الباحث القرآني

(p-١٢٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبًا﴾ ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا﴾ ﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا ابْتِداءُ قِصَّةٍ ثالِثَةٍ ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ وهي أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ذَهَبَ إلى الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيَتَعَلَّمَ مِنهُ العِلْمَ، وهَذا وإنْ كانَ كَلامًا مُسْتَقِلًّا في نَفْسِهِ إلّا أنَّهُ يُعِينُ عَلى ما هو المَقْصُودُ في القِصَّتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ، أمّا نَفْعُ هَذِهِ القِصَّةِ في الرَّدِّ عَلى الكُفّارِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلى فُقَراءِ المُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ الأمْوالِ والأنْصارِ، فَهو أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وعَمَلِهِ وعُلُوِّ مَنصِبِهِ واسْتِجْماعِ مُوجِباتِ الشَّرَفِ التّامِّ في حَقِّهِ ذَهَبَ إلى الخَضِرِ لِطَلَبِ العِلْمِ وتَواضَعَ لَهُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّواضُعَ خَيْرٌ مِنَ التَّكَبُّرِ، وأمّا نَفْعُ هَذِهِ القِصَّةِ في قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ، فَهو أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِكُفّارِ مَكَّةَ: إنْ أخْبَرَكم مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ القِصَّةِ، فَهو نَبِيٌّ وإلّا فَلا، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ نَبِيًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى أنْ يَكُونَ عالِمًا بِجَمِيعِ القِصَصِ والوَقائِعِ، كَما أنَّ كَوْنَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيًّا صادِقًا مِن عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَمْنَعْ مِن أمْرِ اللَّهِ إيّاهُ بِأنْ يَذْهَبَ إلى الخَضِرِ لِيَتَعَلَّمَ مِنهُ، فَظَهَرَ مِمّا ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، ومَعَ ذَلِكَ فَهي نافِعَةٌ في تَقْرِيرِ المَقْصُودِ في القِصَّتَيْنِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ مُوسى المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ صاحِبُ المُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ وصاحِبُ التَّوْراةِ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأةِ كَعْبٍ يَزْعُمُ أنَّ الخَضِرَ لَيْسَ صاحِبَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ، وإنَّما هو صاحِبُ مُوسى بْنِ مِيشا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وقِيلَ: هو كانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، واعْلَمْ أنَّهُ كانَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَدانِ أفْرائِيمُ ومِيشا، فَوَلَدَ أفْرائِيمُ نُونًا ووَلَدَ نُونٌ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، وهو صاحِبُ مُوسى ووَلِيُّ عَهْدِهِ بَعْدَ وفاتِهِ، وأمّا ولَدُ مِيشا، فَقِيلَ: إنَّهُ جاءَتْهُ النُّبُوَّةُ قَبْلَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ، ويَزْعُمُ أهْلُ التَّوْراةِ أنَّهُ هو الَّذِي طَلَبَ هَذا العِلْمَ لِيَتَعَلَّمَ، والخَضِرُ هو الَّذِي خَرَقَ السَّفِينَةَ، وقَتَلَ الغُلامَ، وأقامَ الجِدارَ، ومُوسى بْنُ مِيشا مَعَهُ، هَذا هو قَوْلُ جُمْهُورِ اليَهُودِ، واحْتَجَّ القَفّالُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا: إنَّ مُوسى هَذا هو صاحِبُ التَّوْراةِ، قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ما ذَكَرَ مُوسى في كِتابِهِ إلّا وأرادَ بِهِ صاحِبَ التَّوْراةِ، فَإطْلاقُ هَذا الِاسْمِ يُوجِبُ الِانْصِرافَ إلَيْهِ، ولَوْ كانَ المُرادُ شَخْصًا آخَرَ مُسَمًّى بِمُوسى غَيْرَهُ لَوَجَبَ تَعْرِيفُهُ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الِامْتِيازَ وإزالَةَ الشُّبْهَةِ، كَما أنَّهُ لَمّا كانَ المَشْهُورُ في العُرْفِ مِن أبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الرَّجُلَ المُعَيَّنَ، فَلَوْ ذَكَرْنا هَذا الِاسْمَ وأرَدْنا بِهِ رَجُلًا سِواهُ لَقَيَّدْناهُ مِثْلَ أنْ نَقُولَ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ، وحُجَّةُ الَّذِينَ قالُوا: مُوسى هَذا غَيْرُ صاحِبِ التَّوْراةِ أنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَيْهِ وكَلَّمَهُ بِلا واسِطَةٍ، وحَجَّ خَصْمَهُ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُها لِأكْثَرِ أكابِرِ الأنْبِياءِ يَبْعُدُ أنْ (p-١٢٣)يَبْعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَعَلُّمِ الِاسْتِفادَةِ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنَّ العالِمَ الكامِلَ في أكْثَرِ العُلُومِ يَجْهَلُ بَعْضَ الأشْياءِ، فَيَحْتاجُ في تَعَلُّمِها إلى مَن دُونَهُ، وهَذا أمْرٌ مُتَعارَفٌ مَعْلُومٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في فَتى مُوسى، فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. ورَوى القَفّالُ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- يَقُولُ: «فَتاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ» . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ فَتى مُوسى أخُو يُوشَعَ وكانَ صاحِبًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا السَّفَرِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: رَوى عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ﴾ قالَ: يَعْنِي عَبْدَهُ، قالَ القَفّالُ: واللُّغَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -ﷺ- أنَّهُ قالَ: ”«لا يَقُولَنَّ أحَدُكم عَبْدِي وأمَتِي، ولْيَقُلْ فَتايَ وفَتاتِي» “، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا يُسَمُّونَ العَبْدَ فَتًى والأمَةَ فَتاةً. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قِيلَ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أُعْطِيَ الألْواحَ وكَلَّمَهُ اللَّهُ تَعالى قالَ: مَنِ الَّذِي أفْضَلُ مِنِّي وأعْلَمُ ؟ فَقِيلَ: عَبْدٌ لِلَّهِ يَسْكُنُ جَزائِرَ البَحْرِ وهو الخَضِرُ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أُوتِيَ مِنَ العِلْمِ ما أُوتِيَ ظَنَّ أنَّهُ لا أحَدَ مِثْلُهُ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو بِساحِلِ البَحْرِ، قالَ: يا مُوسى انْظُرْ إلى هَذا الطَّيْرِ الصَّغِيرِ يَهْوِي إلى البَحْرِ يَضْرِبُ بِمِنقارِهِ فِيهِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ فَأنْتَ فِيما أُوتِيتَ مِنَ العِلْمِ دُونَ قَدْرِ ما يَحْمِلُ هَذا الطَّيْرُ بِمِنقارِهِ مِنَ البَحْرِ، قالَ الأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ الرِّوايَةُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ يَجِبُ أنْ يَعْلَمُوا أنَّ مَعْلُوماتِ اللَّهِ لا نِهايَةَ لَها، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّ مَعْلُوماتِ الخَلْقِ يَجِبُ كَوْنُها مُتَناهِيَةً، وكُلُّ قَدْرٍ مُتَناهٍ، فَإنَّ الزّائِدَ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ فَلا مَرْتَبَةَ مِن مَراتِبِ العِلْمِ إلّا وفَوْقَها مَرْتَبَةٌ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ وإذا كانَتْ هَذِهِ المُقَدِّماتُ مَعْلُومَةً فَمِنَ المُسْتَبْعَدِ جِدًّا أنْ يَقْطَعَ العاقِلُ بِأنَّهُ لا أحَدَ أعْلَمُ مِنِّي لا سِيَّما مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ عِلْمِهِ الوافِرِ بِحَقائِقِ الأشْياءِ وشِدَّةِ بَراءَتِهِ عَنِ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ كالعُجْبِ والتِّيهِ والصَّلَفِ. والرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: قِيلَ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ رَبَّهُ: أيُّ عِبادِكَ أحَبُّ إلَيْكَ ؟ قالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي ولا يَنْسانِي، قالَ فَأيُّ عِبادِكَ أقَضى ؟ قالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالحَقِّ ولا يَتَّبِعُ الهَوى، قالَ: فَأيُّ عِبادِكَ أعْلَمُ ؟ قالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النّاسِ إلى عِلْمِهِ عَسى أنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلى هُدًى أوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: إنْ كانَ في عِبادِكَ مَن هو أعْلَمُ مِنِّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقالَ: أعْلَمُ مِنكَ الخَضِرُ، قالَ فَأيْنَ أطْلُبُهُ ؟ قالَ: عَلى السّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، قالَ يا رَبِّ: كَيْفَ لِي بِهِ ؟ قالَ: تَأْخُذُ حُوتًا في مِكْتَلٍ فَحَيْثُ فَقَدْتَهُ فَهو هُناكَ، فَقالَ لِفَتاهُ: إذا فَقَدْتَ الحُوتَ فَأخْبِرْنِي فَذَهَبا يَمْشِيانِ ورَقَدَ مُوسى، واضْطَرَبَ الحُوتُ، وطَفَرَ إلى البَحْرِ، فَلَمّا جاءَ وقْتُ الغَداءِ طَلَبَ مُوسى الحُوتَ، فَأخْبَرَهُ فَتاهَ بِوُقُوعِهِ في البَحْرِ، فَرَجَعَ مِن ذَلِكَ المَوْضِعِ إلى المَوْضِعِ الَّذِي طَفَرَ الحُوتُ فِيهِ إلى البَحْرِ، فَإذا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ: وأنّى بِأرْضِكَ السَّلامُ ؟ فَعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، فَقالَ: يا مُوسى أنا عَلى عِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ عَلَّمَكَ اللَّهُ لا أعْلَمُهُ أنا، فَلَمّا رَكِبا السَّفِينَةَ جاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلى حَرْفِها فَنَقَرَ في الماءِ، فَقالَ الخَضِرُ: ما يَنْقُصُ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ مِقْدارَ ما أخَذَ هَذا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ، أقُولُ: نِسْبَةُ ذَلِكَ القَدْرِ القَلِيلِ الَّذِي أخَذَهُ ذَلِكَ العُصْفُورُ مِن ذَلِكَ الماءِ إلى كُلِّيَّةِ ماءِ البَحْرِ نِسْبَةُ مُتَناهٍ إلى مُتَناهٍ، ونِسْبَةُ مَعْلُوماتِ جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ إلى مَعْلُوماتِ اللَّهِ تَعالى نِسْبَةُ مُتَناهٍ إلى غَيْرِ مُتَناهٍ، فَأيْنَ إحْدى النِّسْبَتَيْنِ مِن (p-١٢٤)الأُخْرى ؟ واللَّهُ العالِمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ، ونَرْجِعُ إلى التَّفْسِيرِ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا أبْرَحُ﴾ قالَ الزَّجّاجُ قَوْلُهُ: ﴿لا أبْرَحُ﴾ لَيْسَ مَعْناهُ لا أزُولُ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْطَعْ أرْضًا، أقُولُ: يُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ الزَّوالَ عَنِ الشَّيْءِ عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِهِ والإعْراضِ عَنْهُ، يُقالُ: زالَ فُلانٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ في الجُودِ أيْ تَرَكَها، فَقَوْلُهُ: لا أبْرَحُ بِمَعْنى لا أزُولُ عَنِ السَّيْرِ والذَّهابِ بِمَعْنى لا أتْرُكُ هَذا العَمَلَ وهَذا الفِعْلَ، وأقُولُ: المَشْهُورُ عِنْدَ الجُمْهُورِ أنَّ قَوْلَهُ لا أبْرَحُ مَعْناهُ لا أزُولُ، والعَرَبُ تَقُولُ: لا أبْرَحُ ولا أزالُ ولا أنْفَكُّ ولا أفْتَأُ بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَ القَفّالُ: وقالُوا: أصْلُ قَوْلِهِمْ: لا أبْرَحُ مِنَ البَراحِ، كَما أنَّ أصْلَ لا أزالُ: مِنَ الزَّوالِ، يُقالُ: زالَ يَزالُ ويَزُولُ كَما يُقالُ دامَ يَدامُ ويَدُومُ، وماتَ يَماتُ ويَمُوتُ، إلّا أنَّ المُسْتَعْمَلَ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَزالُ، فَقَوْلُهُ: لا أبْرَحُ أيْ أُقِيمُ؛ لِأنَّ البَراحَ هو العَدَمُ، فَقَوْلُهُ: لا أبْرَحُ يَكُونُ عَدَمًا لِلْعَدَمِ فَيَكُونُ ثُبُوتًا، فَقَوْلُهُ: لا أزالُ ولا أبْرَحُ يُفِيدُ الدَّوامَ والثَّباتَ عَلى العَمَلِ؛ فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ قَوْلُهُ: لا أبْرَحُ بِمَعْنى لا أزالُ فَلا بُدَّ مِنَ الخَبَرِ، قُلْنا: حُذِفَ الخَبَرُ لِأنَّ الحالَ والكَلامَ يَدُلّانِ عَلَيْهِ، أمّا الحالُ فَلِأنَّها كانَتْ حالَ سَفَرٍ، وأمّا الكَلامُ فَلِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ غايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي شَيْئًا هي غايَةٌ لَهُ فَيَكُونُ المَعْنى: لا أبْرَحُ أسِيرُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لا أبْرَحُ مِمّا أنا عَلَيْهِ يَعْنِي ألْزَمُ المَسِيرَ والطَّلَبَ ولا أتْرُكُهُ ولا أُفارِقُهُ حَتّى أبْلُغَ، كَما تَقُولُ: لا أبْرَحُ المَكانَ، وأمّا مَجْمَعُ البَحْرَيْنِ فَهو المَكانُ الَّذِي وُعِدَ فِيهِ مُوسى بِلِقاءِ الخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ، وهو مُلْتَقى بَحْرَيْ فارِسَ والرُّومِ مِمّا يَلِي المَشْرِقَ، وقِيلَ غَيْرُهُ ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ هَذَيْنِ البَحْرَيْنِ، فَإنْ صَحَّ بِالخَبَرِ الصَّحِيحِ شَيْءٌ فَذاكَ وإلّا فالأوْلى السُّكُوتُ عَنْهُ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: البَحْرانِ مُوسى والخَضِرُ لِأنَّهُما كانا بَحْرَيِ العِلْمِ، وقُرِئَ مِجْمَعَ بِكَسْرِ المِيمِ، ثُمَّ قالَ: (أوْ أمْضِيَ حُقُبًا) أيْ أسِيرُ زَمانًا طَوِيلًا، وقِيلَ: الحُقْبُ: ثَمانُونَ سَنَةً، وقَدْ تَكَلَّمْنا في هَذا اللَّفْظِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لابِثِينَ فِيها أحْقابًا﴾ (النَّبَأِ: ٢٣) وحاصِلُ الكَلامِ: أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ كانَ أعْلَمَ مُوسى حالَ هَذا العالِمِ، وما أعْلَمَهُ مَوْضِعَهُ بِعَيْنِهِ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: لا أزالُ أمْضِي حَتّى يَجْتَمِعَ البَحْرانِ فَيَصِيرا بَحْرًا واحِدًا، أوْ أمْضِي دَهْرًا طَوِيلًا حَتّى أجِدَ هَذا العالِمَ، وهَذا إخْبارٌ مِن مُوسى بِأنَّهُ وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى تَحَمُّلِ التَّعَبِ الشَّدِيدِ والعَناءِ العَظِيمِ في السَّفَرِ؛ لِأجْلِ طَلَبِ العِلْمِ؛ وذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المُتَعَلِّمَ لَوْ سافَرَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ لِطَلَبِ مَسْألَةٍ واحِدَةٍ لَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾ والمَعْنى فانْطَلَقا إلى أنْ بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: بَيْنِهِما إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: مَجْمَعُ بَيْنِهِما أيْ مَجْمَعُ البَحْرَيْنِ، وهو كَأنَّهُ إشارَةٌ إلى (قَوْلِ) مُوسى ﴿لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ أيْ فَحَقَّقَ اللَّهُ ما قالَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَعْنى فَلَمّا بَلَغَ المَوْضِعَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ مُوسى وصاحِبُهُ الَّذِي كانَ يَقْصِدُهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ المَوْضِعَ الَّذِي وقَعَ فِيهِ نِسْيانُ الحُوتِ هو المَوْضِعُ الَّذِي كانَ يَسْكُنُهُ الخَضِرُ أوْ يَسْكُنُ بِقُرْبِهِ؛ ولِأجْلِ هَذا المَعْنى لَمّا رَجَعَ مُوسى وفَتاهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ الحُوتَ صارَ إلَيْهِ وهو مَعْنًى حَسَنٌ، والمُفَسِّرُونَ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: الرِّواياتُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ هَذا العالِمَ مَوْضِعُهُ مَجْمَعُ البَحْرَيْنِ إلّا أنَّهُ تَعالى جَعَلَ انْقِلابَ الحُوتِ حَيًّا عَلامَةً عَلى مَسْكَنِهِ المُعَيَّنِ كَمَن يَطْلُبُ إنْسانًا فَيُقالُ لَهُ: إنَّ مَوْضِعَهُ مَحَلَّةُ كَذا مِنَ الرَّيِّ فَإذا انْتَهَيْتَ إلى المَحَلَّةِ، فَسَلْ فُلانًا عَنْ دارِهِ، وأيْنَما ذَهَبَ بِكَ فاتْبَعْهُ، فَإنَّكَ تَصِلْ إلَيْهِ، فَكَذا هَهُنا قِيلَ لَهُ: إنَّ مَوْضِعَهُ مَجْمَعُ البَحْرَيْنِ، فَإذا وصَلْتَ إلَيْهِ رَأيْتَ الحُوتَ انْقَلَبَ حَيًّا وطَفَرَ إلى البَحْرِ، فَيُحْتَمَلُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَهُنالِكَ مَوْضِعُهُ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: فاذْهَبْ عَلى مُوافَقَةِ ذَهابِ ذَلِكَ الحُوتِ فَإنَّكَ تَجِدُهُ. (p-١٢٥)إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ مُوسى وفَتاهُ لَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما طَفَرَتِ السَّمَكَةُ إلى البَحْرِ وسارَتْ وفي كَيْفِيَّةِ طَفْرِها رِواياتٌ أيْضًا، قِيلَ: إنَّ الفَتى كانَ يَغْسِلُ السَّمَكَةَ؛ لِأنَّها كانَتْ مُمَلَّحَةً فَطَفَرَتْ، وسارَتْ، وقِيلَ: إنَّ يُوشَعَ تَوَضَّأ في ذَلِكَ المَكانِ فانْتَضَحَ الماءُ عَلى الحُوتِ المالِحِ فَعاشَ ووَثَبَ في الماءِ، وقِيلَ: انْفَجَرَتْ هُناكَ عَيْنٌ مِنَ الجَنَّةِ ووَصَلَتْ قَطَراتٌ مِن تِلْكَ العَيْنِ إلى السَّمَكَةِ فَحَيِيَتْ، وطَفَرَتْ إلى البَحْرِ، فَهَذا هو الكَلامُ في صِفَةِ الحُوتِ. البَحْثُ الثّانِي: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾ أنَّهُما نَسِيا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الحالَةِ المَخْصُوصَةِ عَلى الوُصُولِ إلى المَطْلُوبِ، فَإنْ قِيلَ: انْقِلابُ السَّمَكَةِ المالِحَةِ حَيَّةً حالَةٌ عَجِيبَةٌ، فَلَمّا جَعَلَ اللَّهُ حُصُولَ هَذِهِ الحالَةِ العَجِيبَةِ دَلِيلًا عَلى الوُصُولِ إلى المَطْلُوبِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النِّسْيانِ في هَذا المَعْنى ؟ أجابَ العُلَماءُ عَنْهُ بِأنْ يُوشَعَ كانَ قَدْ شاهَدَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَثِيرًا، فَلَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ المُعْجِزَةِ عِنْدَهُ وقْعٌ عَظِيمٌ، فَجازَ حُصُولُ النِّسْيانِ. وعِنْدِي فِيهِ جَوابٌ آخَرُ: وهو أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا اسْتَعْظَمَ عِلْمَ نَفْسِهِ أزالَ اللَّهُ عَنْ قَلْبِ صاحِبِهِ هَذا العِلْمَ الضَّرُورِيَّ تَنْبِيهًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أنَّ العِلْمَ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ وحِفْظِهِ عَلى القَلْبِ والخاطِرِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: سَرَبَ في البَحْرِ سَرَبًا إلّا أنَّهُ أُقِيمَ قَوْلُهُ: (فاتَّخَذَ) مُقامَ قَوْلِهِ: سَرَبَ، والسَّرَبُ هو الذَّهابُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ (الرَّعْدِ: ١٠) . الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى أمْسَكَ إجْراءَ الماءِ عَلى البَحْرِ وجَعَلَهُ كالطّاقِ والكُوَّةِ حَتّى سَرى الحُوتُ فِيهِ، فَلَمّا جاوَزَ أيْ مُوسى وفَتاهُ المَوْعِدَ المُعَيَّنَ، وهو الوُصُولُ إلى الصَّخْرَةِ بِسَبَبِ النِّسْيانِ المَذْكُورِ، وذَهَبا كَثِيرًا وتَعِبا وجاعا: ﴿قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ﴾ الفَتى: ﴿أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ﴾ الهَمْزَةُ في أرَأيْتَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ، ورَأيْتَ عَلى مَعْناهُ الأصْلِيِّ، وقَدْ جاءَ هَذا الكَلامُ عَلى ما هو المُتَعارَفُ بَيْنَ النّاسِ، فَإنَّهُ إذا حَدَثَ لِأحَدِهِمْ أمْرٌ عَجِيبٌ، قالَ لِصاحِبِهِ: أرَأيْتَ ما حَدَثَ لِي ؟ كَذَلِكَ هَهُنا، كَأنَّهُ قالَ: أرَأيْتَ ما وقَعَ لِي مِنهُ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ أرَأيْتَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ اعْتِراضٌ وقَعَ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا، والسَّبَبُ في وُقُوعِ هَذا الِاعْتِراضِ ما يَجْرِي مَجْرى العُذْرِ والعِلَّةِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيانِ. البَحْثُ الثّانِي: قالَ الكَعْبِيُّ: ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى ما خَلَقَ ذَلِكَ النِّسْيانَ وما أرادَهُ، وإلّا كانَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى أوْجَبَ مِن إضافَتِهِ إلى الشَّيْطانِ؛ لِأنَّهُ تَعالى إذا خَلَقَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِسَعْيِ الشَّيْطانِ في وُجُودِهِ ولا في عَدَمِهِ أثَرٌ. قالَ القاضِي: والمُرادُ بِالنِّسْيانِ أنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُ الإنْسانِ بِوَساوِسِهِ الَّتِي هي مِن فِعْلِهِ دُونَ النِّسْيانِ الَّذِي يُضادُّ الذِّكْرَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ إلّا مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: (أنْ أذْكُرَهُ ) بَدَلٌ مِنَ الهاءِ في أنْسانِيهِ؛ أيْ: وما أنْسانِي ذِكْرَهُ إلّا الشَّيْطانُ، ثُمَّ قالَ: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: عَجَبًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ اتِّخاذًا عَجَبًا، ووَجْهُ كَوْنِهِ عَجَبًا انْقِلابُهُ مِنَ المِكْتَلِ وصَيْرُورَتُهُ حَيًّا وإلْقاءُ نَفْسِهِ في البَحْرِ عَلى غَفْلَةِ مِنهُما. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ ما ذَكَرْنا أنَّهُ تَعالى جَعَلَ الماءَ عَلَيْهِ كالطّاقِ وكالسِّرْبِ. الثّالِثُ: قِيلَ: إنَّهُ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ﴾ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: عَجَبًا، والمَقْصُودُ مِنهُ تَعَجُّبُهُ مِن تِلْكَ العَجِيبَةِ (p-١٢٦)الَّتِي رَآها ومِن نِسْيانِهِ لَها، وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ عَجَبًا حِكايَةٌ لِتَعَجُّبِ مُوسى، وهو لَيْسَ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ﴾ أيْ قالَ مُوسى: ذَلِكَ الَّذِي كُنّا نَطْلُبُهُ؛ لِأنَّهُ أمارَةُ الظَّفَرِ بِالمَطْلُوبِ، وهو لِقاءُ الخَضِرِ، وقَوْلُهُ: (نَبْغِ) أصْلُهُ نَبْغِي، فَحُذِفَتِ الياءُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِدَلالَةِ الكَسْرَةِ عَلَيْهِ، وكانَ القِياسُ أنْ لا يُحْذَفَ؛ لِأنَّهم إنَّما يَحْذِفُونَ الياءَ في الأسْماءِ وهَذا فِعْلٌ إلّا أنَّهُ قَدْ يَجُوزُ عَلى ضَعْفِ القِياسِ حَذْفُها؛ لِأنَّها تُحْذَفُ مَعَ السّاكِنِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَها، كَقَوْلِكَ: ما نَبْغِي اليَوْمَ ؟ فَلَمّا حُذِفَتْ مَعَ السّاكِنِ حُذِفَتْ أيْضًا مَعَ غَيْرِ السّاكِنِ، ثُمَّ قالَ: (فارْتَدّا عَلى آثارِهِما) أيْ فَرَجَعا، وقَوْلُهُ: ﴿قَصَصًا﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ رَجَعا عَلى آثارِهِما مُقْتَصِّينَ آثارَهُما. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما؛ لِأنَّ مَعْناهُ فاقْتَصّا عَلى آثارِهِما، وحاصِلُ الكَلامِ: أنَّهُما لَمّا عَرَفا أنَّهُما تَجاوَزا عَنِ المَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ ذَلِكَ العالِمُ رَجَعا وعادا إلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب