الباحث القرآني

(p-٥١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ مِن دُونِهِ ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا مَأْواهم جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم بِأنَّهم كَفَرُوا بِآياتِنا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أجابَ عَنْ شُبُهاتِ القَوْمِ في إنْكارِ النُّبُوَّةِ وأرْدَفَها بِالوَعِيدِ الإجْمالِيِّ وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ ذَكَرَ بَعْدَهُ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ مِن دُونِهِ﴾ فالمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ، وهو أنَّ الَّذِينَ سَبَقَ لَهم حُكْمُ اللَّهِ بِالإيمانِ والهِدايَةِ وجَبَ أنْ يَصِيرُوا مُؤْمِنِينَ، ومَن سَبَقَ لَهم حُكْمُ اللَّهِ بِالضَّلالِ والجَهْلِ اسْتَحالَ أنْ يَنْقَلِبُوا عَنْ ذَلِكَ الضَّلالِ واسْتَحالَ أنْ يُوجَدَ مَن يَصْرِفُهم عَنْ ذَلِكَ الضَّلالِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ في الهُدى والضَّلالِ، والمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوا هَذا الإضْلالَ تارَةً عَلى الإضْلالِ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ وتارَةً عَلى مَنعِ الألْطافِ وتارَةً عَلى التَّخْلِيَةِ وعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالمَنعِ وهَذِهِ المَباحِثُ قَدْ ذَكَرْناها مِرارًا فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ فَإنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ المَشْيُ عَلى وُجُوهِهِمْ قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: إنَّهم يُسْحَبُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ (القَمَرِ: ٤٨) . الثّانِي: رَوى أبُو هُرَيْرَةَ: «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ ؟ قالَ: " إنَّ الَّذِي يُمْشِيهِمْ عَلى أقْدامِهِمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهِمْ عَلى وُجُوهِهِمْ»، قالَ حُكَماءُ الإسْلامِ: الكُفّارُ أرْواحُهم شَدِيدَةُ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيا ولَذّاتِها ولَيْسَ لَها تَعَلُّقٌ بِعالَمِ الأبْرارِ وحَضْرَةِ الإلَهِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَلَمّا كانَتْ وُجُوهُ قُلُوبِهِمْ وأرْواحِهِمْ مُتَوَجِّهَةً إلى الدُّنْيا لا جَرَمَ كانَ حَشْرُهم عَلى وُجُوهِهِمْ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ فاعْلَمْ أنَّ واحِدًا قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿ورَأى المُجْرِمُونَ النّارَ﴾ (الكَهْفِ: ٥٣) وقالَ: ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ (الفُرْقانِ: ١٢) وقالَ: ﴿دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ (الفُرْقانِ: ١٣) وقالَ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها﴾ (النَّحْلِ: ١١١) وقالَ حِكايَةً عَنِ الكُفّارِ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنْعامِ: ٢٣) فَثَبَتَ بِهَذِهِ الآياتِ أنَّهم يَرَوْنَ ويَسْمَعُونَ ويَتَكَلَّمُونَ فَكَيْفَ قالَ هَهُنا: ﴿عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ أجابَ ابْنُ عَبّاسٍ وتَلامِذَتُهُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عُمْيًا لا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهم، صُمًّا لا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهم، بُكْمًا لا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. الثّانِي: قالَ في رِوايَةِ عَطاءٍ: عُمْيًا عَنِ النَّظَرِ إلى ما جَعَلَهُ اللَّهُ لِأوْلِيائِهِ، بُكْمًا عَنْ مُخاطَبَةِ اللَّهِ ومُخاطَبَةِ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، صُمًّا عَنْ ثَناءِ اللَّهِ تَعالى عَلى أوْلِيائِهِ. الثّالِثُ: قالَ مُقاتِلٌ: إنَّهُ حِينَ يُقالُ لَهم: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ (المُؤْمِنُونَ: ١٠٨) يَصِيرُونَ عُمْيًا بُكْمًا صُمًّا، أمّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهم يَرَوْنَ ويَسْمَعُونَ ويَنْطِقُونَ. الرّابِعُ: أنَّهم يَكُونُونَ رائِينَ سامِعِينَ ناطِقِينَ في المَوْقِفِ ولَوْلا ذَلِكَ لَما قَدَرُوا عَلى أنْ يُطالِعُوا كُتُبَهم ولا أنْ يَسْمَعُوا إلْزامَ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلّا أنَّهم إذا أخَذُوا يَذْهَبُونَ مِنَ المَوْقِفِ إلى النّارِ جَعَلَهُمُ اللَّهُ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، والجَوابُ: أنَّ الآياتِ السّابِقَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهم في النّارِ يُبْصِرُونَ ويَسْمَعُونَ ويَصِيحُونَ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ فَظاهِرٌ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ فَفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ الواحِدِيُّ: الخَبْوُ سُكُونُ النّارِ، يُقالُ: خَبَتِ النّارُ تَخْبُو إذا سَكَنَ لَهَبُها، ومَعْنى خَبَتْ سَكَنَتْ وطُفِئَتْ يُقالُ في مَصْدَرِهِ الخَبْوُ وأخْبَأها المُخَبِّئُ إخْباءً أيْ أخْمَدَها ثُمَّ قالَ: ﴿زِدْناهم سَعِيرًا﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: زِدْناهم سَعِيرًا أيْ تَلَهُّبًا. البَحْثُ الثّانِي: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ إنَّهُ تَعالى لا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ العَذابَ وقَوْلُهُ: ﴿كُلَّما خَبَتْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَذابَ يَخِفُّ في ذَلِكَ الوَقْتِ، قُلْنا: كُلَّما خَبَتْ يَقْتَضِي سُكُونَ لَهَبِ النّارِ، أما لا يَدُلُّ هَذا عَلى أنَّهُ يَخِفُّ (p-٥٢)العَذابُ في ذَلِكَ الوَقْتِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ ظاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ أنْ تَكُونَ الحالَةُ الثّانِيَةُ أزْيَدَ مِنَ الحالَةِ الأُولى، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ الحالَةُ الأُولى بِالنِّسْبَةِ إلى الحالَةِ الثّانِيَةِ تَخْفِيفًا، والجَوابُ: الزِّيادَةُ حَصَلَتْ في الحالَةِ الأوْلى أخَفَّ مِن حُصُولِها في الحالَةِ الثّانِيَةِ فَكانَ العَذابُ شَدِيدًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ لَمّا عَظُمَ العَذابُ صارَ التَّفاوُتُ الحاصِلُ في أوْقاتِهِ غَيْرَ مَشْعُورٍ بِهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنْواعَ هَذا الوَعِيدِ قالَ ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهم بِأنَّهم كَفَرُوا﴾ والباءُ في قَوْلِهِ: بِأنَّهم كَفَرُوا باءُ السَّبَبِيَّةِ وهو حُجَّةٌ لِمَن يَقُولُ: العَمَلُ عِلَّةُ الجَزاءِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب