الباحث القرآني

والنَّوْعُ الخامِسُ: مِنَ الأشْياءِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى لِإبْلِيسَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا كانَ مَقْصُودُ الشَّيْطانِ التَّرْغِيبَ في الِاعْتِقادِ الباطِلِ والعَمَلِ الباطِلِ والتَّنْفِيرِ عَنِ الِاعْتِقادِ الحَقِّ والعَمَلِ الحَقِّ، ومَعْلُومٌ أنَّ التَّرْغِيبَ في الشَّيْءِ لا يُمْكِنُ إلّا بِأنْ يُقَرَّرَ عِنْدَهُ أنَّهُ لا ضَرَرَ البَتَّةَ في فِعْلِهِ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ يُفِيدُ المَنافِعَ العَظِيمَةَ، والتَّنْفِيرُ عَنِ الشَّيْءِ لا يُمْكِنُ إلّا بِأنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُ أنَّهُ لا فائِدَةَ في فِعْلِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَيُفِيدُ المَضارَّ العَظِيمَةَ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ الشَّيْطانَ إذا دَعا إلى المَعْصِيَةِ فَلا بُدَّ وأنْ يُقَرِّرَ أوَّلًا أنَّهُ لا مَضَرَّةَ في فِعْلِهِ البَتَّةَ، وذَلِكَ إنَّما يُمْكِنُ إذا قالَ لا مَعادَ ولا جَنَّةَ ولا نارَ، ولا حَياةَ بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ يُقَرِّرُ عِنْدَهُ أنَّهُ لا مَضَرَّةَ البَتَّةَ في فِعْلِ هَذِهِ المَعاصِي، وإذا فَرَغَ عَنْ هَذا المَقامِ قَرَّرَ عِنْدَهُ أنَّ هَذا الفِعْلَ يُفِيدُ أنْواعًا مِنَ اللَّذَّةِ والسُّرُورِ ولا حَياةَ لِلْإنْسانِ في هَذِهِ الدُّنْيا إلّا بِهِ، فَتَفْوِيتُها غَبْنٌ وخُسْرانٌ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎خُذُوا بِنَصِيبٍ مِن سُرُورٍ ولَذَّةٍ فَكُلٌّ وإنْ طالَ المَدى يَتَصَرَّمُ فَهَذا هو طَرِيقُ الدَّعْوَةِ إلى المَعْصِيَةِ، وأمّا طَرِيقُ التَّنْفِيرِ عَنِ الطّاعَةِ فَهو أنْ يُقَرِّرَ أوَّلًا عِنْدَهُ أنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ وتَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ يَقُولَ لا جَنَّةَ ولا نارَ ولا ثَوابَ ولا عَذابَ. والثّانِي: أنَّ هَذِهِ العِباداتِ لا فائِدَةَ فِيها لِلْعابِدِ والمَعْبُودِ فَكانَتْ عَبَثًا مَحْضًا فَبِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ يُقَرِّرُ الشَّيْطانُ عِنْدَ الإنْسانِ أنَّهُ لا فائِدَةَ فِيها، وإذا فَرَغَ عَنْ هَذا المَقامِ قالَ إنَّها تُوجِبُ التَّعَبَ والمِحْنَةَ وذَلِكَ أعْظَمُ المَضارِّ، فَهَذِهِ مَجامِعُ تَلْبِيسِ الشَّيْطانِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ يَتَناوَلُ كُلَّ هَذِهِ الأقْسامِ، قالَ المُفَسِّرُونَ قَوْلُهُ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ أيْ بِأنَّهُ لا جَنَّةَ ولا نارَ، وقالَ آخَرُونَ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ بِتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ، وقالَ آخَرُونَ ﴿وعِدْهُمْ﴾ بِالأمانِي الباطِلَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ لِآدَمَ: ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾ (الأعْرافِ: ٢٠) وقالَ آخَرُونَ: وعِدْهم بِشَفاعَةِ الأصْنامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وبِالأنْسابِ الشَّرِيفَةِ وإيثارِ العاجِلِ عَلى الآجِلِ، وبِالجُمْلَةِ فَهَذِهِ الأقْسامُ كَثِيرَةٌ وكُلُّها داخِلَةٌ في الضَّبْطِ الَّذِي ذَكَرْناهُ وإنْ أرَدْتَ الِاسْتِقْصاءَ في هَذا البابِ فَطالِعْ كِتابَ (ذَمِّ الغُرُورَ) مِن كِتابِ (إحْياءِ عُلُومِ الدِّينِ) لِلشَّيْخِ الغَزالِيِّ حَتّى يُحِيطَ عَقْلُكَ بِمَجامِعِ تَلْبِيسِ إبْلِيسَ، واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ أرْدَفَهُ بِما يَكُونُ زاجِرًا عَنْ قَبُولِ وعْدِهِ فَقالَ: ﴿وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ والسَّبَبُ فِيهِ أنَّهُ إنَّما يَدْعُو إلى أحَدِ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: قَضاءُ الشَّهْوَةِ، وإمْضاءُ الغَضَبِ، وطَلَبُ الرِّياسَةِ، وعُلُوُّ الدَّرَجَةِ، ولا يَدْعُو البَتَّةَ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ولا إلى خِدْمَتِهِ، وتِلْكَ الأشْياءُ الثَّلاثَةُ مَعْنَوِيَّةٌ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أحَدُها: أنَّها في الحَقِيقَةِ لَيْسَتْ لَذّاتٍ بَلْ هي خَلاصٌ عَنِ الآلامِ. وثانِيها: وإنْ كانَتْ لَذّاتٍ لَكِنَّها لَذّاتٌ خَسِيسَةٌ مُشْتَرَكٌ فِيها بَيْنَ الكِلابِ والدِّيدانِ والخَنافِسِ وغَيْرِها. وثالِثُها: أنَّها سَرِيعَةُ الذَّهابِ والِانْقِضاءِ والِانْقِراضِ. ورابِعُها: أنَّها لا تَحْصُلُ إلّا بِمَتاعِبَ كَثِيرَةٍ ومَشاقٍّ عَظِيمَةٍ. وخامِسُها: أنَّ لَذّاتِ البَطْنِ والفَرْجِ لا تَتِمُّ إلّا بِمُزاوَلَةِ رُطُوباتٍ عَفِنَةٍ مُسْتَقْذَرَةٍ. وسادِسُها: أنَّها غَيْرُ باقِيَةٍ بَلْ يَتْبَعُها المَوْتُ والهِرَمُ والفَقْرُ والحَسْرَةُ عَلى الفَوْتِ والخَوْفُ مِنَ المَوْتِ. فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ المَطالِبُ وإنْ كانَتْ لَذِيذَةً بِحَسَبِ الظّاهِرِ إلّا أنَّها مَمْزُوجَةٌ بِهَذِهِ الآفاتِ العَظِيمَةِ والمُخالَفاتِ الجَسِيمَةِ، كانَ التَّرْغِيبُ فِيها تَغْرِيرًا، ولِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ لَهُ افْعَلْ ما تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: (p-٨)الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ كُلُّ عِبادِ اللَّهِ مِنَ المُكَلَّفِينَ، وهَذا قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ، قالَ: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَثْنى مِنهُ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مَن يَتْبَعُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ (الحِجْرِ: ٤٢) ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِهَذا عَلى أنَّهُ لا سَبِيلَ لِإبْلِيسَ وجُنُودِهِ عَلى تَصْرِيعِ النّاسِ وتَخْبِيطِ عُقُولِهِمْ وأنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهُ إلّا عَلى قَدْرِ الوَسْوَسَةِ وأكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ﴾ (إبْراهِيمَ: ٢٢) . وأيْضًا فَلَوْ قَدَرَ عَلى هَذِهِ الأعْمالِ لَكانَ يَجِبُ أنْ يَتَخَبَّطَ أهْلَ الفَضْلِ وأهْلَ العِلْمِ دُونَ سائِرِ النّاسِ لِيَكُونَ ضَرَرُهُ أعْظَمَ. ثُمَّ قالَ: وإنَّما يَزُولُ عَقْلُهُ لا مِن جِهَةِ الشَّيْطانِ لَكِنْ لِغَلَبَةِ الأخْلاطِ الفاسِدَةِ ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أحَدُ أسْبابِ ذَلِكَ المَرَضِ اعْتِقادَ أنَّ الشَّيْطانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبُ الخَوْفُ فَيَحْدُثُ ذَلِكَ المَرَضُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ عِبادِي﴾ أهْلُ الفَضْلِ والعِلْمِ والإيمانِ لِما بَيَّنّا فِيما تَقَدَّمَ أنَّ لَفْظَ العِبادِ في القُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِأهْلِ الإيمانِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ (النَّحْلِ: ١٠٠) . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلًا﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا مَكَّنَ إبْلِيسَ مِن أنْ يَأْتِيَ بِأقْصى ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ في بابِ الوَسْوَسَةِ، وكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الخَوْفِ الشَّدِيدِ في قَلْبِ الإنْسانِ، قالَ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلًا﴾ ومَعْناهُ أنَّ الشَّيْطانَ وإنْ كانَ قادِرًا فاللَّهُ تَعالى أقْدَرُ مِنهُ وأرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنَ الكُلِّ فَهو تَعالى يَدْفَعُ عَنْهُ كَيْدَ الشَّيْطانِ ويَعْصِمُهُ مِن إضْلالِهِ وإغْوائِهِ. البَحْثُ الثّانِي: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المَعْصُومَ مَن عَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى وأنَّ الإنْسانَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَحْتَرِزَ بِنَفْسِهِ عَنْ مَواقِعِ الضَّلالَةِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ الإقْدامُ عَلى الحَقِّ والإحْجامُ عَنِ الباطِلِ إنَّما يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ مِن نَفْسِهِ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: وكَفى الإنْسانُ نَفْسَهُ في الِاحْتِرازِ عَنِ الشَّيْطانِ، فَلَمّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قالَ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ﴾ عَلِمْنا أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ، ولِهَذا قالَ المُحَقِّقُونَ: لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ إبْلِيسَ هَلْ كانَ عالِمًا بِأنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهُمْ﴾ هو إلَهُ العالَمِ أوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ؟ فَإنْ عَلِمَ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكم جَزاءً مَوْفُورًا﴾ فَكَيْفَ لَمْ يَصِرْ هَذا الوَعِيدُ الشَّدِيدُ مانِعًا لَهُ مِنَ المَعْصِيَةِ مَعَ أنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ واسِطَةٍ ؟ وإنْ لَمْ يَعْلَمْ أنَّ هَذا القائِلَ هو إلَهُ العالَمِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ . والجَوابُ: لَعَلَّهُ كانَ شاكًّا في الكُلِّ أوْ كانَ يَقُولُ في كُلِّ قَسَمٍ ما يَخْطُرُ بِبالِهِ عَلى سَبِيلِ الظَّنِّ. والسُّؤالُ الثّانِي: ما الحِكْمَةُ في أنَّهُ تَعالى أنْظَرَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ومَكَّنَهُ مِنَ الوَسْوَسَةِ ؟ والحَكِيمُ إذا أرادَ أمْرًا وعَلِمَ أنَّ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ يَمْنَعُ مِن حُصُولِهِ فَإنَّهُ لا يَسْعى في تَحْصِيلِ ذَلِكَ المانِعِ ؟ . والجَوابُ: أمّا مَذْهَبُنا فَظاهِرٌ في هَذا البابِ، وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَلَهم قَوْلانِ: قالَ الجُبّائِيُّ: عَلِمَ اللَّهُ تَعالى أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ وسْوَسَةِ إبْلِيسَ يَكْفُرُونَ بِتَقْدِيرِ أنْ لا يُوجَدَ إبْلِيسُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في وُجُودِهِ (p-٩)مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ، وقالَ أبُو هاشِمٍ: لا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ مِن وُجُودِهِ مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ، إلّا أنَّهُ تَعالى أبْقاهُ تَشْدِيدًا لِلتَّكْلِيفِ عَلى الخَلْقِ لِيَسْتَحِقُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّشْدِيدِ مَزِيدَ الثَّوابِ، وهَذانَ الوَجْهانِ قَدْ ذَكَرْناهُما في سُورَةِ الأعْرافِ والحِجْرِ، وبالَغْنا في الكَشْفِ عَنْهُما، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب