الباحث القرآني

(p-٦٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ولا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ويُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ﴾ والمَعْطُوفُ يَجِبُ كَوْنُهُ مُغايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فالأوَّلُ عامٌّ في حَقِّ كُلِّ مَنِ اسْتَحَقَّ العَذابَ، والثّانِي خاصٌّ بِمَن أثْبَتَ لِلَّهِ ولَدًا، وعادَةُ القُرْآنِ جارِيَةٌ بِأنَّهُ إذا ذَكَرَ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً عَطَفَ عَلَيْها بَعْضَ جُزْئِيّاتِها تَنْبِيهًا عَلى كَوْنِهِ أعْظَمَ جُزْئِيّاتِ ذَلِكَ الكُلِّيِّ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ (البَقَرَةِ: ٩٨) فَكَذا هَهُنا العَطْفُ يَدُلُّ عَلى أنَّ أقْبَحَ أنْواعِ الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ إثْباتُ الوَلَدِ لِلَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الَّذِينَ أثْبَتُوا الوَلَدَ لِلَّهِ تَعالى ثَلاثُ طَوائِفَ: أحَدُها: كُفّارُ العَرَبِ الَّذِينَ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ. وثانِيها: النَّصارى حَيْثُ قالُوا: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وثالِثُها: اليَهُودُ الَّذِينَ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. والكَلامُ في أنَّ إثْباتَ الوَلَدِ لِلَّهِ كُفْرٌ عَظِيمٌ، ويَلْزَمُ مِنهُ مُحالاتٌ عَظِيمَةٌ قَدْ ذَكَرْناهُ في سُورَةِ الأنْعامِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنْعامِ: ١٠٠) وتَمامُهُ مَذْكُورٌ في سُورَةِ مَرْيَمَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أنْكَرَ عَلى القائِلِينَ بِإثْباتِ الوَلَدِ لِلَّهِ تَعالى مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ولا لِآبائِهِمْ﴾ فَإنْ قِيلَ: اتِّخاذُ اللَّهِ ولَدًا مُحالٌ في نَفْسِهِ، فَكَيْفَ قِيلَ: ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ؟ قُلْنا: انْتِفاءُ العِلْمِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ المُوَصِّلِ إلَيْهِ، وقَدْ يَكُونُ لِأنَّهُ في نَفْسِهِ مُحالٌ لا يُمْكِنُ تَعَلُّقُ العِلْمِ بِهِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ومَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ﴾ (المُؤْمِنُونَ: ١١٧) واعْلَمْ أنَّ نُفاةَ القِياسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْلَ في الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ باطِلٌ، والقَوْلُ بِالقِياسِ الظَّنِّيِّ قَوْلٌ في الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَكُونُ باطِلًا، وتَمامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسْراءِ: ٣٦) وقَوْلُهُ: ﴿ولا لِآبائِهِمْ﴾ أيْ ولا أحَدٌ مِن أسْلافِهِمْ، وهَذا مُبالَغَةٌ في كَوْنِ تِلْكَ المَقالَةِ باطِلَةً فاسِدَةً. النَّوْعُ الثّانِي: مِمّا ذَكَرَهُ اللَّهُ في إبْطالِهِ، قَوْلُهُ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قُرِئَ: (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ) بِالنَّصْبِ عَلى التَّمْيِيزِ وبِالرَّفْعِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، قالَ الواحِدِيُّ: ومَعْنى التَّمْيِيزِ أنَّكَ إذا قُلْتَ: كَبُرَتِ المَقالَةُ أوِ الكَلِمَةُ جازَ أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّها كَبُرَتْ كَذِبًا أوْ جَهْلًا أوِ افْتِراءً، فَلَمّا قُلْتَ: كَلِمَةً مَيَّزْتَها مِن مُحْتَمَلاتِها، فانْتَصَبَتْ عَلى التَّمْيِيزِ، والتَّقْدِيرُ: كَبُرَتِ الكَلِمَةُ كَلِمَةً فَحَصَلَ فِيهِ الإضْمارُ، أمّا مَن رَفَعَ فَلَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا، كَما تَقُولُ: عَظُمَ فُلانٌ، فَلِذَلِكَ قالَ النَّحْوِيُّونَ والنَّصْبُ أقْوى وأبْلَغُ، وفِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما أكْبَرَها كَلِمَةً. البَحْثُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ أيْ كَبُرَتِ الكَلِمَةُ، والمُرادُ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ ما حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهم في قَوْلِهِ: ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ فَصارَتْ مُضْمَرَةً في كَبُرَتْ، وسُمِّيَتْ كَلِمَةً كَما يُسَمُّونَ القَصِيدَةَ كَلِمَةً. البَحْثُ الثّالِثُ: احْتَجَّ النَّظّامُ في إثْباتِ قَوْلِهِ: أنَّ الكَلامَ جِسْمٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، قالَ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ الكَلِمَةَ بِأنَّها تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ والخُرُوجُ عِبارَةٌ عَنِ الحَرَكَةِ والحَرَكَةُ لا تَصِحُّ إلّا عَلى الأجْسامِ. والجَوابُ: أنَّ الحُرُوفَ إنَّما تَحْدُثُ بِسَبَبِ خُرُوجِ النَّفَسِ عَنِ الحَلْقِ، فَلَمّا كانَ خُرُوجُ النَّفَسِ سَبَبًا لِحُدُوثِ الكَلِمَةِ أُطْلِقَ لَفْظُ الخُرُوجِ عَلى الكَلِمَةِ. (p-٦٧)البَحْثُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الكَلامَ مُسْتَكْرَهٌ جِدًّا عِنْدَ العَقْلِ كَأنَّهُ يَقُولُ: هَذا الَّذِي يَقُولُونَهُ لا يَحْكُمُ بِهِ عَقْلُهم وفِكْرُهُمُ البَتَّةَ، لِكَوْنِهِ في غايَةِ الفَسادِ والبُطْلانِ، فَكَأنَّهُ شَيْءٌ يَجْرِي بِهِ لِسانُهم عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ؛ لِأنَّهم مَعَ أنَّها قَوْلُهم عُقُولُهم وفِكْرُهم تَأْباها وتَنْفِرُ عَنْها، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ، واعْلَمْ أنَّ النّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا في حَقِيقَةِ الكَذِبِ، فَعِنْدَنا أنَّهُ الخَبَرُ الَّذِي لا يُطابِقُ المُخْبَرَ عَنْهُ سَواءٌ اعْتَقَدَ المُخْبِرُ أنَّهُ مُطابِقٌ أمْ لا، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِبًا أنْ لا يُطابِقَ المُخْبَرَ عَنْهُ مَعَ عِلْمِ قائِلِهِ بِأنَّهُ غَيْرُ مُطابِقٍ، وهَذا القَيْدُ عِنْدَنا باطِلٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، فَإنَّهُ تَعالى وصَفَ قَوْلَهم بِإثْباتِ الوَلَدِ لِلَّهِ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، مَعَ أنَّ الكَثِيرَ مِنهم يَقُولُ ذَلِكَ، ولا يَعْلَمُ كَوْنَهُ باطِلًا، فَعَلِمْنا أنَّ كُلَّ خَبَرٍ لا يُطابِقُ المُخْبَرَ عَنْهُ فَهو كَذِبٌ سَواءٌ عَلِمَ القائِلُ بِكَوْنِهِ مُطابِقًا أوْ لَمْ يَعْلَمْ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: المَقْصُودُ مِنهُ أنْ يُقالَ لِلرَّسُولِ: لا يَعْظُمُ حُزْنُكَ وأسَفُكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَإنّا بَعَثْناكَ مُنْذِرًا ومُبَشِّرًا، فَأمّا تَحْصِيلُ الإيمانِ في قُلُوبِهِمْ فَلا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ، والغَرَضُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ -ﷺ - عَنْهُ. البَحْثُ الثّانِي: قالَ اللَّيْثُ: بَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إذا قَتَلَها غَيْظًا مِن شَدَّةِ وجْدِهِ بِالشَّيْءِ، وقالَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ: أصْلُ البَخْعِ الجَهْدُ، يُقالُ: بَخَعْتُ لَكَ نَفْسِي أيْ جَهَدْتُها، وفي حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها ذَكَرَتْ عُمَرَ، فَقالَتْ: بَخَعَ الأرْضَ أيْ جَهَدَها، حَتّى أخَذَ ما فِيها مِن أمْوالِ المُلُوكِ، وقالَ الكِسائِيُّ: بَخَعْتُ الأرْضَ بِالزِّراعَةِ إذا جَعَلْتَها ضَعِيفَةً بِسَبَبِ مُتابَعَةِ الحِراثَةِ، وبَخَعَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ إذا نَهَكَها، وعَلى هَذا مَعْنى: ﴿باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أيْ ناهِكُها وجاهِدُها حَتّى تُهْلِكَها، ولَكِنَّ أهْلَ التَّأْوِيلِ كُلَّهم قالُوا: قاتِلٌ نَفْسَكَ ومُهْلِكُها، والأصْلُ ما ذَكَرْناهُ، هَكَذا قالَ الواحِدِيُّ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ أيْ مِن بَعْدِهِمْ، يُقالُ: ماتَ فُلانٌ عَلى أثَرِ فُلانٍ أيْ بَعْدَهُ، وأصْلُ هَذا أنَّ الإنْسانَ إذا ماتَ بَقِيَتْ عَلاماتُهُ وآثارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً، ثُمَّ إنَّها تَنْمَحِي وتُبْطِلُهُ بِالكُلِّيَّةِ، فَإذا كانَ مَوْتُهُ قَرِيبًا مِن مَوْتِ الأوَّلِ كانَ مَوْتُهُ حاصِلًا حالَ بَقاءِ آثارِ الأوَّلِ، فَصَحَّ أنْ يُقالَ: ماتَ فُلانٌ عَلى أثَرِ فُلانٍ. البَحْثُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ﴾ المُرادُ بِالحَدِيثِ القُرْآنُ، قالَ القاضِي: وهَذا يَقْتَضِي وصْفَ القُرْآنِ بِأنَّهُ حَدِيثٌ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ قَدِيمٌ، وجَوابُهُ أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى الألْفاظِ وهي حادِثَةٌ. البَحْثُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿أسَفًا﴾ الأسَفُ المُبالَغَةُ في الحُزْنِ، وذَكَرْنا الكَلامَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿غَضْبانَ أسِفًا﴾ في سُورَةِ الأعْرافِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ﴾ وفي انْتِصابِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ ودَلَّ ما قَبْلَهُ مِنَ الكَلامِ عَلى أنَّهُ يَأْسَفُ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أيْ لِلْأسَفِ، كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ ابْتِغاءَ الخَيْرِ. والثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ: ﴿أسَفًا﴾ مَنصُوبٌ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ. البَحْثُ السّادِسُ: الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ قُدِّمَ عَلَيْهِ ومَعْناهُ التَّأْخِيرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب