ الجُسْمانِيَّةِ، فَلا جَرَمَ كانَتْ أبَدًا شَدِيدَةَ الِاسْتِعْدادِ لِقَبُولِ الجَلايا القُدُسِيَّةِ والأنْوارِ الإلَهِيَّةِ، فَلا جَرَمَ فاضَتْ عَلَيْها مِن عالَمِ الغَيْبِ تِلْكَ الأنْوارُ عَلى سَبِيلِ الكَمالِ والتَّمامِ، وهَذا هو المُرادُ بِالعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ وأمّا النَّفْسُ الَّتِي ما بَلَغَتْ في صَفاءِ الجَوْهَرِ وإشْراقِ العُنْصُرِ فَهي النَّفْسُ النّاقِصَةُ البَلِيدَةُ الَّتِي لا يُمْكِنُها تَحْصِيلُ المَعارِفِ والعُلُومِ إلّا بِمُتَوَسِّطٍ بَشَرِيٍّ يُحْتالُ في تَعْلِيمِهِ وتَعَلُّمِهِ، والقِسْمُ الأوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلى القِسْمِ الثّانِي كالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأضْواءِ الجُزْئِيَّةِ، وكالبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الجَداوِلِ الجُزْئِيَّةِ، وكالرُّوحِ الأعْظَمِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأرْواحِ الجُزْئِيَّةِ، فَهَذا تَنْبِيهٌ قَلِيلٌ عَلى هَذا المَأْخَذِ، ووَراءَهُ أسْرارٌ لا يُمْكِنُ ذِكْرُها في هَذا الكِتابِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ (رَشَدًا) بِفَتْحِ الرّاءِ والشِّينِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- بِضَمِّ الرّاءِ والشِّينِ، والباقُونَ بِضَمِّ الرّاءِ وتَسْكِينِ الشِّينِ، قالَ القَفّالُ: وهي لُغاتٌ في مَعْنًى واحِدٍ، يُقالُ: رُشْدٌ ورَشَدٌ مِثْلَ: نُكْرٌ ونَكْرٌ، كَما يُقالُ: سُقْمٌ وسَقَمٌ، وشُغْلٌ وشَغْلٌ، وبُخْلٌ وبَخَلٌ، وعُدْمٌ وعَدَمٌ، وقَوْلُهُ: ﴿رُشْدًا﴾ أيْ عِلْمًا ذا رُشْدٍ، قالَ القَفّالُ: قَوْلُهُ: ﴿رُشْدًا﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ الرُّشْدُ راجِعًا إلى الخَضِرِ أيْ مِمّا عَلَّمَكَ اللَّهُ وأرْشَدَكَ بِهِ. والثّانِي: أنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلى مُوسى، ويَكُونُ المَعْنى عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي وتُرْشِدَنِي مِمّا عُلِّمْتَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآياتِ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ راعى أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ الأدَبِ واللُّطْفِ عِنْدَما أرادَ أنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الخَضِرِ: فَأحَدُها: أنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ تَبَعًا لَهُ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ﴾ . وثانِيها: أنَّهُ اسْتَأْذَنَ في إثْباتِ هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ، فَإنَّهُ قالَ: هَلْ تَأْذَنُ لِي أنْ أجْعَلَ نَفْسِي تَبَعًا لَكَ، وهَذِهُ مُبالَغَةٌ عَظِيمَةٌ في التَّواضُعِ. وثالِثُها: أنَّهُ قالَ: ﴿عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي﴾ وهَذا إقْرارٌ لَهُ عَلى نَفْسِهِ بِالجَهْلِ وعَلى أُسْتاذِهِ بِالعِلْمِ. ورابِعُها: أنَّهُ قالَ: ﴿تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ﴾ وصِيغَةُ مِن لِلتَّبْعِيضِ فَطَلَبَ مِنهُ تَعْلِيمَ بَعْضِ ما عَلَّمَهُ اللَّهُ، وهَذا أيْضًا مُشْعِرٌ بِالتَّواضُعِ، كَأنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لا أطْلُبُ مِنكَ أنْ تَجْعَلَنِي مُساوِيًا في العِلْمِ لَكَ، بَلْ أطْلُبُ مِنكَ أنْ تُعْطِيَنِي جُزْأً مِن أجْزاءِ عِلْمِكَ، كَما يَطْلُبُ الفَقِيرُ مِنَ الغَنِيِّ أنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ جُزْأً مِن أجْزاءِ مالِهِ. وخامِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِمّا عُلِّمْتَ﴾ اعْتِرافٌ بِأنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ العِلْمَ. وسادِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رُشْدًا﴾ طَلَبٌ مِنهُ لِلْإرْشادِ والهِدايَةِ، والإرْشادُ هو الأمْرُ الَّذِي لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَحَصَلَتِ الغَوايَةُ والضَّلالُ. وسابِعُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ طَلَبَ مِنهُ أنْ يُعامِلَهُ بِمِثْلِ ما عامَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّهُ يَكُونُ إنْعامُكَ عَلَيَّ عِنْدَ هَذا التَّعْلِيمِ شَبِيهًا بِإنْعامِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْكَ في هَذا (p-١٢٩)التَّعْلِيمِ ولِهَذا مِ ولِهَذا المَعْنى قِيلَ: أنا عَبْدُ مَن تَعَلَّمْتُ مِنهُ حَرْفًا. وثامِنُها: أنَّ المُتابَعَةَ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الغَيْرِ لِأجْلِ كَوْنِهِ فِعْلًا لِذَلِكَ الغَيْرِ، فَإنّا إذا قُلْنا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فاليَهُودُ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَنا كانُوا يَذْكُرُونَ هَذِهِ الكَلِمَةَ؛ فَلا يَجِبُ كَوْنُنا مُتَّبِعِينَ لَهم في ذِكْرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ؛ لِأنّا لا نَقُولُ هَذِهِ الكَلِمَةَ لِأجْلِ أنَّهم قالُوها، بَلْ إنَّما نَقُولُها لِقِيامِ الدَّلِيلِ عَلى أنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُها، أمّا إذا أتَيْنا بِهَذِهِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ عَلى مُوافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنَّما أتَيْنا بِها لِأجْلِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أتى بِها لا جَرَمَ كُنّا مُتابِعِينَ في فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَواتِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِ أفْعالِ ذَلِكَ الأُسْتاذِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ الأُسْتاذِ آتِيًا بِها. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُتَعَلِّمَ يَجِبُ عَلَيْهِ في أوَّلِ الأمْرِ التَّسْلِيمُ وتَرْكُ المُنازَعَةِ والِاعْتِراضِ. وتاسِعُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أتَّبِعُكَ﴾ يَدُلُّ عَلى طَلَبِ مُتابَعَتِهِ مُطْلَقًا في جَمِيعِ الأُمُورِ؛ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. وعاشِرُها: أنَّهُ ثَبَتَ بِالأخْبارِ أنَّ الخَضِرَ عَرَفَ أوَّلًا أنَّهُ نَبِيُّ بَنِي إسْرائِيلَ وأنَّهُ هو مُوسى صاحِبُ التَّوْراةِ وهو الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، وخَصَّهُ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ الباهِرَةِ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ هَذِهِ المَناصِبِ الرَّفِيعَةِ والدَّرَجاتِ العالِيَةِ الشَّرِيفَةِ أتى بِهَذِهِ الأنْواعِ الكَثِيرَةِ مِنَ التَّواضُعِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ آتِيًا في طَلَبِ العِلْمِ بِأعْظَمِ أنْواعِ المُبالَغَةِ، وهَذا هو اللّائِقُ بِهِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن كانَتْ إحاطَتُهُ بِالعُلُومِ أكْثَرَ كانَ عِلْمُهُ بِما فِيها مِنَ البَهْجَةِ والسَّعادَةِ أكْثَرَ؛ فَكانَ طَلَبُهُ لَها أشَدَّ، وكانَ تَعْظِيمُهُ لِأرْبابِ العِلْمِ أكْمَلَ وأشَدَّ. والحادِي عَشَرَ: أنَّهُ قالَ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي﴾ فَأثْبَتَ كَوْنَهُ تَبَعًا لَهُ أوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثانِيًا أنْ يُعَلِّمَهُ، وهَذا مِنهُ ابْتِداءٌ بِالخِدْمَةِ ثُمَّ في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ طَلَبَ مِنهُ التَّعْلِيمَ. والثّانِي عَشَرَ: أنَّهُ قالَ: ﴿هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي﴾ فَلَمْ يَطْلُبْ عَلى تِلْكَ المُتابَعَةِ عَلى التَّعْلِيمِ شَيْئًا كَأنَّهُ قالَ: لا أطْلُبُ مِنكَ عَلى هَذِهِ المُتابَعَةِ المالَ والجاهَ ولا غَرَضَ لِي إلّا طَلَبُ العِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب