الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ ﴿أوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أوْ تَرْقى في السَّماءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ القُرْآنِ مُعْجِزًا وظَهَرَ هَذا المُعْجِزُ عَلى وفْقِ دَعْوى مُحَمَّدٍ ﷺ فَحِينَئِذٍ تَمَّ الدَّلِيلُ عَلى كَوْنِهِ نَبِيًّا صادِقًا؛ لِأنّا نَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا ادَّعى النُّبُوَّةَ وظَهَرَ المُعْجِزُ عَلى وفْقِ دَعْواهُ وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَهو نَبِيٌّ صادِقٌ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ صادِقٌ، ولَيْسَ مِن شَرْطِ كَوْنِهِ نَبِيًّا صادِقًا تَواتُرُ المُعْجِزاتِ الكَثِيرَةِ وتَوالِيها لِأنّا لَوْ فَتَحْنا هَذا البابَ لَلَزِمَ أنْ لا يَنْتَهِيَ الأمْرُ فِيهِ إلى مَقْطَعٍ، وكُلَّما أتى الرَّسُولُ بِمُعْجِزٍ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مُعْجِزًا آخَرَ ولا يَنْتَهِي الأمْرُ فِيهِ إلى حَدٍّ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ عِنادُ المُعانِدِينَ وتَغَلُّبُ الجاهِلِينَ؛ لِأنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم بَعْدَ أنْ ظَهَرَ كَوْنُ القُرْآنِ مُعْجِزًا التَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ سِتَّةَ أنْواعٍ مِنَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةِ كَما حُكِيَ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ”أنَّ رُؤَساءَ أهْلِ مَكَّةَ أرْسَلُوا إلى الرَّسُولِ ﷺ وهم جُلُوسٌ عِنْدَ الكَعْبَةِ فَأتاهم فَقالُوا يا مُحَمَّدُ إنَّ أرْضَ مَكَّةَ ضَيِّقَةٌ فَسَيِّرْ جِبالَها لِنَنْتَفِعَ فِيها، وفَجِّرْ لَنا فِيها يَنْبُوعًا أيْ: نَهْرًا وعُيُونًا نَزْرَعُ فِيها، فَقالَ: لا أقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقالَ قائِلٌ مِنهم: أوْ يَكُونُ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرُ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا، فَقالَ: لا أقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: أوْ يَكُونُ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أيْ: مِن ذَهَبٍ فَيُغْنِيكَ عَنّا، فَقالَ: لا أقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أما تَسْتَطِيعُ أنْ تَأْتِيَ قَوْمَكَ بِما يَسْألُونَكَ، فَقالَ: لا أسْتَطِيعُ، قالُوا: فَإذا كُنْتَ لا تَسْتَطِيعُ الخَيْرَ فاسْتَطِعِ الشَّرَّ فَأسْقِطِ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أيْ: قِطَعًا بِالعَذابِ، - وقَوْلُهُ: كَما زَعَمْتَ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ (الِانْشِقاقِ: ١)، ﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ (الِانْفِطارِ: ١) - فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ المَخْزُومِيُّ، وأُمُّهُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،: لا والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لا أُومِنُ بِكَ حَتّى تَشُدَّ سُلَّمًا فَتَصْعَدَ فِيهِ ونَحْنُ نَنْظُرُ إلَيْكَ فَتَأْتِي بِأرْبَعَةٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ (p-٤٨)بِالرِّسالَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لا أدْرِي أنُؤْمِنُ بِكَ أمْ لا» ! “ فَهَذا شَرْحُ هَذِهِ القِصَّةِ كَما رَواها ابْنُ عَبّاسٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْواعًا مِنَ المُعْجِزاتِ: أوَّلُها: قَوْلُهم: ﴿حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”تَفْجُرَ“ بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ الفاءِ وضَمِّ الجِيمِ مُخَفَّفَةً، واخْتارَهُ أبُو حاتِمٍ، قالَ: لِأنَّ اليَنْبُوعَ واحِدٌ والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، واخْتارَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في الثّانِيَةِ مُشَدِّدَةً لِأجْلِ الأنْهارِ، لِأنَّها جَمْعٌ، يُقالُ فَجَّرْتُ الماءَ فَجْرًا وفَجَّرْتُهُ تَفْجِيرًا، فَمَن ثَقَّلَ أرادَ بِهِ كَثْرَةَ الأشْجارِ مِنَ اليَنْبُوعِ وهو وإنْ كانَ واحِدًا فَلِكَثْرَةِ الِانْفِجارِ فِيهِ يَحْسُنُ أنْ يُثَقَّلَ كَما تَقُولُ ضَرْبَ زَيْدٌ إذا كَثُرَ الضَّرْبُ مِنهُ فَيَكْثُرُ فِعْلُهُ، وإنْ كانَ الفاعِلُ واحِدًا، ومَن خَفَّفَ فَلِأنَّ اليَنْبُوعَ واحِدٌ، وقَوْلُهُ يَنْبُوعًا، يَعْنِي: عَيْنًا يَنْبُعُ الماءُ مِنهُ، تَقُولُ نَبَعَ الماءُ يَنْبُعُ نَبْعًا ونُبُوعًا ونَبْعًا، ذَكَرَهُ الفَرّاءُ، قالَ القَوْمُ: أزِلْ عَنّا جِبالَ مَكَّةَ، وفَجِّرْ لَنا اليَنْبُوعَ لِيَسْهُلَ عَلَيْنا أمْرُ الزِّراعَةِ والحِراثَةِ. وثانِيها: قَوْلُهم: ﴿أوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا﴾ والتَّقْدِيرُ كَأنَّهم قالُوا هَبْ أنَّكَ لا تُفَجِّرُ هَذِهِ الأنْهارَ لِأجْلِنا فَفَجِّرْها مِن أجْلِكَ. وثالِثُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”كِسَفًا“ بِفَتْحِ السِّينِ هَهُنا وفي سائِرِ القُرْآنِ بِسُكُونِها، وقَرَأ نافِعٌ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ هَهُنا، وفي الرُّومِ بِفَتْحِ السِّينِ، وفي باقِي القُرْآنِ بِسُكُونِها؛ وقَرَأ حَفْصٌ في سائِرِ القُرْآنِ بِالفَتْحِ إلّا في الرُّومِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ في الرُّومِ بِفَتْحِ السِّينِ، وفي سائِرِ القُرْآنِ بِسُكُونِ السِّينِ، قالَ الواحِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِسَفًا، فِيهِ وجْهانِ مِنَ القِراءَةِ: سُكُونُ السِّينِ، وفَتْحُها، قالَ أبُو زَيْدٍ: يُقالُ كَسَفْتُ الثَّوْبَ أكْسِفُهُ كَسْفًا إذا قَطَعْتَهُ قَطْعًا، وقالَ اللَّيْثُ: الكَسْفُ: قَطْعُ العُرْقُوبِ، والكِسْفَةُ: القِطْعَةُ، وقالَ الفَرّاءُ: سَمِعْتُ أعْرابِيًّا يَقُولُ لِبَزّازٍ: أعْطِنِي كِسْفَةً: يُرِيدُ قِطْعَةً، فَمَن قَرَأ بِسُكُونِ السِّينِ احْتَمَلَ قَوْلُهُ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ الفَرّاءُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ كِسْفَةٍ مِثَلَ: دِمْنَةٍ ودِمْنٍ وسِدْرَةٍ وسِدْرٍ. وثانِيها: قالَ أبُو عَلِيٍّ: إذا كانَ المَصْدَرُ الكِسْفَ، فالكِسْفُ الشَّيْءُ المَقْطُوعُ كَما تَقُولُ في الطَّحْنِ والطَّبْخِ السَّقْيَ، ويُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا﴾ (الطَّوْرِ: ٤٤) . وثالِثُها: قالَ الزَّجّاجُ: مَن قَرَأ: كِسْفًا كَأنَّهُ قالَ أوْ يُسْقِطُها طَبْقًا عَلَيْنا واشْتِقاقُهُ مِن كَسَفْتُ الشَّيْءَ إذا غَطَّيْتَهُ، وأمّا فَتْحُ السِّينِ فَهو جَمْعُ كِسْفَةٍ مِثْلَ قِطْعَةٍ وقِطَعٍ وسِدْرَةٍ وسِدَرٍ، وهو نَصْبٌ عَلى الحالِ في القِراءَتَيْنِ جَمِيعًا كَأنَّهُ قِيلَ أوْ تُسْقِطُ السَّماءَ عَلَيْنا مُقَطَّعَةً. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَما زَعَمْتَ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ عِكْرِمَةُ: كَما زَعَمْتَ يا مُحَمَّدُ أنَّكَ نَبِيٌّ فَأسْقِطِ السَّماءَ عَلَيْنا. والثّانِي: قالَ آخَرُونَ كَما زَعَمْتَ أنَّ رَبَّكَ إنْ شاءَ فَعَلَ. الثّالِثُ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا﴾ (الإسْراءِ: ٦٨) فَقِيلَ اجْعَلِ السَّماءَ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً كالحاصِبِ وأسْقِطْها عَلَيْنا. ورابِعُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا﴾ وفي لَفْظِ القَبِيلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: القَبِيلُ بِمَعْنى المُقابِلِ كالعَشِيرِ بِمَعْنى المُعاشِرِ، وهَذا القَوْلُ مِنهم يَدُلُّ عَلى جَهْلِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ المُقابَلَةُ ويَقْرُبُ مِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ (الأنْعامِ: ١١١) . والقَوْلُ الثّانِي: ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ يُرِيدُ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ. قالَ اللَّيْثُ: وكُلُّ جُنْدٍ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ قَبِيلٌ وذَكَرْنا ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَراكم هو وقَبِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٢٧] . القَوْلُ الثّالِثُ: إنَّ قَوْلَهُ قَبِيلًا مَعْناهُ هَهُنا ضامِنًا وكَفِيلًا، قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ قَبِلْتُ بِهِ أقْبَلُ كَقَوْلِكَ كَفَلْتُ بِهِ أكْفُلُ، وعَلى (p-٤٩)هَذا القَوْلِ فَهو واحِدٌ أُرِيدَ بِهِ الجَمْعَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النِّساءِ: ٦٩) . والقَوْلُ الرّابِعُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَعْناهُ المُعايَنَةُ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ (الفُرْقانِ: ٢١) . وخامِسُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: كُنّا لا نَدْرِي ما الزُّخْرُفُ حَتّى رَأيْتُ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن ذَهَبٍ) قالَ الزَّجّاجُ: الزُّخْرُفُ الزِّينَةُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ﴾ (يُونُسَ: ٢٤) أيْ أخَذَتْ كَمالَ زِينَتِها؛ ولا شَيْءَ في تَحْسِينِ البَيْتِ وتَزْيِينِهِ كالذَّهَبِ. وسادِسُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ تَرْقى في السَّماءِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ رَقَيْتُ وأنا أرْقى رُقًى ورُقِيًّا وأنْشَدَ: ؎أنْتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رُقى الدَّرَجْ عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرَجْ وقَوْلُهُ في السَّماءِ أيْ في مَعارِجِ السَّماءِ فَحَذَفَ المُضافَ، يُقالُ رَقى المُسْلِمُ ورُقِيِّ الدَّرَجَةِ ثُمَّ قالُوا: ﴿ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ أيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأجْلِ رُقِيِّكَ: ﴿حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ﴾ فِيهِ تَصْدِيقُكَ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: ﴿ولَنْ نُؤْمِنَ﴾ حَتّى تَضَعَ عَلى السَّماءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقى فِيهِ وأنا أنْظُرُ حَتّى تَأْتِيَها ثُمَّ تَأْتِي مَعَكَ بِصَكٍّ مَنشُورٍ مَعَهُ أرْبَعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أنَّ الأمْرَ كَما تَقُولُ، ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ اقْتِراحَ هَذِهِ المُعْجِزاتِ قالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: المَبْحَثُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى مِن قَوْلِ الكُفّارِ قَوْلَهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي﴾ وكُلُّ ذَلِكَ كَلامُ القَوْمِ، وإنّا لا نَجِدُ بَيْنَ تِلْكَ الكَلِماتِ وبَيْنَ سائِرِ آياتِ القُرْآنِ تَفاوُتًا في النَّظْمِ، فَصَحَّ بِهَذا صِحَّةَ ما قالَهُ الكُفّارُ لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا، والجَوابُ: أنَّ هَذا القُرْآنَ قَلِيلٌ لا يَظْهَرُ فِيهِ التَّفاوُتُ بَيْنَ مَراتِبِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ فَزالَ هَذا السُّؤالُ. البَحْثُ الثّانِي: هَذِهِ الآياتُ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ المَجِيءَ والذَّهابَ عَلى اللَّهِ مُحالٌ لِأنَّ كَلِمَةَ سُبْحانَ لِلتَّنْزِيهِ عَمّا لا يَنْبَغِي، وقَوْلُهُ سُبْحانَ رَبِّي تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعالى عَنْ شَيْءٍ لا يَلِيقُ بِهِ أوْ نُسِبَ إلَيْهِ مِمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ولَيْسَ فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شَيْءٌ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ إلّا قَوْلُهم أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحانَ رَبِّي﴾ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَنِ الإتْيانِ والمَجِيءِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى فَسادِ قَوْلِ المُشَبِّهَةِ في أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجِيءُ ويَذْهَبُ، فَإنْ قالُوا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعالى عَنْ أنْ يَتَحَكَّمَ عَلَيْهِ المُتَحَكِّمُونَ في اقْتِراحِ الأشْياءِ ؟ قُلْنا: القَوْمُ لَمْ يَتَحَكَّمُوا عَلى اللَّهِ، وإنَّما قالُوا لِلرَّسُولِ ﷺ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا صادِقًا فاطْلُبْ مِنَ اللَّهِ أنْ يُشَرِّفَكَ بِهَذِهِ المُعْجِزاتِ فالقَوْمُ تَحَكَّمُوا عَلى الرَّسُولِ وما تَحَكَّمُوا عَلى اللَّهِ فَلا يَلِيقُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ رَبِّي﴾ عَلى هَذا المَعْنى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى قَوْلِهِمْ أوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ. البَحْثُ الثّالِثُ: تَقْرِيرُ هَذا الجَوابِ أنْ يُقالَ: إمّا أنْ يَكُونَ مُرادُكم مِن هَذا الِاقْتِراحِ أنَّكم طَلَبْتُمُ الإتْيانَ مِن عِنْدِ نَفْسِي بِهَذِهِ الأشْياءِ أوْ طَلَبْتُمْ مِنِّي أنْ أطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى إظْهارَها عَلى يَدَيَّ لِتَدُلَّ عَلى كَوْنِي رَسُولًا حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنِّي بَشَرٌ والبَشَرُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى هَذِهِ الأشْياءِ، والثّانِي أيْضًا باطِلٌ لِأنِّي قَدْ أتَيْتُكم بِمُعْجِزَةٍ واحِدَةٍ وهي القُرْآنُ والدَّلالَةِ عَلى كَوْنِها مُعْجِزَةً، فَطَلَبُ هَذِهِ المُعْجِزاتِ طَلَبٌ لِما لا حاجَةَ إلَيْهِ ولا ضَرُورَةَ فَكَأنَّ طَلَبَها يَجْرِي مَجْرى التَّعَنُّتِ والتَّحَكُّمِ وأنا عَبْدٌ مَأْمُورٌ لَيْسَ لِي أنْ أتَحَكَّمَ عَلى اللَّهِ فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ جَوابٌ كافٍ في هَذا البابِ، وحاصِلُ الكَلامِ أنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ كَوْنَهم عَلى الضَّلالِ في الإلَهِيّاتِ، (p-٥٠)وفِي النُّبُوّاتِ، أمّا في الإلَهِيّاتِ فَيَدُلُّ عَلى ضَلالِهِمْ قَوْلُهُ ”سُبْحانَ رَبِّي“ أيْ: سُبْحانَهُ عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ إتْيانٌ ومَجِيءٌ وذَهابٌ وأمّا في النُّبُوّاتِ فَيَدُلُّ عَلى ضَلالِهِمْ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ وتَقْرِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب