الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِن قَرْيَةٍ إلّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ أوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذَلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: ٥٧] بَيَّنَ أنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مَعَ أهْلِها فَلا بُدَّ وأنْ يَرْجِعَ حالُها إلى أحَدِ أمْرَيْنِ: إمّا الإهْلاكَ وإمّا التَّعْذِيبَ قالَ مُقاتِلٌ: أمّا الصّالِحَةُ فَبِالمَوْتِ، وأمّا الطّالِحَةُ فَبِالعَذابِ، وقِيلَ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِن قَرْيَةٍ﴾ قُرى الكُفّارِ، ولا بُدَّ أنْ تَكُونَ عاقِبَتُها أحَدَ أمْرَيْنِ: إمّا الِاسْتِئْصالُ بِالكُلِّيَّةِ وهو المُرادُ مِنَ الإهْلاكِ أوْ بِعَذابٍ شَدِيدٍ دُونَ ذَلِكَ مِن قَتْلِ كُبَرائِهِمْ وتَسْلِيطِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِالسَّبْيِ واغْتِنامِ الأمْوالِ وأخْذِ الجِزْيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذا الحُكْمَ حُكْمٌ مَجْزُومٌ بِهِ واقِعٌ فَقالَ: ﴿كانَ ذَلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ ﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ ونُخَوِّفُهم فَما يَزِيدُهم إلّا طُغْيانًا كَبِيرًا﴾ .(p-١٨٧)
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلى فَسادِ قَوْلِ المُشْرِكِينَ وأتْبَعَهُ بِالوَعِيدِ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَسْألَةِ النُّبُوَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ اقْتَرَحُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إظْهارَ مُعْجِزاتٍ عَظِيمَةٍ قاهِرَةٍ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥] وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ ما طَلَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ القَوْمَ قالُوا: إنَّكَ تَزْعُمُ أنَّهُ كانَ قَبْلَكَ أنْبِياءُ فَمِنهم: مَن سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ ومِنهم مَن كانَ يُحْيِي المَوْتى فَأْتِنا بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ المُعْجِزاتِ. فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ﴾ وفي تَفْسِيرِ هَذا الجَوابِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: المَعْنى أنَّهُ تَعالى لَوْ أظْهَرَ تِلْكَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةَ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِها بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلى كُفْرِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ، لَكِنَّ إنْزالَ عَذابِ الِاسْتِئْصالِ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُ جائِزٍ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلَمُ أنَّ فِيهِمْ مَن سَيُؤْمِنُ أوْ يُؤْمِنُ أوْلادُهم، فَلِهَذا السَّبَبِ ما أجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى إلى مَطْلُوبِهِمْ وما أظْهَرَ تِلْكَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةَ. رَوى ابْنُ عَبّاسٍ «أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سَألُوا الرَّسُولَ ﷺ أنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفا ذَهَبًا وأنْ يُزِيلَ لَهُمُ الجِبالَ حَتّى يَزْرَعُوا تِلْكَ الأراضِيَ، فَطَلَبَ الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَقالَ اللَّهُ تَعالى: إنْ شِئْتَ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أنَّهم إنْ كَفَرُوا أهْلَكْتُهم، فَقالَ الرَّسُولُ ﷺ: ”لا أُرِيدُ ذَلِكَ بَلْ تَتَأنّى بِهِمْ“ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» .
الوَجْهُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ هَذا الجَوابِ أنّا لا نُظْهِرُ هَذِهِ المُعْجِزاتِ لِأنَّ آباءَكُمُ الَّذِينَ رَأوْها لَمْ يُؤْمِنُوا بِها وأنْتُمْ مُقَلِّدُونَ لَهم، فَلَوْ رَأيْتُمُوها أنْتُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِها أيْضًا.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الأوَّلِينَ شاهَدُوا هَذِهِ المُعْجِزاتِ وكَذَّبُوا بِها، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنكم أيْضًا أنَّكم لَوْ شاهَدْتُمُوها لَكَذَّبْتُمْ فَكانَ إظْهارُها عَبَثًا، والعَبَثُ لا يَفْعَلُهُ الحَكِيمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ:
البَحْثُ الأوَّلُ المَعْنى أنَّ الآيَةَ الَّتِي التَمَسُوها هي مِثْلُ آيَةِ ثَمُودَ وقَدْ آتَيْناها ثَمُودَ واضِحَةً بَيِّنَةً ثُمَّ كَفَرُوا بِها فاسْتَحَقُّوا عَذابَ الِاسْتِئْصالِ فَكَيْفَ يَتَمَنّاها هَؤُلاءِ عَلى سَبِيلِ الِاقْتِراحِ والتَّحَكُّمِ عَلى اللَّهِ تَعالى.
البَحْثُ الثّانِي قَوْلُهُ تَعالى ﴿مُبْصِرَةً﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ ”مُبْصِرَةً“ أيْ: مُضِيئَةً قالَ تَعالى ﴿والنَّهارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: ٦٧] أيْ: مُضِيئًا.
والثّانِي: ”مُبْصِرَةً“ أيْ: ذاتَ إبْصارٍ أيْ: فِيها إبْصارٌ مَن تَأمَّلَها يُبْصِرُ بِها رُشْدَهُ ويَسْتَدِلُّ بِها عَلى صِدْقِ ذَلِكَ الرَّسُولِ.
البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ ﴿فَظَلَمُوا بِها﴾ أيْ: ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِتَكْذِيبِهِمْ بِها وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ ”ظَلَمُوا بِها“ أيْ: جَحَدُوا بِأنَّها مِنَ اللَّهِ تَعالى.
ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ قِيلَ لا آيَةَ إلّا وتَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ بِها عِنْدَ التَّكْذِيبِ إمّا مِنَ العَذابِ المُعَجَّلِ أوْ مِن عَذابِ الآخِرَةِ
فَإنْ قِيلَ المَقْصُودُ الأعْظَمُ مِن إظْهارِ الآياتِ أنْ يُسْتَدَلَّ بِها عَلى صِدْقِ المُدَّعِي فَكَيْفَ حَصَرَ المَقْصُودَ مِن إظْهارِها في التَّخْوِيفِ.
قُلْنا المَقْصُودُ أنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إذا أظْهَرَ الآيَةَ فَإذا سَمِعَ الخَلْقُ أنَّهُ أظْهَرَ آيَةً فَهم لا يَعْلَمُونَ أنَّ تِلْكَ (p-١٨٨)الآيَةَ مُعْجِزَةٌ أوْ مَخُوفَةٌ إلّا إنَّهم يُجَوِّزُونَ كَوْنَها مُعْجِزَةً وبِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ مُعْجِزَةً فَلَوْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِيها ولَمْ يَسْتَدِلُّوا بِها عَلى الصِّدْقِ لاسْتَحَقُّوا العِقابَ الشَّدِيدَ فَهَذا هو الخَوْفُ الَّذِي يَحْمِلُهم عَلى التَّفَكُّرِ والتَّأمُّلِ في تِلْكَ المُعْجِزاتِ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ لَمّا طالَبُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ، وأجابَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّ إظْهارَها لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ صارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجُرْأةِ أُولَئِكَ الكُفّارِ بِالطَّعْنِ فِيهِ وأنْ يَقُولُوا لَهُ: لَوْ كُنْتَ رَسُولًا حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى لَأتَيْتَ بِهَذِهِ المُعْجِزاتِ الَّتِي اقْتَرَحْناها مِنكَ، كَما أتى بِها مُوسى وغَيْرُهُ مِنَ الأنْبِياءِ، فَعِنْدَ هَذا قَوّى اللَّهُ قَلَبَهُ وبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ تَعالى يَنْصُرُهُ ويُؤَيِّدُهُ فَقالَ: ﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: المَعْنى أنَّ حِكْمَتَهُ وقُدْرَتَهُ مُحِيطَةٌ بِالنّاسِ فَهم في قَبْضَتِهِ وقُدْرَتِهِ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَهم لا يَقْدِرُونَ عَلى أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ إلّا بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ، والمَقْصُودُ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لَهُ: نَنْصُرُكَ ونُقَوِّيكَ حَتّى تُبَلِّغَ رِسالَتَنا وتُظْهِرَ دِينَنا. قالَ الحَسَنُ: حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ أنْ يَقْتُلُوهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧] .
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالنّاسِ أهْلُ مَكَّةَ، وإحاطَةُ اللَّهِ بِهِمْ هو أنَّهُ تَعالى يَفْتَحُها لِلْمُؤْمِنِينَ فَكانَ المَعْنى: وإذْ بَشَّرْناكَ بِأنَّ اللَّهَ أحاطَ بِأهْلِ مَكَّةَ بِمَعْنى أنَّهُ يَغْلِبُهم ويَقْهَرُهم ويُظْهِرُ دَوْلَتَكَ عَلَيْهِمْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] وقالَ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أحاطَ بِالنّاسِ﴾ لَمّا كانَ كُلُّ ما يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْ وُقُوعِهِ فَهو واجِبُ الوُقُوعِ، فَكانَ مِن هَذا الِاعْتِبارِ كالواقِعِ فَلا جَرَمَ قالَ: ﴿أحاطَ بِالنّاسِ﴾ ورُوِيَ أنَّهُ «لَمّا تَزاحَفَ الفَرِيقانِ يَوْمَ بَدْرٍ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ في العَرِيشِ مَعَ أبِي بَكْرٍ كانَ يَدْعُو ويَقُولُ: ”اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ عَهْدَكَ ووَعْدَكَ لِي“ ثُمَّ خَرَجَ، وعَلَيْهِ الدِّرْعُ يُحَرِّضُ النّاسَ ويَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ»﴾ . [القمر: ٤٥] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ وفي هَذِهِ الرُّؤْيا أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ أرى مُحَمَّدًا في المَنامِ مَصارِعَ كَفّارِ قُرَيْشٍ فَحِينَ ورَدَ ماءَ بَدْرٍ قالَ: ”«واللَّهِ كَأنِّي أنْظُرُ إلى مَصارِعِ القَوْمِ“ ثُمَّ أخَذَ يَقُولُ: ”هَذا مَصْرَعُ فُلانٍ هَذا مَصْرَعُ فُلانٍ“» فَلَمّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ جَعَلُوا رُؤْياهُ سُخْرِيَةً، وكانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِما وُعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ .
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ رُؤْياهُ الَّتِي رَآها أنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وأخْبَرَ بِذَلِكَ أصْحابَهُ، فَلَمّا مُنِعَ عَنِ البَيْتِ الحَرامِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ كانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِبَعْضِ القَوْمِ، وقالَ عُمَرُ لِأبِي بَكْرٍ ألَيْسَ قَدْ أخْبَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنّا نَدْخُلُ البَيْتَ ونَطُوفُ بِهِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ إنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أنّا نَفْعَلُ ذَلِكَ في هَذِهِ السَّنَةِ فَسَنَفْعَلُ ذَلِكَ في سَنَةٍ أُخْرى، فَلَمّا جاءَ العامُ المُقْبِلُ دَخَلَها، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ﴾ [الفتح: ٢٧] اعْتَرَضُوا عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ فَقالُوا: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وهاتانِ الواقِعَتانِ مَدَنِيَّتانِ، وهَذا السُّؤالُ ضَعِيفٌ لِأنَّ هاتَيْنِ الواقِعَتَيْنِ مَدَنِيَّتانِ أمّا رُؤْيَتُهُما في المَنامِ فَلا يَبْعُدُ حُصُولُها في مَكَّةَ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ «رَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلى مِنبَرِهِ نَزْوَ القِرَدَةِ فَساءَهُ ذَلِكَ»، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطاءٍ، والإشْكالُ المَذْكُورُ عائِدٌ فِيهِ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ وما كانَ (p-١٨٩)لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ مِنبَرٌ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَرى بِمَكَّةَ أنَّ لَهُ بِالمَدِينَةِ مِنبَرًا يَتَداوَلُهُ بَنُو أُمَيَّةَ.
والقَوْلُ الرّابِعُ: وهو الأصَحُّ وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ بِها ما أراهُ اللَّهُ تَعالى لَيْلَةَ الإسْراءِ، واخْتَلَفُوا في مَعْنى هَذِهِ الرُّؤْيا فَقالَ الأكْثَرُونَ: لا فَرْقَ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ والرُّؤْيا في اللُّغَةِ، يُقالُ رَأيْتُ بِعَيْنِي رُؤْيَةً ورُؤْيا، وقالَ الأقَلُّونَ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قِصَّةَ الإسْراءِ إنَّما حَصَلَتْ في المَنامِ، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ باطِلٌ عَلى ما قَرَّرْناهُ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا ذَكَرَ لَهم قِصَّةَ الإسْراءِ كَذَّبُوهُ وكَفَرَ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ كانَ آمَنَ بِهِ وازْدادَ المُخْلِصُونَ إيمانًا فَلِهَذا السَّبَبِ كانَ امْتِحانًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ﴾ وهَذا عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ: وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ وقِيلَ المَعْنى: والشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ كَذَلِكَ. واخْتَلَفُوا في هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فالأكْثَرُونَ قالُوا: إنَّها شَجَرَةُ الزَّقُّومِ المَذْكُورَةُ في القُرْآنِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ﴾ ﴿طَعامُ الأثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٣] وكانَتْ هَذِهِ الفِتْنَةُ في ذِكْرِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ أبا جَهْلٍ قالَ: زَعَمَ صاحِبُكم بِأنَّ نارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الحَجَرَ حَيْثُ قالَ: ﴿وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [البقرة: ٢٤] ثُمَّ يَقُولُ: بِأنَّ في النّارِ شَجَرًا والنّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ تُولَدُ فِيها الشَّجَرُ.
والثّانِي: قالَ ابْنُ الزِّبَعْرى: ما نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إلّا التَّمْرَ والزُّبْدَ فَتَزَقَّمُوا مِنهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى حِينَ عَجِبُوا أنْ يَكُونَ في النّارِ شَجَرٌ: ﴿إنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ﴾ [الصافات: ٦٣] الآياتِ.
فَإنْ قِيلَ: لَيْسَ في القُرْآنِ لَعْنُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.
قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: المُرادُ لَعْنُ الكُفّارِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَها.
الثّانِي: العَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ طَعامٍ مَكْرُوهٍ ضارٍّ إنَّهُ مَلْعُونٌ.
والثّالِثُ: أنَّ اللَّعْنَ في أصْلِ اللُّغَةِ هو التَّبْعِيدُ فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ مُبْعَدَةً عَنْ جَمِيعِ صِفاتِ الخَيْرِ سُمِّيَتْ مَلْعُونَةً.
القَوْلُ الثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: الشَّجَرَةُ بَنُو أُمَيَّةَ يَعْنِي الحَكَمَ بْنَ أبِي العاصِ، قالَ: «ورَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في المَنامِ أنَّ ولَدَ مَرْوانَ يَتَداوَلُونَ مِنبَرَهُ فَقَصَّ رُؤْياهُ عَلى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وقَدْ خَلا في بَيْتِهِ مَعَهُما فَلَمّا تَفَرَّقُوا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَكَمَ يُخْبِرُ بِرُؤْيا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، واتَّهَمَ عُمَرَ في إفْشاءِ سَرِّهِ، ثُمَّ ظَهَرَ أنَّ الحَكَمَ كانَ يَتَسَمَّعُ إلَيْهِمْ فَنَفاهُ رَسُولُ اللَّهِ» ﷺ .
قالَ الواحِدِيُّ: هَذِهِ القِصَّةُ كانَتْ بِالمَدِينَةِ، والسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَيَبْعُدُ هَذا التَّفْسِيرُ إلّا أنْ يُقالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قَوْلُ عائِشَةَ لِمَرْوانَ: لَعَنَ اللَّهُ أباكَ وأنْتَ في صُلْبِهِ فَأنْتَ بَعْضُ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ الشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ هي اليَهُودُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المائدة: ٧٨] .
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّ القَوْمَ لَمّا طَلَبُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الإتْيانَ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ فَأجابَ أنَّهُ لا مَصْلَحَةَ في إظْهارِها لِأنَّها لَوْ ظَهَرَتْ ولَمْ تُؤْمِنُوا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَيْكم عَذابَ الِاسْتِئْصالِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ وأيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذا الكَلامِ بِذِكْرِ الرُّؤْيا الَّتِي صارَتْ فِتْنَةً لِلنّاسِ وبِذِكْرِ الشَّجَرَةِ الَّتِي صارَتْ فِتْنَةً لِلنّاسِ. (p-١٩٠)
قُلْنا: التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهم لَمّا طَلَبُوا هَذِهِ المُعْجِزاتِ ثُمَّ إنَّكَ لَمْ تُظْهِرْها صارَ عَدَمُ ظُهُورِها شُبْهَةً لَهم في أنَّكَ لَسْتَ بِصادِقٍ في دَعْوى النُّبُوَّةِ إلّا أنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لا يُوهِنُ أمْرَكَ ولا يَصِيرُ سَبَبًا لِضِعْفِ حالِكَ، ألا تَرى أنَّ ذِكْرَ تِلْكَ الرُّؤْيا صارَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ العَظِيمَةِ في القُلُوبِ ثُمَّ إنَّ قُوَّةَ تِلْكَ الشُّبُهاتِ ما أوْجَبَتْ ضَعْفًا في أمْرِكَ ولا فُتُورًا في اجْتِماعِ المُحِقِّينَ عَلَيْكَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الحاصِلَةُ بِسَبَبِ عَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ المُعْجِزاتِ لا تُوجِبُ فُتُورًا في حالِكَ، ولا ضَعْفًا في أمْرِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ونُخَوِّفُهم فَما يَزِيدُهم إلّا طُغْيانًا كَبِيرًا﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ ذِكْرُ سَبَبٍ آخَرَ في أنَّهُ تَعالى ما أظْهَرَ المُعْجِزاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوها، وذَلِكَ لِأنَّ هَؤُلاءِ خُوِّفُوا بِمَخاوِفِ الدُّنْيا والآخِرَةِ وبِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَما زادَهم هَذا التَّخْوِيفُ إلّا طُغْيانًا كَبِيرًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وتَمادِيهِمْ في الغَيِّ والطُّغْيانِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَبِتَقْدِيرِ أنْ يُظْهِرَ اللَّهُ لَهم تِلْكَ المُعْجِزاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوها لَمْ يَنْتَفِعُوا بِها ولا يَزْدادُونَ إلّا تَمادِيًا في الجَهْلِ والعِنادِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، وجَبَ في الحِكْمَةِ أنْ لا يُظْهِرَ اللَّهُ لَهم ما اقْتَرَحُوهُ مِنَ الآياتِ والمُعْجِزاتِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":58,"ayahs":["وَإِن مِّن قَرۡیَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۚ كَانَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَسۡطُورࣰا","وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا","وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا طُغۡیَـٰنࣰا كَبِیرࣰا","وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِینࣰا"],"ayah":"وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق