الباحث القرآني

(p-٨٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وأنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهم أمْرَهم فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهم أعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهم ويَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهم كَلْبُهم رَجْمًا بِالغَيْبِ ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهم قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إلّا مِراءً ظاهِرًا ولا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنهم أحَدًا﴾ اعْلَمْ أنَّ المَعْنى كَما زِدْناهم هُدًى ورَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ وأنَمْناهم وقَلَّبْناهم وبَعَثْناهم لِما فِيها مِنَ الحِكَمِ الظّاهِرَةِ، فَكَذَلِكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أيْ أطْلَعْنا غَيْرَهم عَلى أحْوالِهِمْ، يُقالُ: عَثَرْتُ عَلى كَذا أيْ عَلِمْتُهُ، وقالُوا: إنَّ أصْلَ هَذا أنَّ مَن كانَ غافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَعَثَرَ بِهِ نَظَرَ إلَيْهِ فَعَرَفَهُ، فَكانَ العِثارُ سَبَبًا لِحُصُولِ العِلْمِ والتَّبَيُّنِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ، واخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ عَرَفَ النّاسُ واقِعَةَ أصْحابِ الكَهْفِ عَلى وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ طالَتْ شُعُورُهم وأظْفارُهم طُولًا مُخالِفًا لِلْعادَةِ، وظَهَرَتْ في بَشَرَةِ وُجُوهِهِمْ آثارٌ عَجِيبَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُدَّتَهم قَدْ طالَتْ طُولًا خارِجًا عَنِ العادَةِ. والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمّا دَخَلَ إلى السُّوقِ لِيَشْتَرِيَ الطَّعامَ وأخْرَجَ الدَّراهِمَ لِثَمَنِ الطَّعامِ، قالَ صاحِبُ الطَّعامِ: هَذِهِ النُّقُودُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ في هَذا اليَوْمِ، وإنَّها كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ هَذا الوَقْتِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ودَهْرٍ داهِرٍ، فَلَعَلَّكَ وجَدْتَ كَنْزًا، واخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ، وحَمَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ إلى مَلِكِ البَلَدِ، فَقالَ المَلِكُ: مِن أيْنَ وجَدْتَ هَذِهِ الدَّراهِمَ ؟ فَقالَ: بِعْتُ بِها أمْسِ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، وخَرَجْنا فِرارًا مِنَ المَلِكِ دِقْيانُوسَ، فَعَرَفَ ذَلِكَ المَلِكُ أنَّهُ ما وجَدَ كَنْزًا، وأنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لِيَعْلَمُوا أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ يَعْنِي أنّا إنَّما أطْلَعْنا القَوْمَ عَلى أحْوالِهِمْ لِيَعْلَمَ القَوْمُ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بِالبَعْثِ والحَشْرِ والنَّشْرِ. رُوِيَ أنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ مِمَّنْ يُنْكِرُ البَعْثَ إلّا أنَّهُ كانَ مَعَ كُفْرِهِ مُنْصِفًا، فَجَعَلَ اللَّهُ أمْرَ الفِتْيَةِ دَلِيلًا لِلْمَلِكِ، وقِيلَ: بَلِ اخْتَلَفَتِ الأُمَّةُ في ذَلِكَ الزَّمانِ فَقالَ بَعْضُهم: الجَسَدُ والرُّوحُ يُبْعَثانِ جَمِيعًا، وقالَ آخَرُونَ: الرُّوحُ تُبْعَثُ، وأمّا الجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الأرْضُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ المَلِكَ كانَ يَتَضَرَّعُ إلى اللَّهِ أنْ يُظْهِرَ لَهُ آيَةً يَسْتَدِلُّ بِها عَلى ما هو الحَقُّ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَأطْلَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى أمْرِ أصْحابِ أهْلِ الكَهْفِ، فاسْتَدَلَّ ذَلِكَ المَلِكُ بِواقِعَتِهِمْ عَلى صِحَّةِ البَعْثِ لِلْأجْسادِ؛ لِأنَّ انْتِباهَهم بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ يُشْبِهُ مَن يَمُوتُ ثُمَّ يُبْعَثُ فَقَوْلُهُ: ﴿إذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِأعْثَرْنا أيْ أعْثَرْناهم عَلَيْهِمْ حِينَ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهم، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِهَذا التَّنازُعِ، فَقِيلَ: كانُوا يَتَنازَعُونَ في صِحَّةِ البَعْثِ، فالقائِلُونَ بِهِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الواقِعَةِ عَلى صِحَّتِهِ، وقالُوا كَما قَدِرَ اللَّهُ عَلى حِفْظِ أجْسادِهِمْ مُدَّةَ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ وتِسْعِ سِنِينَ، فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلى حَشْرِ الأجْسادِ بَعْدَ مَوْتِها، وقِيلَ: إنَّ المَلِكَ وقَوْمَهُ لَمّا رَأوْا أصْحابَ الكَهْفِ ووَقَفُوا عَلى أحْوالِهِمْ عادَ القَوْمُ إلى كَهْفِهِمْ، فَأماتَهُمُ اللَّهُ. فَعِنْدَ هَذا اخْتَلَفَ النّاسُ: فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهم نِيامٌ كالكَرَّةِ الأُولى. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ الآنَ ماتُوا. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ بَعْضَهم قالَ: الأوْلى أنْ يُسَدَّ بابُ الكَهْفِ لِئَلّا يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ أحَدٌ ولا يَقِفَ عَلى أحْوالِهِمْ إنْسانٌ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ الأوْلى أنْ يُبْنى عَلى بابِ الكَهْفِ مَسْجِدٌ، وهَذا القَوْلُ يَدُلُّ عَلى أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ كانُوا عارِفِينَ بِاللَّهِ مُعْتَرِفِينَ بِالعِبادَةِ والصَّلاةِ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ الكُفّارَ قالُوا: إنَّهم كانُوا عَلى دِينِنا، فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ بُنْيانًا، والمُسْلِمُونَ قالُوا: كانُوا عَلى دِينِنا فَنَتَّخِذُ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. والقَوْلُ الخامِسُ: أنَّهم تَنازَعُوا في قَدْرِ مُكْثِهِمْ. والسّادِسُ: أنَّهم تَنازَعُوا في عَدَدِهِمْ وأسْمائِهِمْ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رَبُّهم أعْلَمُ بِهِمْ﴾ وهَذا فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مِن كَلامِ المُتَنازِعِينَ كَأنَّهم لَمّا تَذاكَرُوا أمْرَهم وتَناقَلُوا الكَلامَ في أسْمائِهِمْ وأحْوالِهِمْ ومُدَّةِ لُبْثِهِمْ، فَلَمّا لَمْ يَهْتَدُوا إلى حَقِيقَةِ ذَلِكَ، قالُوا: رَبُّهم أعْلَمُ بِهِمْ. الثّانِي: أنَّ هَذا مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى ذِكْرُهُ؛ رَدًّا لِلْخائِضِينَ في حَدِيثِهِمْ مِن (p-٩٠)أُولَئِكَ المُتَنازِعِينَ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِمْ﴾ قِيلَ المُرادُ بِهِ المَلِكُ المُسْلِمُ، وقِيلَ: أوْلِياءُ أصْحابِ الكَهْفِ، وقِيلَ: رُؤَساءُ البَلَدِ: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ نَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ ونَسْتَبْقِي آثارَ أصْحابِ الكَهْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ المَسْجِدِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهُمْ﴾ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿سَيَقُولُونَ﴾ عائِدٌ إلى المُتَنازِعِينَ. رُوِيَ أنَّ السَّيِّدَ والعاقِبَ وأصْحابَهُما مِن أهْلِ نَجْرانَ كانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ -ﷺ- فَجَرى ذِكْرُ أصْحابِ الكَهْفِ، فَقالَ السَّيِّدُ وكانَ يَعْقُوبِيًّا: كانُوا ثَلاثَةً رابِعُهم كَلْبُهم، وقالَ العاقِبُ وكانَ نُسْطُورِيًّا: كانُوا خَمْسَةً سادِسُهم كَلْبُهم، وقالَ المُسْلِمُونَ: كانُوا سَبْعَةً وثامِنُهم كَلْبُهم، قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: هَذا الأخِيرُ هو الحَقُّ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿وثامِنُهُمْ﴾ هي الواوُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلى الجُمْلَةِ الواقِعَةِ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ، كَما تَدْخُلُ عَلى الواقِعَةِ حالًا عَنِ المَعْرِفَةِ في نَحْوِ قَوْلِكَ: جاءَنِي رَجُلٌ ومَعَهُ آخَرُ، ومَرَرْتُ بِزَيْدٍ وفي يَدِهِ سَيْفٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلّا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ (الحِجْرِ: ٤) وفائِدَتُها تَوْكِيدُ ثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، والدَّلالَةُ عَلى أنَّ اتِّصافَهُ بِها أمْرٌ ثابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، فَكانَتْ هَذِهِ الواوُ دالَّةً عَلى صِدْقِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّهم كانُوا سَبْعَةً وثامِنُهم كَلْبُهم، وأنَّهم قالُوا قَوْلًا مُتَقَرِّرًا مُتَحَقِّقًا عَنْ ثَباتٍ وعِلْمٍ وطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ. الوَجْهُ الثّانِي: قالُوا: إنَّهُ تَعالى خَصَّ هَذا المَوْضِعَ بِهَذا الحَرْفِ الزّائِدِ، وهو الواوُ، فَوَجَبَ أنْ تَحْصُلَ بِهِ فائِدَةٌ زائِدَةٌ صَوْنًا لِلَّفْظِ عَنِ التَّعْطِيلِ، وكُلُّ مَن أثْبَتَ هَذِهِ الفائِدَةَ الزّائِدَةَ قالَ: المُرادُ مِنها تَخْصِيصُ هَذا القَوْلِ بِالإثْباتِ والتَّصْحِيحِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أتْبَعَ القَوْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَجْمًا بِالغَيْبِ﴾ وتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالوَصْفِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحالَ في الباقِي بِخِلافِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المَخْصُوصُ بِالظَّنِّ الباطِلِ هو القَوْلانِ الأوَّلانِ، وأنْ يَكُونَ القَوْلُ الثّالِثُ مُخالِفًا لَهُما في كَوْنِهِما رَجْمًا بِالظَّنِّ. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى قَوْلَهم: ﴿ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ قالَ بَعْدَهُ: ﴿قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ فَإتْباعُ القَوْلَيْنِ الأوَّلَيْنِ بِكَوْنِهِما رَجْمًا بِالغَيْبِ وإتْباعُ هَذا القَوْلِ الثّالِثِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ مُمْتازٌ عَنِ القَوْلَيْنِ الأوَّلِينَ بِمَزِيدِ القُوَّةِ والصِّحَّةِ. والوَجْهُ الخامِسُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ حَصَلَ العِلْمُ بِعِدَّتِهِمْ لِذَلِكَ القَلِيلِ، وكُلُّ مَن قالَ مِنَ المُسْلِمِينَ قَوْلًا في هَذا البابِ قالُوا: إنَّهم كانُوا سَبْعَةً وثامِنُهم كَلْبُهم، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن ذَلِكَ القَلِيلِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ قالُوا هَذا القَوْلَ، كانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كانُوا سَبْعَةً وأسْماؤُهم هَذا: يَمْلِيخا، مَكْسَلْمِينا، مسلثينا وهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ كانُوا أصْحابَ يَمِينِ المَلِكِ، وكانَ عَنْ يَسارِهِ: مرنوسُ، ودرنوسُ، وسادنوسُ، وكانَ المَلِكُ يَسْتَشِيرُ هَؤُلاءِ السِّتَّةَ في مُهِمّاتِهِ. والسّابِعُ: هو الرّاعِي الَّذِي وافَقَهم لَمّا هَرَبُوا مِن مَلِكِهِمْ، واسْمُ كَلْبِهِمْ قِطْمِيرٌ، وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَقُولُ: أنا مِن ذَلِكَ العَدَدِ القَلِيلِ، وكانَ يَقُولُ: إنَّهم سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهم. الوَجْهُ السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهم قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ والظّاهِرُ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى الأقْوالَ فَقَدْ حَكى كُلَّ ما قِيلَ مِنَ الحَقِّ والباطِلِ؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الأقْوالَ الباطِلَةَ ولَمْ يَذْكُرْ ما هو الحَقُّ، فَثَبَتَ أنَّ جُمْلَةَ الأقْوالِ الحَقَّةِ والباطِلَةِ لَيْسَتْ إلّا هَذِهِ الثَّلاثَةَ، ثُمَّ خَصَّ (p-٩١)الأوَّلِينَ بِأنَّهُما رَجْمٌ بِالغَيْبِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الحَقُّ هو هَذا الثّالِثَ. الوَجْهُ السّابِعُ: أنَّهُ تَعالى قالَ لِرَسُولِهِ: ﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ إلّا مِراءً ظاهِرًا ولا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنهم أحَدًا﴾ فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَنِ المُناظَرَةِ مَعَهم، وعَنِ اسْتِفْتائِهِمْ في هَذا البابِ، وهَذا إنَّما يَكُونُ لَوْ عَلَّمَهُ حُكْمَ هَذِهِ الواقِعَةِ، وأيْضًا أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ ويَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ العِلْمُ بِذَلِكَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ ولا يَحْصُلَ لِلنَّبِيِّ، فَعَلِمْنا أنَّ العِلْمَ بِهَذِهِ الواقِعَةِ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، والظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ العِلْمُ إلّا بِهَذا الوَحْيِ؛ لِأنَّ الأصْلَ فِيما سِواهُ العَدَمُ، وأنْ يَكُونَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكانَ الحَقُّ هو قَوْلَهُ: ﴿ويَقُولُونَ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ وإنْ كانَ بَعْضُها أضْعَفَ مِن بَعْضٍ إلّا أنَّهُ لَمّا تَقَوّى بَعْضُها بِبَعْضٍ حَصَلَ فِيهِ كَمالٌ وتَمامٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بَقِيَ في الآيَةِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: في الآيَةِ حَذْفٌ؛ والتَّقْدِيرُ: سَيَقُولُونَ هم ثَلاثَةٌ، فَحُذِفَ المُبْتَدَأُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. البَحْثُ الثّانِي: خُصَّ القَوْلُ الأوَّلُ بِسِينِ الِاسْتِقْبالِ، وهو قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ يُوجِبُ دُخُولَ القَوْلَيْنِ الآخَرَيْنِ فِيهِ. البَحْثُ الثّالِثُ: الرَّجْمُ هو الرَّمْيُ، والغَيْبُ ما غابَ عَنِ الإنْسانِ فَقَوْلُهُ: ﴿رَجْمًا بِالغَيْبِ﴾ مَعْناهُ أنْ يَرى ما غابَ عَنْهُ ولا يَعْرِفُهُ بِالحَقِيقَةِ، يُقالُ: فُلانٌ يَرْمِي بِالكَلامِ رَمْيًا، أيْ يَتَكَلَّمُ مِن غَيْرِ تَدَبُّرٍ. البَحْثُ الرّابِعُ: ذَكَرُوا في فائِدَةِ الواوِ في قَوْلِهِ: ﴿وثامِنُهم كَلْبُهُمْ﴾ وُجُوهًا: الوَجْهُ الأوَّلُ: ما ذَكَرْنا أنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ أوْلى مِن سائِرِ الأقْوالِ. وثانِيها: أنَّ السَّبْعَةَ عِنْدَ العَرَبِ أصْلٌ في المُبالَغَةِ في العَدَدِ، قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهم سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ (التَّوْبَةِ: ٨٠) وإذا كانَ كَذَلِكَ فَإذا وصَلُوا إلى الثَّمانِيَةِ ذَكَرُوا لَفْظًا يَدُلُّ عَلى الِاسْتِئْنافِ، فَقالُوا: وثَمانِيَةٌ، فَجاءَ هَذا الكَلامُ عَلى هَذا القانُونِ، قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ في ثَلاثِ آياتٍ، وهي قَوْلُهُ: ﴿والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ (التَّوْبَةِ: ١١٢) لِأنَّ هَذا هو العَدَدُ الثّامِنُ مِنَ الأعْدادِ المُتَقَدِّمَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءُوها وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ (الزُّمَرِ: ٧٣) لِأنَّ أبْوابَ الجَنَّةِ ثَمانِيَةٌ، وأبْوابُ النّارِ سَبْعَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ (التَّحْرِيمِ: ٥) هو العَدَدُ الثّامِنُ مِمّا تَقَدَّمَ، والنّاسُ يُسَمُّونَ هَذِهِ الواوَ واوَ الثَّمانِيَةِ، ومَعْناهُ ما ذَكَرْناهُ، قالَ القَفّالُ: وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ﴾ (الحَشْرِ: ٢٣) ولَمْ يَذْكُرِ الواوَ في النَّعْتِ الثّامِنِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهم إلّا قَلِيلٌ﴾ وهَذا هو الحَقُّ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِتَفاصِيلِ كائِناتِ العالَمِ والحَوادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ في الماضِي والمُسْتَقْبَلِ لا تَحْصُلُ إلّا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وإلّا عِنْدَ مَن أخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أنا مِن أُولَئِكَ القَلِيلِ، قالَ القاضِي: إنْ كانَ قَدْ عَرَفَهُ بِبَيانِ الرَّسُولِ صَحَّ، وإنْ كانَ قَدْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِحَرْفِ الواوِ فَضَعِيفٌ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: الوُجُوهُ السَّبْعَةُ المَذْكُورَةُ، وإنْ كانَتْ لا تُفِيدُ الجَزْمَ إلّا أنَّها تُفِيدُ الظَّنَّ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ أتْبَعَهُ بِأنْ نَهى رَسُولَهُ عَنْ شَيْئَيْنِ: عَنِ المِراءِ والِاسْتِفْتاءِ، أمّا النَّهْيُ عَنِ المِراءِ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ إلّا مِراءً ظاهِرًا﴾ والمُرادُ مِنَ المِراءِ الظّاهِرِ أنْ لا يُكَذِّبَهم في تَعْيِينِ ذَلِكَ العَدَدِ، بَلْ يَقُولُ: هَذا التَّعْيِينُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ وتَرْكُ القَطْعِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٤٦) وأمّا النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِفْتاءِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنهم أحَدًا﴾، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم عِلْمٌ في هَذا البابِ وجَبَ المَنعُ مِنَ اسْتِفْتائِهِمْ، واعْلَمْ أنَّ نُفاةَ القِياسِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ (p-٩٢)قالُوا: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَجْمًا بِالغَيْبِ﴾ وُضِعَ الرَّجْمُ فِيهِ مَوْضِعَ الظَّنِّ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ظَنًّا بِالغَيْبِ؛ لِأنَّهم أكْثَرُوا أنْ يَقُولُوا: رَجْمٌ بِالظَّنِّ مَكانَ قَوْلِهِمْ: ظَنٌّ، حَتّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهم فَرْقٌ بَيْنَ العِبارَتَيْنِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: وما هو عَنْها بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ أيِ المَظْنُونِ هَكَذا، قالَهُ صاحِبُ الكَشّافِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْلَ بِالظَّنِّ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَمَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِفْتاءِ هَؤُلاءِ الظّانِّينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الفَتْوى بِالمَظْنُونِ غَيْرُ جائِزٍ عِنْدَ اللَّهِ، وجَوابُ مُثْبِتِي القِياسِ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْناهُ مِرارًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب