الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وحَمَلْناهم في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا﴾
اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ نِعْمَةٍ أُخْرى جَلِيلَةٍ رَفِيعَةٍ مِن نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلى الإنْسانِ وهي الأشْياءُ الَّتِي بِها فُضِّلَ الإنْسانُ عَلى غَيْرِهِ وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أرْبَعَةَ أنْواعٍ:
النَّوْعُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ واعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النَّفْسِ، والبَدَنِ، فالنَّفْسُ (p-١١)الإنْسانِيَّةُ أشْرَفُ النُّفُوسِ المَوْجُودَةِ في العالَمِ السُّفْلِيِّ، وبَدَنُهُ أشْرَفُ الأجْسامِ المَوْجُودَةِ في العالَمِ السُّفْلِيِّ. وتَقْرِيرُ هَذِهِ الفَضِيلَةِ في النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ هي أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ قُواها الأصْلِيَّةُ ثَلاثٌ. وهي الِاغْتِذاءُ والنُّمُوُّ والتَّوْلِيدُ، والنَّفْسُ الحَيَوانِيَّةُ لَها قُوَّتانِ الحَساسَةُ سَواءٌ كانَتْ ظاهِرَةً أوْ باطِنَةً، والحَرَكَةُ بِالِاخْتِيارِ، فَهَذِهِ القُوى الخَمْسَةُ أعْنِي الِاغْتِذاءَ والنُّمُوَّ والتَّوْلِيدَ والحِسَّ والحَرَكَةَ حاصِلَةٌ لِلنَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُوَّةٍ أُخْرى وهي القُوَّةُ العاقِلَةُ المُدْرِكَةُ لِحَقائِقِ الأشْياءِ كَما هي، وهي الَّتِي يَتَجَلّى فِيها نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ويُشْرِقُ فِيها ضَوْءُ كِبْرِيائِهِ وهو الَّذِي يَطَّلِعُ عَلى أسْرارِ عالَمَيِ الخَلْقِ والأمْرِ ويُحِيطُ بِأقْسامِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ مِنَ الأرْواحِ والأجْسامِ كَما هي، وهَذِهِ القُوَّةُ مِن تَلْقِيحِ الجَواهِرِ القُدْسِيَّةِ والأرْواحِ المُجَرَّدَةِ الإلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ القُوَّةُ لا نِسْبَةَ لَها في الشَّرَفِ والفَضْلِ إلى تِلْكَ القُوى النَّباتِيَّةِ والحَيَوانِيَّةِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ أشَرُفُ النُّفُوسِ المَوْجُودَةِ في هَذا العالَمِ وإنْ أرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ فَضائِلَ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ ونُقْصاناتِ القُوى الجِسْمِيَّةِ، فَتَأمَّلَ ما كَتَبْناهُ في هَذا الكِتابِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ (النُّورِ: ٣٥) فَإنّا ذَكَرْنا هُناكَ عِشْرِينَ وجْهًا في بَيانِ أنَّ القُوَّةَ العَقْلِيَّةَ أجَلُّ وأعْلى مِنَ القُوَّةِ الجِسْمِيَّةِ فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ، وأمّا بَيانُ أنَّ البَدَنَ الإنْسانِيَّ أشْرَفُ أجْسامِ هَذا العالَمِ، فالمُفَسِّرُونَ إنَّما ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ هَذا النَّوْعَ مِنَ الفَضائِلِ وذَكَرُوا أشْياءَ:
أحَدُها: رَوى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ قالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِفِيهِ إلّا ابْنَ آدَمَ فَإنَّهُ يَأْكُلُ بِيَدَيْهِ. وقِيلَ: إنَّ الرَّشِيدَ أُحْضِرَتْ عِنْدَهُ أطْعِمَةٌ فَدَعا بِالمَلاعِقِ وعِنْدَهُ أبُو يُوسُفَ، فَقالَ لَهُ: جاءَ في التَّفْسِيرِ عَنْ جِدِّكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ جَعَلْنا لَهم أصابِعَ يَأْكُلُونَ بِها فَرَدَّ المَلاعِقَ وأكَلَ بِأصابِعِهِ.
وثانِيها: قالَ الضَّحّاكُ: بِالنُّطْقِ والتَّمْيِيزِ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ أنَّ مَن عَرَفَ شَيْئًا فَإمّا أنَّ يَعْجَزَ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهِ كَوْنُهُ عارِفًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ أوْ يَقْدِرَ عَلى هَذا التَّعْرِيفِ.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَهو حالُ جُمْلَةِ الحَيَواناتِ سِوى الإنْسانِ، فَإنَّهُ إذا حَصَلَ في باطِنِها ألَمٌ أوْ لَذَّةٌ فَإنَّها تَعْجَزُ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِها تِلْكَ الأحْوالِ تَعْرِيفًا تامًّا وافِيًا.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: فَهو الإنْسانُ، فَإنَّهُ يُمْكِنُهُ تَعْرِيفُ غَيْرِهِ كُلَّ ما عَرَفَهُ ووَقَفَ عَلَيْهِ وأحاطَ بِهِ، فَكَوْنُهُ قادِرًا عَلى هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّعْرِيفِ هو المُرادُ بِكَوْنِهِ ناطِقًا، وبِهَذا البَيانِ ظَهَرَ أنَّ الإنْسانَ الأخْرَسَ داخِلٌ في هَذا الوَصْفِ، لِأنَّهُ وإنْ عَجَزَ عَنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهِ ما في قَلْبِهِ بِطَرِيقِ اللِّسانِ، فَإنَّهُ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الإشارَةِ وبِطْرِيقِ الكِتابَةِ وغَيْرِهِما، ولا يَدْخُلُ فِيهِ البَبْغاءُ؛ لِأنَّهُ وإنْ قَدَرَ عَلى تَعْرِيفاتٍ قَلِيلَةٍ، فَلا قُدْرَةَ لَهُ عَلى تَعْرِيفِ جَمِيعِ الأحْوالِ عَلى سَبِيلِ الكَمالِ والتَّمامِ.
وثالِثُها: قالَ عَطاءٌ: بِامْتِدادِ القامَةِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ غَيْرُ تامٍّ لِأنَّ الأشْجارَ أطْوَلُ مِن قامَةِ الإنْسانِ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ شَرْطٌ، وهو طُولُ القامَةِ مَعَ اسْتِكْمالِ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ، والقُوى الحِسِّيَّةِ والحَرَكِيَّةِ.
ورابِعُها: قالَ بَيانٌ: بِحُسْنِ الصُّورَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ (غافِرٍ: ٦٤) لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى خِلْقَةَ الإنْسانِ قالَ: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٤] وقالَ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البَقَرَةِ: ١٣٨) وإنْ شِئْتَ فَتَأمَّلَ عُضْوًا واحِدًا مِن أعْضاءِ الإنْسانِ وهو العَيْنُ فَخَلَقَ الحَدَقَةَ سَوْداءَ ثُمَّ أحاطَ بِذَلِكَ السَّوادِ بَياضَ العَيْنِ ثُمَّ أحاطَ بِذَلِكَ البَياضِ سَوادَ الأشْفارِ ثُمَّ أحاطَ بِذَلِكَ السَّوادِ بَياضَ الأجْفانِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ بَياضِ (p-١٢)الجَفْنِ سَوادَ الحاجِبَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ ذَلِكَ السَّوادِ بَياضَ الجَبْهَةِ ثُمَّ خَلَقَ فَوْقَ بَياضِ الجَبْهَةِ سَوادَ الشَّعْرِ، ولْيَكُنْ هَذا المِثالُ الواحِدُ أُنْمُوذَجًا لَكَ في هَذا البابِ.
وخامِسُها: قالَ بَعْضُهم: مِن كَراماتِ الآدَمِيِّ أنْ آتاهُ اللَّهُ الخَطَّ. وتَحْقِيقُ الكَلامِ في هَذا البابِ أنَّ العِلْمَ الَّذِي يَقْدِرُ الإنْسانُ عَلى اسْتِنْباطِهِ يَكُونُ قَلِيلًا. أمّا إذا اسْتَنْبَطَ الإنْسانُ عِلْمًا وأوْدَعَهُ في الكِتابِ، وجاءَ الإنْسانُ الثّانِي واسْتَعانَ بِذَلِكَ الكِتابِ وضَمَّ إلَيْهِ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ أشْياءَ أُخْرى ثُمَّ لا يَزالُونَ يَتَعاقَبُونَ، ويَضُمُّ كُلُّ مُتَأخِّرٍ مَباحِثَ كَثِيرَةً إلى عِلْمِ المُتَقَدِّمِينَ كَثُرَتِ العُلُومُ وقَوِيَتِ الفَضائِلُ والمَعارِفُ وانْتَهَتِ المَباحِثُ العَقْلِيَّةُ والمَطالِبُ الشَّرْعِيَّةُ إلى أقْصى الغاياتِ وأكْمَلِ النِّهاياتِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا البابَ لا يَتَأتّى إلّا بِواسِطَةِ الخَطِّ والكَتَبَةِ، ولِهَذِهِ الفَضِيلَةِ الكامِلَةِ قالَ تَعالى: ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٣] .
وسادِسُها: أنَّ أجْسامَ هَذا العالَمِ إمّا بَسائِطُ وإمّا مُرَكَّباتٌ، أمّا البَسائِطُ فَهي الأرْضُ والماءُ والهَواءُ والنّارُ. والإنْسانُ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ هَذِهِ الأرْبَعِ، أمّا الأرْضُ فَهي لَنا كالأُمِّ الحاضِنَةِ. قالَ تَعالى: ﴿مِنها خَلَقْناكم وفِيها نُعِيدُكم ومِنها نُخْرِجُكم تارَةً أُخْرى﴾ (طه: ٥٥) وقَدْ سَمّاها اللَّهُ تَعالى بِأسْماءٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا، وهي الفِراشُ والمَهْدُ، والمِهادُ، وأمّا الماءُ فانْتِفاعُنا بِهِ في الشُّرْبِ والزِّراعَةِ والحِراثَةِ ظاهِرٌ، وأيْضًا سَخَّرَ البَحْرَ لِنَأْكُلَ مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا، ونَسْتَخْرِجَ مِنهُ حِلْيَةً نَلْبَسُها ونَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، وأمّا الهَواءُ فَهو مادَّةُ حَياتِنا، ولَوْلا هُبُوبُ الرِّياحِ لاسْتَوْلى النَّتَنُ عَلى هَذِهِ المَعْمُورَةِ، وأمّا النّارُ فَبِها طَبْخُ الأغْذِيَةِ والأشْرِبَةِ ونُضْجُها، وهي قائِمَةٌ مَقامَ الشَّمْسِ والقَمَرِ في اللَّيالِي المُظْلِمَةِ، وهي الدّافِعَةُ لِضَرَرِ البَرْدِ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎ومَن يُرِدْ في الشِّتاءِ فاكِهَةً فَإنَّ نارَ الشِّتاءِ فاكِهَتُهُ
وأمّا المُرَكَّباتُ فَهي إمّا الآثارُ العُلْوِيَّةُ، وإمّا المَعادِنُ والنَّباتُ، وأمّا الحَيَوانُ والإنْسانُ كالمُسْتَوْلِي عَلى هَذِهِ الأقْسامِ والمُنْتَفِعِ بِها والمُسْتَسْخِرِ لِكُلِّ أقْسامِها فَهَذا العالَمُ بِأسْرِهِ جارٍ مَجْرى قَرْيَةٍ مَعْمُورَةٍ أوْ خانٍ مُعَدٍّ، وجَمِيعُ مَنافِعِها ومَصالِحِها مَصْرُوفَةٌ إلى الإنْسانِ فِيهِ كالرَّئِيسِ المَخْدُومِ والمَلِكِ المُطاعِ، وسائِرُ الحَيَواناتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كالعَبِيدِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا مِن عِنْدِ اللَّهِ بِمَزِيدِ التَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ واللَّهُ أعْلَمُ.
وسابِعُها: أنَّ المَخْلُوقاتِ تَنْقَسِمُ إلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ: إلى ما حَصَلَتْ لَهُ القُوَّةُ العَقْلِيَّةُ الحِكَمِيَّةُ ولَمْ تَحْصُلْ لَهُ القُوَّةُ الشَّهْوانِيَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ وهُمُ المَلائِكَةُ، وإلى ما يَكُونُ بِالعَكْسِ وهُمُ البَهائِمُ، وإلى ما خَلا عَنِ القِسْمَيْنِ وهو النَّباتُ والجَماداتُ، وإلى ما حَصَلَ النَّوْعانِ فِيهِ وهو الإنْسانُ، ولا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ لِكَوْنِهِ مُسْتَجْمِعًا لِلْقُوَّةِ العَقْلِيَّةِ القُدْسِيَّةِ المَحْضَةِ، ولِلْقُوى الشَّهْوانِيَّةِ البَهِيمِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ والسَّبُعِيَّةِ يَكُونُ أفْضَلَ مِنَ البَهِيمِيَّةِ ومِنَ السَّبُعِيَّةِ، ولا شَكَّ أيْضًا أنَّهُ أفْضَلُ مِنَ الأجْسامِ الخالِيَةِ عَنِ القُوَّتَيْنِ مِثْلَ النَّباتِ والمَعادِنِ والجَماداتِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى فَضَّلَ الإنْسانَ عَلى أكْثَرِ أقْسامِ المَخْلُوقاتِ. بَقِيَ هَهُنا بَحْثٌ في أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ أمِ البَشَرَ ؟ والمَعْنى أنَّ الجَوْهَرَ البَسِيطَ المَوْصُوفَ بِالقُوَّةِ العَقْلِيَّةِ القُدْسِيَّةِ المَحْضَةِ أفْضَلُ أمِ البَشَرَ المُسْتَجْمِعَ لِهاتَيْنِ القُوَّتَيْنِ ؟ وذَلِكَ بَحْثٌ آخَرُ.
وثامِنُها: المَوْجُودُ إمّا أنْ يَكُونَ أزَلِيًّا وأبَدِيًّا مَعًا وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وإمّا أنْ يَكُونَ لا أزَلِيًّا ولا أبَدِيًّا وهو عالَمُ الدُّنْيا مَعَ كُلِّ ما فِيهِ مِنَ المَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ، وهَذا أخَسُّ الأقْسامِ، وإمّا أنْ يَكُونَ أزَلِيًّا لا أبَدِيًّا وهو المُمْتَنِعُ الوُجُودِ لِأنَّ ما ثَبَتَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ أزَلِيًّا ولَكِنَّهُ يَكُونُ أبَدِيًّا، وهو الإنْسانُ والمَلَكُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا القِسْمَ أشْرَفُ مِنَ القِسْمِ الثّانِي والثّالِثِ وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الإنْسانِ أشْرَفَ مِن أكْثَرِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى.
وتاسِعُها: العالَمُ العِلْوِيُّ أشْرَفُ مِنَ العالَمِ السُّفْلِيِّ، ورُوحُ (p-١٣)الإنْسانِ مِن جِنْسِ الأرْواحِ العُلْوِيَّةِ والجَواهِرِ القُدْسِيَّةِ فَلَيْسَ في مَوْجُوداتِ العالَمِ السُّفْلِيِّ شَيْءٌ حَصَلَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ العالَمِ العُلْوِيِّ إلّا الإنْسانَ فَوَجَبَ كَوْنُ الإنْسانِ أشْرَفَ مَوْجُوداتِ العالَمِ السُّفْلِيِّ.
وعاشِرُها: أشْرَفُ المَوْجُوداتِ هو اللَّهُ تَعالى، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَوْجُودٍ كانَ قُرْبُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أتَمَّ، وجَبَ أنْ يَكُونَ أشْرَفَ، لَكِنَّ أقْرَبَ مَوْجُوداتِ هَذا العالَمِ مِنَ اللَّهِ هو الإنْسانُ بِسَبَبِ أنَّ قَلْبَهُ مُسْتَنِيرٌ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ولِسانَهُ مُشَرَّفٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وجَوارِحَهُ وأعْضاؤَهُ مُكَرَّمَةٌ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى فَوَجَبَ الجَزْمُ بِأنَّ أشْرَفَ مَوْجُوداتِ هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ هو الإنْسانُ، ولَمّا ثَبَتَ أنَّ الإنْسانَ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والمُمْكِنُ لِذاتِهِ لا يُوجَدُ إلّا بِإيجادِ الواجِبِ لِذاتِهِ ثَبَتَ أنَّ كُلَّ ما حَصَلَ لِلْإنْسانِ مِنَ المَراتِبِ العالِيَةِ والصِّفاتِ الشَّرِيفَةِ فَهي إنَّما حَصَلَتْ بِإحْسانِ اللَّهِ تَعالى وإنْعامِهِ فَلِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ ومِن تَمامِ كَرامَتِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى أنَّهُ تَعالى لَمّا خَلَقَهُ في أوَّلِ الأمْرِ وصَفَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ أكْرَمُ فَقالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ (العَلَقِ: ١) ووَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّكْرِيمِ عِنْدَ تَرْبِيَتِهِ لِلْإنْسانِ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ ووَصَفَ نَفْسَهُ بِالكَرَمِ في آخِرِ أحْوالِ الإنْسانِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ (الِانْفِطارِ: ٦) وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا نِهايَةَ لِكَرَمِ اللَّهِ تَعالى ولِفَضْلِهِ وإحْسانِهِ مَعَ الإنْسانِ واللَّهُ أعْلَمُ.
والوَجْهُ الحادِي عَشَرَ: قالَ بَعْضُهم: هَذا التَّكْرِيمُ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وخَلَقَ غَيْرَهُ بِطَرِيقِ كُنْ فَيَكُونُ. ومَن كانَ مَخْلُوقًا بِيَدِ اللَّهِ كانَتِ العِنايَةُ بِهِ أتَمَّ وأكْمَلَ، وكانَ أكْرَمَ وأكْمَلَ ولَمّا جَعَلَنا مِن أوْلادِهِ وجَبَ كَوْنُ بَنِي آدَمَ أكْرَمَ وأكْمَلَ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ المَدائِحِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وحَمَلْناهم في البَرِّ والبَحْرِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في البَرِّ عَلى الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ والإبِلِ، وفي البَحْرِ عَلى السُّفُنِ، وهَذا أيْضًا مِن مُؤَكِّداتِ التَّكْرِيمِ المَذْكُورِ أوَّلًا، لِأنَّهُ تَعالى سَخَّرَ هَذِهِ الدَّوابَّ لَهُ حَتّى يَرْكَبَها ويَحْمِلَ عَلَيْها ويَغْزُوَ ويُقاتِلَ ويَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وكَذَلِكَ تَسْخِيرُ اللَّهِ تَعالى المِياهَ والسُّفُنَ وغَيْرَها لِيَرْكَبَها ويَنْقِلَ عَلَيْها ويَتَكَسَّبَ بِها مِمّا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ آدَمَ، كُلُّ ذَلِكَ مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ في هَذا العالَمِ كالرَّئِيسِ المَتْبُوعِ والمَلِكِ المُطاعِ، وكُلُّ ما سِواهُ فَهو رَعِيَّتُهُ وتَبَعٌ لَهُ.
النَّوْعُ الثّالِثُ: مِنَ المَدائِحِ قَوْلُهُ: ﴿ورَزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الأغْذِيَةَ إمّا حَيَوانِيَّةٌ وإمّا نَباتِيَّةٌ، وكِلا القِسْمَيْنِ إنَّما يَتَغَذّى الإنْسانُ مِنهُ بِألْطَفِ أنْواعِها وأشْرَفِ أقْسامِها بَعْدَ التَّنْقِيَةِ التّامَّةِ والطَّبْخِ الكامِلِ والنُّضْجِ البالِغِ، وذَلِكَ مِمّا لا يَحْصُلُ إلّا لِلْإنْسانِ.
النَّوْعُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا﴾ وهَهُنا بَحْثانِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ وقالَ في آخِرِها: ﴿وفَضَّلْناهُمْ﴾ ولا بُدَّ مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ هَذا التَّكْرِيمِ والتَّفْضِيلِ وإلّا لَزِمَ التَّكْرارُ، والأقْرَبُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى فَضَّلَ الإنْسانَ عَلى سائِرِ الحَيَواناتِ بِأُمُورٍ خَلْقِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ ذاتِيَّةٍ مِثْلَ العَقْلِ والنُّطْقِ والخَطِّ والصُّورَةِ الحَسَنَةِ والقامَةِ المَدِيدَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَرَضَهُ بِواسِطَةِ ذَلِكَ العَقْلِ والفَهْمِ لِاكْتِسابِ العَقائِدِ الحَقَّةِ والأخْلاقِ الفاضِلَةِ، فالأوَّلُ هو التَّكْرِيمُ والثّانِي هو التَّفْضِيلُ.
البَحْثُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ: وفَضَّلْناهم عَلى الكُلِّ بَلْ قالَ: (p-١٤)﴿وفَضَّلْناهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَصَلَ في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ لا يَكُونُ الإنْسانُ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، وكُلُّ مَن أثْبَتَ هَذا القِسْمَ قالَ: إنَّهُ هو المَلائِكَةُ، فَلَزِمَ القَوْلُ بِأنَّ الإنْسانَ لَيْسَ أفْضَلَ مِنَ المَلائِكَةِ بَلِ المَلَكُ أفْضَلُ مِنَ الإنْسانِ، وهَذا القَوْلُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ واخْتِيارُ الزَّجّاجِ عَلى ما رَواهُ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ مُشْتَمِلٌ عَلى بَحْثَيْنِ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أفْضَلُ أمِ المَلائِكَةُ ؟ وقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ المَسْألَةِ بِالِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ (البَقَرَةِ: ٣٤) .
والبَحْثُ الثّانِي: أنَّ عَوامَّ المَلائِكَةِ وعَوامَّ المُؤْمِنِينَ أيُّهُما أفْضَلُ ؟ مِنهم مَن قالَ بِتَفْضِيلِ المُؤْمِنِينَ عَلى المَلائِكَةِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِما رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ قالَ: قالَتِ المَلائِكَةُ رَبَّنا إنَّكَ أعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيا يَأْكُلُونَ فِيها ويَتَنَعَّمُونَ ولَمْ تُعْطِنا ذَلِكَ فَأعْطِنا ذاكَ في الآخِرَةِ، فَقالَ: وعِزَّتِي وجَلالِي لا أجْعَلُ ذَرِّيَّةَ مَن خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَن قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكانَ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المُؤْمِنُ أكْرَمُ عَلى اللَّهِ مِنَ المَلائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ، هَكَذا أوْرَدَهُ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“، وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ عَلى الإطْلاقِ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلى هَذِهِ الآيَةِ، وهو في الحَقِيقَةِ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الخِطابِ لِأنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ أنْ يُقالَ: إنَّ تَخْصِيصَ الكَثِيرِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحالَ في القَلِيلِ بِالضِّدِّ، وذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الخِطابِ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق