الباحث القرآني

(p-٦٢)(سُورَةُ الكَهْفِ) مِائَةٌ وإحْدى عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً ﷽ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا حَسَنًا﴾ ﴿ماكِثِينَ فِيهِ أبَدًا﴾ سُورَةُ الكَهْفِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ إنَّها مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ مِنها فِيهِما ذِكْرُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الفَزارِيِّ وعَنْ قَتادَةَ أنَّها مَكِّيَّةٌ وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ ”«ألا أدُلُّكم عَلى سُورَةٍ شَيَّعَها سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ حِينَ نَزَلَتْ ؟ هي سُورَةُ الكَهْفِ» “ . ﷽ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا حَسَنًا﴾ ﴿ماكِثِينَ فِيهِ أبَدًا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أمّا الكَلامُ في حَقائِقِ قَوْلِنا: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فَقَدْ سَبَقَ، والَّذِي أقُولُهُ هَهُنا: إنَّ التَّسْبِيحَ أيْنَما جاءَ فَإنَّما جاءَ مُقَدَّمًا عَلى التَّحْمِيدِ، ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ: ”سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ“ إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ جَلَّ جَلالُهُ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ عِنْدَما أخْبَرَ أنَّهُ أسْرى بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَقالَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ (الإسْراءِ: ١) وذَكَرَ التَّحْمِيدَ عِنْدَما ذَكَرَ أنَّهُ أنْزَلَ الكِتابَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ فَقالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ وفِيهِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: أنَّ التَّسْبِيحَ أوَّلُ الأمْرِ لِأنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمّا لا يَنْبَغِي وهو إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ كامِلًا في ذاتِهِ، والتَّحْمِيدُ عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، ولا شَكَّ أنَّ أوَّلَ الأمْرِ هو كَوْنُهُ كامِلًا في ذاتِهِ، ونِهايَةَ الأمْرِ كَوْنُهُ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، فَلا جَرَمَ وقَعَ الِابْتِداءُ في الذِّكْرِ بِقَوْلِنا سُبْحانَ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ ”الحَمْدُ لِلَّهِ“ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ مَقامَ التَّسْبِيحِ مَبْدَأٌ ومَقامَ التَّحْمِيدِ نِهايَةٌ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ذَكَرَ عِنْدَ الإسْراءِ لَفْظَ التَّسْبِيحِ وعِنْدَ إنْزالِ الكِتابِ لَفْظَ التَّحْمِيدِ، وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الإسْراءَ بِهِ أوَّلُ دَرَجاتِ كَمالِهِ وإنْزالَ الكِتابِ غايَةُ دَرَجاتِ كَمالِهِ، والأمْرُ في الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأنَّ الإسْراءَ بِهِ إلى المِعْراجِ يَقْتَضِي حُصُولَ الكَمالِ لَهُ، وإنْزالَ الكِتابِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي (p-٦٣)كَوْنَهُ مُكَمِّلًا لِلْأرْواحِ البَشَرِيَّةِ وناقِلًا لَها مِن حَضِيضِ البَهِيمِيَّةِ إلى أعْلى دَرَجاتِ المَلَكِيَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا الثّانِيَ أكْمَلُ، وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ أعْلى مَقاماتِ العِبادِ مَقامًا أنْ يَصِيرَ (العَبْدُ) عالِمًا في ذاتِهِ مُعَلِّمًا لِغَيْرِهِ ولِهَذا رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: ”«مَن تَعَلَّمَ وعَلَّمَ فَذاكَ يُدْعى عَظِيمًا في السَّماواتِ» “ . الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الإسْراءَ عِبارَةٌ عَنْ رَفْعِ ذاتِهِ مِن تَحْتُ إلى فَوْقُ، وإنْزالُ الكِتابِ عَلَيْهِ عِبارَةٌ عَنْ إنْزالِ نُورِ الوَحْيِ عَلَيْهِ مِن فَوْقُ إلى تَحْتُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا الثّانِيَ أكْمَلُ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ مَنافِعَ الإسْراءِ بِهِ كانَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ هُنالِكَ: ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ (الإسْراءِ: ١) ومَنافِعُ إنْزالِ الكِتابِ عَلَيْهِ مُتَعَدِّيَةٌ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ﴾ والفَوائِدُ المُتَعَدِّيَةُ أفْضَلُ مِنَ القاصِرَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ الإسْراءِ في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ وبِلَفْظِ الإنْزالِ في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ، والجَوابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ بِالتَّمامِ في سُورَةِ الأعْرافِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ (الأعْرافِ: ٥٤) . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنْزالُ الكِتابِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ ونِعْمَةٌ عَلَيْنا، أمّا كَوْنُهُ نِعْمَةً عَلَيْهِ فَلِأنَّهُ تَعالى أطْلَعَهُ بِواسِطَةِ هَذا الكِتابِ الكَرِيمِ عَلى أسْرارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ والتَّنْزِيهِ وصِفاتِ الجَلالِ والإكْرامِ وأسْرارِ أحْوالِ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ وأحْوالِ القَضاءِ والقَدَرِ، وتَعَلُّقِ أحْوالِ العالَمِ السُّفْلِيِّ بِأحْوالِ العالَمِ العُلْوِيِّ، وتُعَلُّقِ أحْوالِ عالَمِ الآخِرَةِ بِعالَمِ الدُّنْيا، وكَيْفِيَّةِ نُزُولِ القَضاءِ مِن عالَمِ الغَيْبِ، وكَيْفِيَّةِ ارْتِباطِ عالَمِ الجُسْمانِيّاتِ بِعالَمِ الرُّوحانِيّاتِ، وتَصْيِيرِ النَّفْسِ كالمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلّى فِيها عالَمُ المَلَكُوتِ ويَنْكَشِفُ فِيها قُدْسُ اللّاهُوتِ، فَلا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ، وأمّا كَوْنُ هَذا الكِتابِ نِعْمَةً عَلَيْنا فَلِأنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى التَّكالِيفِ والأحْكامِ والوَعْدِ والوَعِيدِ والثَّوابِ والعِقابِ، وبِالجُمْلَةِ فَهو كِتابٌ كامِلٌ في أقْصى الدَّرَجاتِ فَكُلُّ واحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمِقْدارِ طاقَتِهِ وفَهْمِهِ فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ عَلى الرَّسُولِ وعَلى جَمِيعِ أُمَّتِهِ أنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعالى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ فَقالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى وصَفَ الكِتابَ بِوَصْفَيْنِ فَقالَ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ ﴿قَيِّمًا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّ الشَّيْءَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كامِلًا في ذاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ ويَجِبُ أنْ يَكُونَ تامًّا في ذاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ فَوْقَ التَّمامِ بِأنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ كَمالَ الغَيْرِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ كامِلًا في ذاتِهِ، وقَوْلِهِ: ﴿قَيِّمًا﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأنَّ القَيِّمَ عِبارَةٌ عَنِ القائِمِ بِمَصالِحِ الغَيْرِ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ في صِفَةِ الكِتابِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البَقَرَةِ: ٢) فَقَوْلُهُ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ في نَفْسِهِ بالِغًا في الصِّحَّةِ وعَدَمِ الإخْلالِ إلى حَيْثُ يَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ لا يَرْتابَ فِيهِ، وقَوْلُهُ: (﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ سَبَبًا لِهِدايَةِ الخَلْقِ وإكْمالِ حالِهِمْ فَقَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ قائِمٌ مُقامَ قَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ قائِمٌ مُقامَ قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهَذِهِ أسْرارٌ لَطِيفَةٌ. (p-٦٤)البَحْثُ الثّانِي: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: العِوَجُ في المَعانِي كالعِوَجِ في الأعْيانِ، والمُرادُ مِنهُ وُجُوهٌ: أحَدُها: نَفْيُ التَّناقُضِ عَنْ آياتِهِ كَما قالَ: ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ (النِّساءِ: ٨٢) . وثانِيها: أنَّ كُلَّ ما ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والأحْكامِ والتَّكالِيفِ فَهو حَقٌّ وصِدْقٌ ولا خَلَلَ في شَيْءٍ مِنها البَتَّةَ. وثالِثُها: أنَّ الإنْسانَ كَأنَّهُ خَرَجَ مِن عالَمِ الغَيْبِ مُتَوَجِّهًا إلى عالَمِ الآخِرَةِ وإلى حَضْرَةِ جَلالِ اللَّهِ وهَذِهِ الدُّنْيا كَأنَّها رِباطٌ بُنِيَ عَلى طَرِيقِ عالَمِ القِيامَةِ حَتّى أنَّ المُسافِرَ إذا نَزَلَ فِيهِ اشْتَغَلَ بِالمُهِمّاتِ الَّتِي يَجِبُ رِعايَتُها في هَذا السَّفَرِ ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنهُ مُتَوَجِّهًا إلى عالَمِ الآخِرَةِ فَكُلُّ ما دَعاهُ في الدُّنْيا إلى الآخِرَةِ ومِنَ الجُسْمانِيّاتِ إلى الرُّوحانِيّاتِ ومِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ ومِنَ اللَّذّاتِ الشَّهْوانِيَّةِ الجَسَدانِيَّةِ إلى الِاسْتِنارَةِ بِالأنْوارِ الصَّمَدانِيَّةِ فَثَبَتَ أنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ العِوَجِ والِانْحِرافِ والباطِلِ فَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ . الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: لِلْكِتابِ وهي قَوْلُهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ يُرِيدُ مُسْتَقِيمًا وهَذا عِنْدِي مُشْكِلٌ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِنَفْيِ الِاعْوِجاجِ إلّا حُصُولُ الِاسْتِقامَةِ فَتَفْسِيرُ القَيِّمِ بِالمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ التَّكْرارَ وأنَّهُ باطِلٌ، بَلِ الحَقُّ ما ذَكَرْناهُ وأنَّ المُرادَ مِن كَوْنِهِ: ﴿قَيِّمًا﴾ أنَّهُ سَبَبٌ لِهِدايَةِ الخَلْقِ وأنَّهُ يَجْرِي مَجْرى مَن يَكُونُ قَيِّمًا لِلْأطْفالِ، فالأرْواحُ البَشَرِيَّةُ كالأطْفالِ، والقُرْآنُ كالقَيِّمِ الشَّفِيقِ القائِمِ بِمَصالِحِهِمْ. البَحْثُ الثّالِثُ: قالَ الواحِدِيُّ: جَمِيعُ أهْلِ اللُّغَةِ والتَّفْسِيرِ قالُوا هَذا مِنَ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ: أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ قَيِّمًا ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وأقُولُ: قَدْ بَيَّنّا ما يَدُلُّ عَلى فَسادِ هَذا الكَلامِ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ كامِلًا في ذاتِهِ، وقَوْلَهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، وكَوْنُهُ كامِلًا في ذاتِهِ مُتَقَدِّمٌ بِالطَّبْعِ عَلى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَثَبَتَ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ أنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هو الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ ﴿قَيِّمًا﴾ فَظَهَرَ أنَّ ما ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ فاسِدٌ يَمْتَنِعُ العَقْلُ مِنَ الذَّهابِ إلَيْهِ. البَحْثُ الرّابِعُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في انْتِصابِ قَوْلِهِ: ﴿قَيِّمًا﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ لا يَجُوزُ جَعْلُهُ حالًا مِنَ الكِتابِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أنْزَلَ﴾ فَهو داخِلٌ في حَيِّزِ الصِّلَةِ فَجَعْلُهُ حالًا مِنَ الكِتابِ يُوجِبُ الفَصْلَ بَيْنَ الحالِ وذِي الحالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ، قالَ: ولَمّا بَطَلَ هَذا وجَبَ أنْ يَنْتَصِبَ بِمُضْمَرٍ، والتَّقْدِيرُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ وجَعَلَهُ ﴿قَيِّمًا﴾ . الوَجْهُ الثّانِي: قالَ الأصْفَهانِيُّ: الَّذِي نَرى فِيهِ أنْ يُقالَ قَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ حالٌ وقَوْلُهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ حالٌ أُخْرى وهُما حالانِ مُتَوالِيانِ والتَّقْدِيرُ أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ غَيْرَ مَجْعُولٍ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا. الوَجْهُ الثّالِثُ: قالَ السَّيِّدُ صاحِبُ حَلِّ العَقْدِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ لِأنَّ مَعْنى: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ أنَّهُ جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا فَكَأنَّهُ قِيلَ: ﴿أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ وجَعَلَهُ: ﴿قَيِّمًا﴾ . الوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ أيْ حالَ كَوْنِهِ قائِمًا بِمَصالِحِ العِبادِ وأحْكامِ الدِّينِ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ: ﴿أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ المَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ المَذْكُورَةِ أرْدَفَهُ بِبَيانِ ما لِأجْلِهِ أنْزَلَهُ فَقالَ: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ﴾ وأنْذَرَ مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولَيْنِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ (النَّبَأِ: ٤٠) إلّا أنَّهُ اقْتَصَرَ هَهُنا عَلى أحَدِهِما وأصْلُهُ ﴿لِيُنْذِرَ﴾ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿بَأْسًا شَدِيدًا﴾ كَما قالَ في ضِدِّهِ: ﴿ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ﴾ والبَأْسُ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِعَذابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥] وقَدْ بَؤُسَ العَذابُ وبَؤُسَ الرَّجُلُ (p-٦٥)بَأْسًا وبَآسَةً، وقَوْلُهُ: ﴿مِن لَدُنْهُ﴾ أيْ صادِرًا مِن عِنْدِهِ، قالَ الزَّجّاجُ: وفي (لَدُنْ) لُغاتٌ، يُقالُ: لَدُنْ ولَدى ولَدُ، والمَعْنى واحِدٌ، قالَ: وهي لا تَتَمَكَّنُ تَمَكُّنَ (عِنْدَ) لِأنَّكَ تَقُولُ: هَذا القَوْلُ صَوابٌ عِنْدِي، ولا تَقُولُ صَوابٌ لَدُنِّي، وتَقُولُ: عِنْدِي مالٌ عَظِيمٌ والمالُ غائِبٌ عَنْكَ، ولَدُنِّي لِما يَلِيكَ لا غَيْرَ، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ بِسُكُونِ الدّالِ مَعَ إشْمامِ الضَّمِّ وكَسْرِ النُّونِ والهاءِ، وهي لُغَةُ بَنِي كِلابٍ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا حَسَنًا﴾ واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن إرْسالِ الرُّسُلِ إنْذارُ المُذْنِبِينَ وبِشارَةُ المُطِيعِينَ، ولَمّا كانَ دَفْعُ الضَّرَرِ أهَمَّ عِنْدَ (ذَوِي) العُقُولِ مِن إيصالِ النَّفْعِ لا جَرَمَ قُدِّمَ الإنْذارُ عَلى التَّبْشِيرِ في اللَّفْظِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقُرِئَ (ويُبَشِّرَ) بِالتَّخْفِيفِ والتَّثْقِيلِ، وقَوْلُهُ: ﴿ماكِثِينَ فِيهِ أبَدًا﴾ يَعْنِي خالِدِينَ، وهو حالٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنَّ لَهم أجْرًا﴾ . قالَ القاضِي: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا في مَسائِلَ: أحَدُها: أنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِالإنْزالِ والنُّزُولِ، وذَلِكَ مِن صِفاتِ المُحْدَثاتِ، فَإنَّ القَدِيمَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ. الثّانِي: وصْفُهُ بِكَوْنِهِ كِتابًا والكَتْبُ هو الجَمْعُ، وهو سُمِّيَ كِتابًا لِكَوْنِهِ مَجْمُوعًا مِنَ الحُرُوفِ والكَلِماتِ، وما صَحَّ فِيهِ التَّرْكِيبُ والتَّأْلِيفُ فَهو مُحْدَثٌ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ الحَمْدَ لِنَفْسِهِ عَلى إنْزالِ الكِتابِ، والحَمْدُ إنَّما يُسْتَحَقُّ عَلى النِّعْمَةِ، والنِّعْمَةُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ. الرّابِعُ: أنَّهُ وصَفَ الكِتابَ بِأنَّهُ غَيْرُ مُعْوَجٍّ، وبِأنَّهُ مُسْتَقِيمٌ والقَدِيمُ لا يُمْكِنُ وصْفُهُ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ. وثانِيها: مَسْألَةُ خَلْقِ الأعْمالِ فَإنَّ هَذِهِ الآياتِ تَدُلُّ عَلى قَوْلِنا في هَذِهِ المَسْألَةِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: نَفْسُ الأمْرِ بِالحَمْدِ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِعْلٌ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالكِتابِ إذِ الِانْتِفاعُ بِهِ إنَّما يَحْصُلُ إذا قَدَرَ عَلى أنْ يَفْعَلَ ما دَلَّ الكِتابُ عَلى أنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ، ويَتْرُكَ ما دَلَّ الكِتابُ عَلى أنَّهُ يَجِبُ تَرْكُهُ، وهو إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، أمّا إذا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِعِوَجِ الكِتابِ أثَرٌ في اعْوِجاجِ فِعْلِهِ، ولَمْ يَكُنْ لِكَوْنِ الكِتابِ قَيِّمًا أثَرٌ في اسْتِقامَةِ فِعْلِهِ، أمّا إذا كانَ العَبْدُ قادِرًا عَلى الفِعْلِ مُخْتارًا فِيهِ بَقِيَ لِعِوَجِ الكِتابِ واسْتِقامَتِهِ أثَرٌ في فِعْلِهِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ أنْزَلَ بَعْضَ الكِتابِ لِيَكُونَ سَبَبًا لِكُفْرِ البَعْضِ، وأنْزَلَ الباقِيَ لِيُؤْمِنَ البَعْضُ الآخَرُ، فَمِن أيْنَ أنَّ الكِتابَ قَيِّمٌ لا عِوَجَ فِيهِ ؟ لِأنَّهُ لَوْ كانَ فِيهِ عِوَجٌ لَما زادَ عَلى ذَلِكَ. والثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿لِيُنْذِرَ﴾ وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى أرادَ مِنهُ -ﷺ- إنْذارَ الكُلِّ وتَبْشِيرَ الكُلِّ، وبِتَقْدِيرِ أنَّهُ يَكُونُ خالِقُ الكُفْرِ والإيمانِ هو اللَّهَ تَعالى لَمْ يَبْقَ لِلْإنْذارِ والتَّبْشِيرِ مَعْنًى؛ لِأنَّهُ تَعالى إذا خَلَقَ الإيمانَ فِيهِ حَصَلَ شاءَ أوْ لَمْ يَشَأْ، وإذا خَلَقَ الكُفْرَ فِيهِ حَصَلَ شاءَ أوْ لَمْ يَشَأْ، فَبَقِيَ الإنْذارُ والتَّبْشِيرُ عَلى الكُفْرِ والإيمانِ جارِيًا مَجْرى الإنْذارِ والتَّبْشِيرِ عَلى كَوْنِهِ طَوِيلًا قَصِيرًا وأسْوَدَ وأبْيَضَ مِمّا لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ. والرّابِعُ: وصْفُهُ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهم يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ فَإنْ كانَ ما وقَعَ خَلْقَ اللَّهِ تَعالى فَلا عَمَلَ لَهُمُ البَتَّةَ. الخامِسُ: إيجابُهُ لَهُمُ الأجْرَ الحَسَنَ عَلى ما عَمِلُوا، فَإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى يَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَلا إيجابَ ولا اسْتِحْقاقَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ: قَوْلُهُ: ﴿لِيُنْذِرَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما يَفْعَلُ أفْعالَهُ لِأغْراضٍ صَحِيحَةٍ وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: إنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بِالغَرَضِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الكَلِماتِ قَدْ تَكَرَّرَتْ في هَذا الكِتابِ فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب