الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ وقُلْ عَسى أنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا﴾ ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وازْدادُوا تِسْعًا﴾ ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ ما لَهم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ القَوْمَ لَمّا سَألُوا النَّبِيَّ -ﷺ- عَنِ المَسائِلِ الثَّلاثَةِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أُجِيبُكم عَنْها غَدًا، ولَمْ يَقُلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فاحْتَبَسَ الوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وفي رِوايَةٍ أُخْرى أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، اعْتَرَضَ القاضِي عَلى هَذا الكَلامِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- كانَ عالِمًا بِأنَّهُ إذا أخْبَرَ عَنْ أنَّهُ سَيَفْعَلُ الفِعْلَ الفُلانِيَّ غَدًا فَرُبَّما جاءَتْهُ الوَفاةُ قَبْلَ الغَدِ، ورُبَّما عاقَهُ عائِقٌ آخَرُ عَنِ الإقْدامِ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ غَدًا، وإذا كانَ كُلُّ هَذِهِ الأُمُورِ مُحْتَمَلًا، فَلَوْ لَمْ يَقِلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ رُبَّما خَرَجَ الكَلامُ مُخالِفًا لِما عَلَيْهِ الوُجُودُ، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ عَنْهُ، وعَنْ كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، أمّا إذا قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ كانَ مُحْتَرِزًا عَنْ هَذا المَحْذُورِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ مِنَ البَعِيدِ أنْ يَعِدَ بِشَيْءٍ ولَمْ يَقُلْ فِيهِ إنْ شاءَ اللَّهُ. الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى فَوائِدَ كَثِيرَةٍ وأحْكامٍ جَمَّةٍ، فَيَبْعُدُ قَصْرُها عَلى هَذا السَّبَبِ. ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ لا نِزاعَ أنَّ الأوْلى أنْ يَقُولَ: إنْ شاءَ اللَّهُ إلّا أنَّهُ رُبَّما اتَّفَقَ لَهُ أنَّهُ نَسِيَ هَذا الكَلامَ لِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ فَكانَ ذَلِكَ مِن بابِ تَرْكِ الأوْلى والأفْضَلِ. وأنْ يُجابَ عَنِ الثّانِي: أنَّ اشْتِمالَهُ عَلى الفَوائِدِ الكَثِيرَةِ لا يَمْنَعُ مِن أنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهِ واحِدًا مِنها. (p-٩٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ لَيْسَ فِيهِ بَيانٌ أنَّهُ شاءَ اللَّهُ ماذا، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ أنْ يَأْذَنَ لَكَ في ذَلِكَ القَوْلِ، والمَعْنى: أنَّهُ لَيْسَ لَكَ أنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِكَ أنَّكَ تَفْعَلُ الفِعْلَ الفُلانِيَّ إلّا إذا أذِنَ اللَّهُ لَكَ في ذَلِكَ الإخْبارِ. القَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ إلّا أنْ تَقُولَ: (إنْ شاءَ اللَّهُ) والسَّبَبُ في أنَّهُ لا بُدَّ مِن ذِكْرِ هَذا القَوْلِ هو أنَّ الإنْسانَ إذا قالَ: سَأفْعَلُ الفِعْلَ الفُلانِيَّ غَدًا، لَمْ يَبْعُدْ أنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَجِيءِ الغَدِ، ولَمْ يَبْعُدْ أيْضًا لَوْ بَقِيَ حَيًّا أنْ يَعُوقَهُ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ شَيْءٌ مِنَ العَوائِقِ، فَإذا كانَ لَمْ يَقُلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ صارَ كاذِبًا في ذَلِكَ الوَعْدِ، والكَذِبُ مُنْفَرِدٌ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَلِهَذا السَّبَبِ أوْجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ: (إنْ شاءَ اللَّهُ) حَتّى أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوَفاءُ بِذَلِكَ المَوْعُودِ لَمْ يَصِرْ كاذِبًا فَلَمْ يَحْصُلِ التَّنْفِيرُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ المُعْتَزِلَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُرِيدُ الإيمانَ والطّاعَةَ مِنَ العَبْدِ، والعَبْدُ يُرِيدُ الكُفْرَ والمَعْصِيَةَ لِنَفْسِهِ، فَيَقَعُ مُرادُ العَبْدِ ولا يَقَعُ مُرادُ اللَّهِ، فَتَكُونُ إرادَةُ العَبْدِ غالِبَةً وإرادَةُ اللَّهِ تَعالى مَغْلُوبَةً، وأمّا عِنْدَنا فَكُلُّ ما أرادَ اللَّهُ تَعالى فَهو واقِعٌ فَهو تَعالى يُرِيدُ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ ويُرِيدُ الإيمانَ مِنَ المُؤْمِنِ، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ فَإرادَةُ اللَّهِ تَعالى غالِبَةٌ، وإرادَةُ العَبْدِ مَغْلُوبَةٌ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إذا قالَ العَبْدُ: لَأفْعَلَنَّ كَذا غَدًا إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، واللَّهُ إنَّما يَدْفَعُ عَنْهُ الكَذِبَ إذا كانَتْ إرادَةُ اللَّهِ غالِبَةً عَلى إرادَةِ العَبْدِ، فَإنَّ عَلى هَذا القَوْلِ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أنَّ العَبْدَ قالَ: أنا أفْعَلُ الفِعْلَ الفُلانِيَّ إلّا إذا كانَتْ إرادَةُ اللَّهِ بِخِلافِهِ، فَأنا عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا أفْعَلُ؛ لِأنَّ إرادَةَ اللَّهِ غالِبَةٌ عَلى إرادَتِي فَعِنْدَ قِيامِ المانِعِ الغالِبِ لا أقْوى عَلى الفِعْلِ، أمّا بِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ إرادَةُ اللَّهِ تَعالى مَغْلُوبَةً، فَإنَّها لا تُصْلَحُ عُذْرًا في هَذا البابِ؛ لِأنَّ المَغْلُوبَ لا يَمْنَعُ الغالِبَ إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّهُ إذا قالَ: واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ كَذا، ثُمَّ قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ دافِعًا لِلْحِنْثِ، فَلا يَكُونُ دافِعًا لِلْحِنْثِ إلّا إذا كانَتْ إرادَةُ اللَّهِ غالِبَةً، فَلَمّا حَصَلَ دَفْعُ الحِنْثِ بِالإجْماعِ وجَبَ القَطْعُ بِكَوْنِ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى غالِبَةً، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ في الوُجُودِ إلّا ما أرادَهُ اللَّهُ، وأصْحابُنا أكَّدُوا هَذا الكَلامَ في صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وهو أنَّ الرَّجُلَ إذا كانَ لَهُ عَلى إنْسانٍ دَيْنٌ وكانَ ذَلِكَ المَدْيُونُ قادِرًا عَلى أداءِ الدَّيْنِ، فَقالَ: واللَّهِ لَأقْضِيَنَّ هَذا الدَّيْنَ غَدًا، ثُمَّ قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَإذا جاءَ الغَدُ ولَمْ يَقْضِ هَذا الدَّيْنَ لَمْ يَحْنَثْ، وعَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ: أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ مِنهُ قَضاءَ الدَّيْنِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: (إنْ شاءَ اللَّهُ) تَعْلِيقٌ لِذَلِكَ الحُكْمِ عَلى شَرْطٍ واقِعٍ فَوَجَبَ أنْ يَحْنَثَ، ولَمّا أجْمَعُوا عَلى أنْ لا يَحْنَثَ عَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ما شاءَ ذَلِكَ الفِعْلَ مَعَ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ قَدْ أمَرَ اللَّهُ بِهِ ورَغَّبَ فِيهِ وزَجَرَ عَنِ الإخْلالِ بِهِ، وثَبَتَ أنَّهُ تَعالى قَدْ يَنْهى عَنِ الشَّيْءِ ويُرِيدُهُ، وقَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ ولا يُرِيدُهُ وهو المَطْلُوبُ، فَإنْ قِيلَ: هَبْ أنَّ الأمْرَ كَما ذَكَرْتُمْ إلّا أنَّ كَثِيرًا مِنَ الفُقَهاءِ قالُوا: إذا قالَ الرَّجُلُ لِامْرَأتِهِ أنْتِ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ لَمْ يَقَعِ الطَّلاقُ، فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟ قُلْنا: السَّبَبُ هو أنَّهُ لَمّا عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلاقِ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ، إلّا إذا عَرَفْنا وُقُوعَ الطَّلاقِ ولا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلاقِ إلّا إذا عَرَفْنا أوَّلًا حُصُولَ هَذِهِ المَشِيئَةِ، لَكِنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى غَيْبٌ فَلا سَبِيلَ إلى العِلْمِ بِحُصُولِها إلّا إذا عَلِمْنا أنَّ مُتَعَلَّقَ المَشِيئَةِ قَدْ وقَعَ وحَصَلَ، وهو الطَّلاقُ، فَعَلى هَذا الطَّرِيقِ لا نَعْرِفُ حُصُولَ المَشِيئَةِ إلّا إذا عَرَفْنا وُقُوعَ الطَّلاقِ، ولا نَعْرِفُ وُقُوعَ الطَّلاقِ إلّا إذا عَرَفْنا وُقُوعَ المَشِيئَةِ، فَيَتَوَقَّفُ العِلْمُ بِكُلِّ واحِدٍ مِنها عَلى العِلْمِ بِالآخِرَةِ، وهو دَوْرٌ والدَّوْرُ باطِلٌ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالُوا: الطَّلاقُ غَيْرُ واقِعٍ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّ المَعْدُومَ شَيْءٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ قالُوا: الشَّيْءُ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الفاعِلُ غَدًا سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى في الحالِ بِأنَّهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ: (p-٩٤)﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ الفاعِلُ غَدًا، فَهو مَعْدُومٌ في الحالِ، فَوَجَبَ تَسْمِيَةُ المَعْدُومِ بِأنَّهُ شَيْءٌ. والجَوابُ: أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ لا يُفِيدُ إلّا أنَّ المَعْدُومَ مُسَمًّى بِكَوْنِهِ شَيْئًا، وعِنْدَنا أنَّ السَّبَبَ فِيهِ أنَّ الَّذِي سَيَصِيرُ شَيْئًا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَيْئًا في الحالِ، كَما أنَّهُ قالَ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ (النَّحْلِ: ١) والمُرادُ سَيَأْتِي أمْرُ اللَّهِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ كَلامٌ مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، والتَّقْدِيرُ: أنَّهُ إذا نَسِيَ أنْ يَقُولَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلْيَذْكُرْهُ إذا تَذَكَّرَهُ، وعِنْدَ هَذا اخْتَلَفُوا، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّذَكُّرُ إلّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ إنْ شاءَ اللَّهُ كَفى في دَفْعِ الحِنْثِ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بَعْدَ سَنَةٍ أوْ شَهْرٍ أوْ أُسْبُوعٍ أوْ يَوْمٍ، وعَنْ طاوُسٍ: أنَّهُ يَقْدِرُ عَلى الِاسْتِثْناءِ في مَجْلِسِهِ، وعَنْ عَطاءٍ يَسْتَثْنِي عَلى مِقْدارِ حَلْبِ النّاقَةِ الغَزِيرَةِ، وعِنْدَ عامَّةِ الفُقَهاءِ: أنَّهُ لا أثَرَ لَهُ في الأحْكامِ ما لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، واحْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ بِقَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ هو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ﴾ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ هو يَتَناوَلُ كُلَّ الأوْقاتِ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ هَذا الذِّكْرُ في أيِّ وقْتٍ حَصَلَ هَذا التَّذَكُّرُ، وكُلُّ مَن قالَ: وجَبَ هَذا الذِّكْرُ، قالَ: إنَّهُ إنَّما وجَبَ لِدَفْعِ الحِنْثِ، وذَلِكَ يُفِيدُ المَطْلُوبَ. واعْلَمْ أنَّ اسْتِدْلالَ ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- ظاهِرٌ في أنَّ الِاسْتِثْناءَ لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، أمّا الفُقَهاءُ فَقالُوا: إنّا لَوْ جَوَّزْنا ذَلِكَ لَزِمَ أنْ لا يَسْتَقِرَّ شَيْءٌ مِنَ العُقُودِ والأيْمانِ، يُحْكى أنَّهُ بَلَغَ المَنصُورَ أنَّ أبا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- خالَفَ ابْنَ عَبّاسٍ في الِاسْتِثْناءِ المُنْفَصِلِ فاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذا يَرْجِعُ عَلَيْكَ، فَإنَّكَ تَأْخُذُ البَيْعَةَ بِالأيْمانِ، أتَفْرِضُ أنْ يَخْرُجُوا مِن عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنُوا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ ؟ فاسْتَحْسَنَ المَنصُورُ كَلامَهُ ورَضِيَ بِهِ. واعْلَمْ أنَّ حاصِلَ هَذا الكَلامِ يَرْجِعُ إلى تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالقِياسِ وفِيهِ ما فِيهِ. وأيْضًا فَلَوْ قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ بِلِسانِهِ بِحَيْثُ لا يَسْمَعُهُ أحَدٌ فَهو مُعْتَبَرٌ، ودافِعٌ لِلْحِنْثِ بِالإجْماعِ، مَعَ أنَّ المَحْذُورَ الَّذِي ذَكَرْتُمْ حاصِلٌ فِيهِ، فَثَبَتَ أنَّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، والأوْلى أنْ يَحْتَجُّوا في وُجُوبِ كَوْنِ الِاسْتِثْناءِ مُتَّصِلًا بِأنَّ الآياتِ الكَثِيرَةَ دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ الوَفاءِ بِالعَقْدِ والعَهْدِ، قالَ تَعالى: ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ (المائِدَةِ: ١) وقالَ: ﴿وأوْفُوا بِالعَهْدِ﴾ (الإسْراءِ: ٣٤) فالآتِي بِالعَهْدِ يَجِبُ عَلَيْهِ الوَفاءُ بِمُقْتَضاهُ لِأجْلِ هَذِهِ الآياتِ خالَفْنا هَذا الدَّلِيلَ فِيما إذا كانَ مُتَّصِلًا؛ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ مَعَ المُسْتَثْنى مِنهُ كالكَلامِ الواحِدِ بِدَلِيلِ أنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْناءِ وحْدَهُ لا يُفِيدُ شَيْئًا، فَهو جارٍ مَجْرى نِصْفِ اللَّفْظَةِ الواحِدَةِ، فَجُمْلَةُ الكَلامِ كالكَلِمَةِ الواحِدَةِ المُفِيدَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَعِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِثْناءِ عَرَفْنا أنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ شَيْءٌ بِخِلافِ ما إذا كانَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، فَإنَّهُ حَصَلَ الِالتِزامُ التّامُّ بِالكَلامِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الوَفاءُ بِذَلِكَ المُلْتَزَمِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ، بَلْ هو كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وعَلى هَذا القَوْلِ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: واذْكُرْ رَبَّكَ بِالتَّسْبِيحِ والِاسْتِغْفارِ إذا نَسِيتَ كَلِمَةَ الِاسْتِثْناءِ، والمُرادُ مِنهُ التَّرْغِيبُ في الِاهْتِمامِ بِذِكْرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ. وثانِيها: واذْكُرْ رَبَّكَ إذا اعْتَراكَ النِّسْيانُ لِيُذَكِّرَكَ المَنسِيَّ. وثالِثُها: حَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى أداءِ الصَّلاةِ المَنسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِها، وهَذا القَوْلُ بِما فِيهِ مِنَ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ بِعِيدٌ؛ لِأنَّ تَعَلُّقَ هَذا الكَلامِ بِما قَبْلَهُ يُفِيدُ إتْمامَ الكَلامِ في هَذِهِ القَضِيَّةِ، وجَعْلُهُ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الكَلامِ مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا، وذَلِكَ لا يَجُوزُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب