الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذِ اعْتَزَلْتُمُوهم وما يَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرفَقًا﴾ ﴿وتَرى الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اليَمِينِ وإذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهم ذاتَ الشِّمالِ وهم في فَجْوَةٍ مِنهُ ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ولِيًّا مُرْشِدًا﴾ اعْلَمْ أنَّ المُرادَ أنَّهُ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ﴿وإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ واعْتَزَلْتُمُ الشَّيْءَ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ إلّا اللَّهَ فَإنَّكم لَمْ تَعْتَزِلُوا عِبادَةَ اللَّهِ: ﴿فَأْوُوا إلى الكَهْفِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: هو جَوابُ إذْ، كَما تَقُولُ: إذْ فَعَلْتَ كَذا فافْعَلْ كَذا، ومَعْناهُ: اذْهَبُوا إلَيْهِ واجْعَلُوهُ مَأْواكم: ﴿يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ﴾ أيْ يَبْسُطُها عَلَيْكم: ﴿ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرفَقًا﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ في رِوايَةٍ مَرْفِقًا بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الفاءِ، والباقُونَ مِرْفَقًا بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ الفاءِ، قالَ الفَرّاءُ: وهُما لُغَتانِ واشْتِقاقُهُما مِنَ الِارْتِفاقِ، وكانَ الكِسائِيُّ يُنْكِرُ في مِرْفَقِ الإنْسانِ الَّذِي في اليَدِ إلّا كَسْرَ المِيمِ وفَتْحَ الفاءِ، والفَرّاءُ يُجِيزُهُ في الأمْرِ وفي اليَدِ، وقِيلَ: هُما لُغَتانِ إلّا أنَّ الفَتْحَ أقْيَسُ والكَسْرَ أكْثَرُ، وقِيلَ: المِرْفَقُ ما ارْتَفَقْتَ بِهِ، والمَرْفِقُ بِالفَتْحِ المُرافِقُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وتَرى الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اليَمِينِ وإذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهم ذاتَ الشِّمالِ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ تَزْوَرُّ ساكِنَةَ الزّايِ المُعْجَمَةِ مُشَدَّدَةَ الرّاءِ مِثْلَ تَحْمَرُّ، وقَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: تَزاوَرُ بِالألِفِ والتَّخْفِيفِ، والباقُونَ تَزّاوَرُ بِالتَّشْدِيدِ والألِفِ، والكُلُّ بِمَعْنًى واحِدٍ، والتَّزاوُرُ هو المَيْلُ والِانْحِرافُ، ومِنهُ زارَهُ إذا مالَ إلَيْهِ والزُّورُ المَيْلُ عَنِ الصِّدْقِ، وأمّا التَّشْدِيدُ فَأصْلُهُ تَتَزاوَرُ سَكَنَتِ التّاءُ الثّانِيَةُ، وأُدْغِمَتْ في الزّايِ، وأمّا التَّخْفِيفُ فَهو تَفاعَلَ مِنَ الزَّوْرِ وأمّا تَزْوَرُّ فَهو مِنَ الِازْوِرارِ. البَحْثُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿وتَرى الشَّمْسَ﴾ أيْ أنْتَ أيُّها المُخاطَبُ تَرى الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِها تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ مَن خُوطِبَ بِهَذا يَرى هَذا المَعْنى ولَكِنَّ العادَةَ في المُخاطَبَةِ تَكُونُ عَلى هَذا النَّحْوِ، ومَعْناهُ: أنَّكَ لَوْ رَأيْتَهُ عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ذاتَ اليَمِينِ﴾ أيْ جِهَةَ اليَمِينِ وأصْلُهُ أنَّ ذاتَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مُقامَ المَوْصُوفِ، لِأنَّها (p-٨٥)تَأْنِيثُ ”ذُو“ في قَوْلِهِمْ: رَجُلُ ذُو مالٍ، وامْرَأةٌ ذاتُ مالٍ، والتَّقْدِيرُ: كَأنَّهُ قِيلَ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ جِهَةَ ذاتَ اليَمِينِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهم ذاتَ الشِّمالِ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ الكِسائِيُّ: قَرَضْتُ المَكانَ أيْ عَدَلْتُ عَنْهُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: القَرْضُ في أشْياءَ فَمِنها القَطْعُ، وكَذَلِكَ السَّيْرُ في البِلادِ أيْ إذا قَطَعَها. تَقُولُ لِصاحِبِكَ: هَلْ ورَدْتَ مَكانَ كَذا ؟ فَيَقُولُ المُجِيبُ: إنَّما قَرَضْتُهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿تَقْرِضُهم ذاتَ الشِّمالِ﴾ أيْ تَعْدِلُ عَنْ سَمْتِ رُءُوسِهِمْ إلى جِهَةِ الشِّمالِ. البَحْثُ الثّانِي: لِلْمُفَسِّرِينَ هَهُنا قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ بابَ ذَلِكَ الكَهْفِ كانَ مَفْتُوحًا إلى جانِبِ الشِّمالِ، فَإذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كانَتْ عَلى يَمِينِ الكَهْفِ، وإذا غَرَبَتْ كانَتْ عَلى شِمالِهِ، فَضَوْءُ الشَّمْسِ ما كانَ يَصِلُ إلى داخِلِ الكَهْفِ، وكانَ الهَواءُ الطَّيِّبُ والنَّسِيمُ المُوافِقُ يَصِلُ، والمَقْصُودُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى صانَ أصْحابَ الكَهْفِ مِن أنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ ضَوْءُ الشَّمْسِ، وإلّا لَفَسَدَتْ أجْسامُهم فَهي مَصُونَةٌ عَنِ العُفُونَةِ والفَسادِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ ذَلِكَ، وإنَّما المُرادُ أنَّ الشَّمْسَ إذا طَلَعَتْ مَنَعَ اللَّهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الوُقُوعِ، وكَذا القَوْلُ حالَ غُرُوبِها، وكانَ ذَلِكَ فِعْلًا خارِقًا لِلْعادَةِ وكَرامَةً عَظِيمَةً خَصَّ اللَّهُ بِها أصْحابَ الكَهْفِ، وهَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ، واحْتَجَّ عَلى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ﴾ قالَ: ولَوْ كانَ الأمْرُ كَما ذَكَرَهُ أصْحابُ القَوْلِ الأوَّلِ لَكانَ ذَلِكَ أمْرًا مُعْتادًا مَأْلُوفًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ، وأمّا إذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى هَذا الوَجْهِ الثّانِي كانَ ذَلِكَ كَرامَةً عَجِيبَةً، فَكانَتْ مِن آياتِ اللَّهِ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهم كانُوا في مُتَّسَعٍ مِنَ الكَهْفِ يَنالُهم فِيهِ بَرْدُ الرِّيحِ ونَسِيمُ الهَواءِ، قالَ: ﴿وهم في فَجْوَةٍ مِنهُ﴾ أيْ مِنَ الكَهْفِ، والفَجْوَةُ مُتَّسَعٌ في مَكانٍ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: وجَمْعُها فَجَواتٌ، ومِنهُ الحَدِيثُ: «”فَإذا وجَدَ فَجْوَةً نَصَّ“»، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ يَمْنَعُ وُصُولَ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِقُدْرَتِهِ، قالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ ذَلِكَ أيْ ذَلِكَ التَّزاوُرُ والمَيْلُ، والَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِهِ، قالُوا: المُرادُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أيْ ذَلِكَ الحِفْظُ الَّذِي حَفِظَهُمُ اللَّهُ في ذَلِكَ الغارِ تِلْكَ المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ، مِن آياتِ اللَّهِ الدّالَّةِ عَلى عَجائِبِ قُدْرَتِهِ وبَدائِعِ حِكْمَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ كَما أنَّ بَقاءَهم هَذِهِ المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ مَصُونًا عَنِ المَوْتِ والهَلاكِ مِن تَدْبِيراتِهِ ولُطْفِهِ وكَرَمِهِ، فَكَذَلِكَ رُجُوعُهم أوَّلًا عَنِ الكُفْرِ ورَغْبَتُهم في الإيمانِ كانَ بِإعانَةِ اللَّهِ ولُطْفِهِ، فَقالَ: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي﴾ مِثْلُ أصْحابِ الكَهْفِ: ﴿ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ولِيًّا مُرْشِدًا﴾ كَدِقْيانُوسَ الكافِرِ وأصْحابِهِ، ومُناظَراتُ أهْلِ الجَبْرِ والقَدَرِ في هَذِهِ الآيَةِ مَعْلُومَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب