الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهم إلّا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ أوْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلًا﴾ ﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ واتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ اعْلَمْ أنَّ أُولَئِكَ الكَفَرَةَ لَمّا افْتَخَرُوا عَلى فُقَراءِ المُسْلِمِينَ بِكَثْرَةِ أمْوالِهِمْ وأتْباعِهِمْ وبَيَّنَ تَعالى بِالوُجُوهِ الكَثِيرَةِ أنَّ قَوْلَهم فاسِدٌ وشُبْهَتَهم باطِلَةٌ، وذَكَرَ فِيهِ المَثَلَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، قالَ بَعْدَهُ: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ وهو إشارَةٌ إلى ما سَبَقَ، والتَّصْرِيفُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ، والأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى أجابَ عَنْ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي ذَكَرُوها مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ومَعَ تِلْكَ الجَواباتِ الشّافِيَةِ والأمْثِلَةِ المُطابِقَةِ؛ فَهَؤُلاءِ الكُفّارُ لا يَتْرُكُونَ المُجادَلَةَ الباطِلَةَ، فَقالَ: وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا؛ أيْ أكْثَرَ الأشْياءِ الَّتِي يَتَأتّى مِنها الجَدَلُ، وانْتِصابُ قَوْلِهِ: (جَدَلًا) عَلى التَّمْيِيزِ، قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: والآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ جادَلُوهم في الدِّينِ حَتّى صارُوا هم مُجادِلِينَ؛ لِأنَّ المُجادَلَةَ لا تَحْصُلُ إلّا مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ باطِلٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: (p-١٢٠)البَحْثُ الأوَّلُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ما يَمْنَعُ مِنَ الإقْدامِ عَلى الإيمانِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ حَصَلَ المانِعُ. قالَ أصْحابُنا: العِلْمُ بِأنَّهُ لا يُؤْمِنُ مُضادٌّ لِوُجُودِ الإيمانِ، فَإذا كانَ ذَلِكَ العِلْمُ قائِمًا كانَ المانِعُ قائِمًا، وأيْضًا حُصُولُ الدّاعِي إلى الكُفْرِ قائِمٌ وإلّا لَما وجَبَ لِأنَّ الفِعْلَ الِاخْتِيارِيَّ بِدُونِ الدّاعِي مُحالٌ، ووُجُودُ الدّاعِي إلى الكُفْرِ مانِعٌ مِن حُصُولِ الإيمانِ، وإذا ثَبَتَ هَذا ظَهَرَ أنَّ المُرادَ مِقْدارُ المَوانِعِ المَحْسُوسَةِ. البَحْثُ الثّانِي: المَعْنى أنَّهُ لَمّا جاءَهُمُ الهُدى، وهو الدَّلِيلُ الدّالُّ عَلى صِحَّةِ الإسْلامِ، وثَبَتَ أنَّهُ لا مانِعَ لَهم مِنَ الإيمانِ ولا مِنَ الِاسْتِغْفارِ والتَّوْبَةِ والتَّخْلِيَةُ حاصِلَةٌ، والأعْذارُ زائِلَةٌ، فَلِمَ لَمْ يُقْدِمُوا عَلى الإيمانِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ وهو عَذابُ الِاسْتِئْصالِ ﴿أوْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلًا﴾ قَرَأ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ قُبُلًا بِضَمِّ القافِ والباءِ جَمِيعًا، وهو جَمْعُ قَبِيلٍ بِمَعْنى ضُرُوبٍ مِنَ العَذابِ تَتَواصَلُ مَعَ كَوْنِهِمْ أحْياءً، وقِيلَ: مُقابَلَةً وعِيانًا، والباقُونَ قِبَلًا بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ أيْ عِيانًا أيْضًا، ورَوى صاحِبُ الكَشّافِ: قَبَلًا بِفَتْحَتَيْنِ أيْ مُسْتَقْبَلًا، والمَعْنى أنَّهم لا يُقْدِمُونَ عَلى الإيمانِ إلّا عِنْدَ نُزُولِ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ فَيَهْلِكُوا، أوْ أنْ يَتَواصَلَ أنْواعُ العَذابِ والبَلاءِ حالَ بَقائِهِمْ في الحَياةِ الدُّنْيا، واعْلَمْ أنَّهم لا يُقْدِمُونَ عَلى الإيمانِ إلّا عَلى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ؛ لِأنَّ العاقِلَ لا يَرْضى بِحُصُولِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ إلّا أنَّ حالَهم شَبِيهٌ بِحالِ مَن وقَفَ العَمَلَ عَلى هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما أرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوابِ عَلى الطّاعَةِ ومُنْذِرِينَ بِالعِقابِ عَلى المَعْصِيَةِ لِكَيْ يُؤْمِنُوا طَوْعًا وبَيَّنَ مَعَ هَذِهِ الأحْوالِ أنَّهُ يُوجَدُ مِنَ الكُفّارِ المُجادَلَةُ بِالباطِلِ لِغَرَضِ دَحْضِ الحَقِّ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الأنْبِياءَ كانُوا يُجادِلُونَهم لِما بَيَّنّا أنَّ المُجادَلَةَ إنَّما تَحْصُلُ مِنَ الجانِبَيْنِ، وبَيَّنَ تَعالى أيْضًا أنَّهُمُ اتَّخَذُوا آياتِ اللَّهِ وهي القُرْآنُ وإنْذاراتِ الأنْبِياءِ هُزُوًا، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى اسْتِيلاءِ الجَهْلِ والقَسْوَةِ، قالَ النَّحْوِيُّونَ: (ما) في قَوْلِهِ: ﴿وما أُنْذِرُوا﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً ويَكُونَ العائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفًا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنى إنْذارِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب