الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ ﴿إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَدَّدَ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ أقْسامَ نِعَمِهِ عَلى خَلْقِهِ وأتْبَعَها بِذِكْرِ دَرَجاتِ الخَلْقِ في الآخِرَةِ وشَرَحَ أحْوالَ السُّعَداءِ أرْدَفَهُ بِما يَجْرِي مَجْرى تَحْذِيرِ السُّعَداءِ مِنَ الِاغْتِرارِ بِوَساوِسِ أرْبابِ الضَّلالِ والِانْخِداعِ بِكَلامِهِمُ المُشْتَمِلِ عَلى المَكْرِ والتَّلْبِيسِ فَقالَ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطاءٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في «وفْدِ ثَقِيفٍ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَألُوهُ شَطَطًا، وقالُوا: مَتِّعْنا بِاللّاتِ سَنَةً وحَرِّمْ وادِينا كَما حَرَّمْتَ مَكَّةَ شَجَرَها وطَيْرَها ووَحْشَها فَأبى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُجِبْهم فَكَرَّرُوا ذَلِكَ الِالتِماسَ، وقالُوا إنّا نُحِبُّ أنْ تَعْرِفَ العَرَبُ فَضْلَنا عَلَيْهِمْ، فَإنْ كَرِهْتَ ما نَقُولُ وخَشِيتَ أنْ تَقُولَ العَرَبُ أعْطَيْتَهم ما لَمْ تُعْطِنا، فَقُلِ: اللَّهُ أمَرَنِي بِذَلِكَ، فَأمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهم وداخَلَهُمُ الطَّمَعُ، فَصاحَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ وقالَ: أما تَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أمْسَكَ عَنِ الكَلامِ كَراهِيَةً لَمّا تَذْكُرُونَهُ» ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، ورَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ أنَّهم «جاءُوا بِكاتِبِهِمْ فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذا كِتابٌ مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلى ثَقِيفٍ لا يُعَشَّرُونَ ولا يُحْشَرُونَ، فَقالُوا: ولا يُجْبَوْنَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالُوا لِلْكاتِبِ: اكْتُبْ ولا يُجْبَوْنَ والكاتِبُ يَنْظُرُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقامَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وسَلَّ سَيْفَهُ، وقالَ: أسْعَرْتُمْ قَلْبَ نَبِيِّنا يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أسْعَرَ اللَّهُ قُلُوبَكم نارًا. فَقالُوا لَسْنا نُكَلِّمُكَ إنَّما نُكَلِّمُ مُحَمَّدًا»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ إنَّما وقَعَتْ بِالمَدِينَةِ فَلِهَذا السَّبَبِ قالُوا إنَّ هَذِهِ الآياتِ مَدَنِيَّةٌ. ورُوِيَ «أنَّ قُرَيْشًا قالُوا لَهُ: اجْعَلْ آيَةَ رَحْمَةٍ آيَةَ عَذابٍ وآيَةَ عَذابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ حَتّى نُؤْمِنَ بِكَ» . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقالَ الحَسَنُ: «الكُفّارُ أخَذُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ فَقالُوا: كُفَّ يا مُحَمَّدُ عَنْ ذَمِّ آلِهَتِنا وشَتْمِها فَلَوْ كانَ ذَلِكَ حَقًّا كانَ فُلانٌ وفُلانٌ بِهَذا الأمْرِ أحَقَّ مِنكَ فَوَقَعَ في قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ يَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ»، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَهَذِهِ الآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ فَتَمْنَعُهُ قُرَيْشٌ ويَقُولُونَ لا نَدَعُكَ حَتّى تَسْتَلِمَ آلِهَتَنا فَوَقَعَ في نَفْسِهِ أنَّ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ كَراهِيَةٍ»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ مَعْنى الكَلامِ كادُوا يَفْتِنُونَكَ، ودَخَلَتْ إنَّ واللّامُ لِلتَّأْكِيدِ، وإنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ (p-١٨)الثَّقِيلَةِ، واللّامُ هي الفارِقَةُ بَيْنَها وبَيْنَ النّافِيَةِ، والمَعْنى: إنَّ الشَّأْنَ (أنَّهم) قارَبُوا أنْ يَفْتِنُوكَ أيْ: يَخْدَعُوكَ، فاتِنِينَ [ و] أصْلُ الفِتْنَةِ: الِاخْتِبارُ يُقالُ فَتَنَ الصّائِغُ الذَّهَبَ إذا أدْخَلَهُ النّارَ وأذابَهُ لِتَمْيِيزِ جِيدِهِ مِن رَدِيئِهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ في كُلِّ مَن أزالَ الشَّيْءَ عَنْ حَدِّهِ وجِهَتِهِ فَقالُوا فَتَنَهُ فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ أيْ: يُزِيُلُونَكَ ويَصْرِفُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ يَعْنِي القُرْآنَ، والمَعْنى: عَنْ حُكْمِهِ وذَلِكَ لِأنَّ في إعْطائِهِمْ ما سَألُوهُ مُخالَفَةً لِحُكْمِ القُرْآنِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ﴾ أيْ: غَيْرَ ما أوْحَيْنا إلَيْكَ وهو قَوْلُهم: قُلِ اللَّهُ أمَرَنِي بِذَلِكَ ﴿وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ أيْ لَوْ فَعَلْتَ ما أرادُوا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وأظْهَرُوا لِلنّاسِ أنَّكَ مُوافِقٌ لَهم عَلى كَوْنِهِمْ وراضٍ بِشِرْكِهِمْ ثُمَّ قالَ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ﴾ أيْ عَلى الحَقِّ بِعِصْمَتِنا إيّاكَ ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ﴾ أيْ تَمِيلُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، وقَوْلُهُ: ﴿شَيْئًا﴾ عِبارَةٌ عَنِ المَصْدَرِ أيْ رُكُونًا قَلِيلًا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ حَيْثُ سَكَتَ عَنْ جَوابِهِمْ. قالَ قَتادَةُ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«اللَّهُمَّ لا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» “ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ في ذَلِكَ أشَدَّ التَّوَعُّدِ فَقالَ: ﴿إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾ أيْ ضِعْفَ عَذابِ الحَياةِ وضِعْفَ عَذابِ المَماتِ، يُرِيدُ عَذابَ الدُّنْيا وعَذابَ الآخِرَةِ، والضِّعْفُ عِبارَةٌ عَنْ أنْ يَضُمَّ إلى الشَّيْءِ مِثْلَهُ، فَإنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ لِوَكِيلِهِ أعْطِ فُلانًا شَيْئًا فَأعْطاهُ دِرْهَمًا فَقالَ أضْعِفْهُ، كانَ المَعْنى ضُمَّ إلى ذَلِكَ الدِّرْهَمِ مِثْلَهُ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّما حَسُنَ إضْمارُ العَذابِ في قَوْلِهِ: ﴿ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾ لِما تَقَدَّمَ في القُرْآنِ مِن وصْفِ العَذابِ بِالضِّعْفِ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا مَن قَدَّمَ لَنا هَذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا في النّارِ﴾ (ص: ٦١) وقالَ: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعْرافِ: ٣٨) وحاصِلُ الكَلامِ أنَّكَ لَوْ مَكَّنْتَ خَواطِرَ الشَّيْطانِ مِن قَلْبِكَ وعَقَدْتَ عَلى الرُّكُونِ إلَيْهِ هِمَّتَكَ لاسْتَحْقَقْتَ بِذَلِكَ تَضْعِيفَ العَذابِ عَلَيْكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولَصارَ عَذابُكَ مِثْلَيْ عَذابِ المُشْرِكِ في الدُّنْيا ومِثْلَيْ عَذابِهِ في الآخِرَةِ، والسَّبَبُ في تَضْعِيفِ هَذا العَذابِ أنَّ أقْسامَ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى في حَقِّ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أكْثَرُ، فَكانَتْ ذُنُوبُهم أعْظَمَ فَكانَتِ العُقُوبَةُ المُسْتَحَقَّةُ عَلَيْها أكْثَرَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ﴾ (الأحْزابِ: ٣٠) فَإنْ قِيلَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» “ فَمُوجَبُ هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ رَضِيَ بِما قالُوهُ لَكانَ وِزْرُهُ مِثْلَ وِزْرِ كُلِّ أحَدٍ مِن أُولَئِكَ الكُفّارِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عِقابُهُ زائِدًا عَلى الضِّعْفِ، قُلْنا: إثْباتُ الضِّعْفِ لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الزّائِدِ عَلَيْهِ إلّا بِالبِناءِ عَلى دَلِيلِ الخِطابِ وهو حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا﴾ يَعْنِي إذا أذَقْناكَ العَذابَ المُضاعَفَ لَمْ تَجِدْ أحَدًا يُخَلِّصُكَ مِن عَذابِنا وعِقابِنا واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الطّاعِنُونَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى صُدُورِ الذَّنْبِ العَظِيمِ عَنْهم مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَرُبَ مِن أنْ يَفْتَرِيَ عَلى اللَّهِ، والفِرْيَةُ عَلى اللَّهِ مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ. والثّانِي: أنَّها تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى ثَبَّتَهُ وعَصَمَهُ لَقَرُبَ مِن أنْ يَرْكَنَ إلى دِينِهِمْ ويَمِيلَ إلى مَذْهَبِهِمْ. والثّالِثُ: أنَّهُ لَوْلا سَبْقُ جُرْمٍ وجِنايَةٍ وإلّا فَلا حاجَةَ إلى ذِكْرِ هَذا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ كادَ مَعْناهُ المُقارَبَةُ فَكانَ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ قَرُبَ وُقُوعُهُ في الفِتْنَةِ، وهَذا القَدْرُ لا يَدُلُّ عَلى الوُقُوعِ في تِلْكَ الفِتْنَةِ، فَإنّا إذا قُلْنا كادَ الأمِيرُ أنْ يَضْرِبَ فُلانًا لا يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ ضَرَبَهُ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ كَلِمَةَ لَوْلا تُفِيدُ انْتِفاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ، تَقُولُ لَوْلا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ، مَعْناهُ أنَّ وُجُودَ عَلِيٍّ مَنَعَ مِن حُصُولِ الهَلاكِ لِعُمْرَ، فَكَذَلِكَ هَهُنا قَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ﴾ مَعْناهُ (p-١٩)أنَّهُ حَصَلَ تَثْبِيتُ اللَّهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ فَكانَ حُصُولُ ذَلِكَ التَّثْبِيتِ مانِعًا مِن حُصُولِ ذَلِكَ الرُّكُونِ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: أنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ عَلى المَعْصِيَةِ لا يَدُلُّ عَلى الإقْدامِ عَلَيْها والدَّلِيلُ عَلَيْهِ آياتٌ مِنها قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ ﴿لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ﴾ (الحاقَّةِ: ٤٦) ومِنها قَوْلُهُ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (الزُّمَرِ: ٦٥) ومِنها قَوْلُهُ: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ (الأحْزابِ: ١) واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأنَّهُ لا عِصْمَةَ عَنِ المَعاصِي إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ قالُوا إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ لَوْلا تَثْبِيتُ اللَّهِ تَعالى لَهُ لَمالَ إلى طَرِيقَةِ الكُفّارِ ولا شَكَّ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كانَ أقْوى مِن غَيْرِهِ في قُوَّةِ الدِّينِ وصَفاءِ اليَقِينِ فَلَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ بَقاءَهُ مَعْصُومًا عَنِ الكُفْرِ والضَّلالِ لَمْ يَحْصُلْ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ تَعالى وإغاثَتِهِ كانَ حُصُولُ هَذا المَعْنى في حَقِّ غَيْرِهِ أوْلى، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُرادُ بِهَذا التَّثْبِيتِ الألْطافُ الصّارِفَةُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ وهي ما خَطَرَ بِبالِهِ مِن ذِكْرِ وعْدِهِ ووَعِيدِهِ، ومِن ذِكْرِ أنَّ كَوْنَهُ نَبِيًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ، والجَوابُ: لا شَكَّ أنَّ هَذا التَّثْبِيتَ عِبارَةٌ عَنْ فِعْلٍ فَعَلَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ الرَّسُولَ مِنَ الوُقُوعِ في ذَلِكَ العَمَلِ المَحْذُورِ، فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يُوجَدِ المُقْتَضى لِلْإقْدامِ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ المَحْذُورِ في حَقِّ الرَّسُولِ لَما كانَ إلى إيجادِ هَذا المانِعِ حاجَةٌ، وحَيْثُ وقَعَتِ الحاجَةُ إلى تَحْصِيلِ هَذا المانِعِ عَلِمْنا أنَّ المُقْتَضى قَدْ حَصَلَ في حَقِّ الرَّسُولِ ﷺ وأنَّ هَذا المانِعَ الَّذِي فَعَلَهُ اللَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ المُقْتَضى مِنَ العَمَلِ وهَذا لا يَتِمُّ إلّا إذا قُلْنا إنَّ القُدْرَةَ مَعَ الدّاعِي تُوجِبُ الفِعْلَ، فَإذا حَصَلَتْ داعِيَةٌ أُخْرى مُعارِضَةٌ لِلدّاعِيَةِ الأُولى اخْتَلَّ المُؤَثِّرُ فامْتَنَعَ الفِعْلُ ونَحْنُ لا نُرِيدُ إلّا إثْباتَ هَذا المَعْنى واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَدْ ذَكَرْنا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الوُجُوهَ المَذْكُورَةَ، ويُمْكِنُ أيْضًا تَأْوِيلُها مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ يُضافُ نُزُولُها فِيهِ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَسْعَوْنَ في إبْطالِ أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأقْصى ما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَتارَةً كانُوا يَقُولُونَ: إنْ عَبَدْتَ آلِهَتَنا عَبَدْنا إلَهَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ (الكافِرُونَ: ١) وقَوْلَهُ: ﴿ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القَلَمِ: ٩) وعَرَضُوا عَلَيْهِ الأمْوالَ الكَثِيرَةَ والنِّسْوانَ الجَمِيلَةَ لِيَتْرُكَ ادِّعاءَ النُّبُوَّةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (الحِجْرِ: ٨٨) ودَعَوْهُ إلى طَرْدِ المُؤْمِنِينَ عَنْ نَفْسِهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ (الأنْعامِ: ٥٢) فَيَجُوزُ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ في هَذا البابِ وذَلِكَ أنَّهم قَصَدُوا أنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ وأنْ يُزِيلُوهُ عَنْ مَنهَجِهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يُثَبِّتُهُ عَلى الدِّينِ القَوِيمِ والمَنهَجِ المُسْتَقِيمِ، وعَلى هَذا الطَّرِيقِ فَلا حاجَةَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ إلى شَيْءٍ مِن تِلْكَ الرِّواياتِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب