الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكم ولا تَحْوِيلًا﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ الرَّدُّ عَلى المُشْرِكِينَ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَقُولُونَ لَيْسَ لَنا أهْلِيَّةَ أنْ نَشْتَغِلَ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى فَنَحْنُ نَعْبُدُ بَعْضَ المُقَرَّبِينَ مِن عِبادِ اللَّهِ وهُمُ المَلائِكَةُ، ثُمَّ إنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِذَلِكَ المَلَكِ الَّذِي عَبَدُوهُ تِمْثالًا وصُورَةً واشْتَغَلُوا بِعِبادَتِهِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ، واللَّهُ تَعالى احْتَجَّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ ولَيْسَ المُرادُ الأصْنامَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَتِهِمْ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ﴾ وابْتِغاءُ الوَسِيلَةِ إلى اللَّهِ تَعالى لا يَلِيقُ بِالأصْنامِ البَتَّةَ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ قَوْمًا عَبَدُوا المَلائِكَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ، وقِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في الَّذِينَ عَبَدُوا المَسِيحَ وعُزَيْرًا، وقِيلَ: إنَّ قَوْمًا عَبَدُوا نَفَرًا مِنَ الجِنِّ فَأسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ، وبَقِيَ أُولَئِكَ النّاسُ مُتَمَسِّكِينَ (p-١٨٥)بِعِبادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ مَوْضِعٍ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ورَدَ فِيهِ لَفْظُ (زَعَمَ) فَهو كَذَبَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى احْتَجَّ عَلى فَسادِ مَذْهَبِ هَؤُلاءِ أنَّ الإلَهَ المَعْبُودَ هو الَّذِي يَقْدِرُ عَلى إزالَةِ الضَّرَرِ وإيصالِ المَنفَعَةِ، وهَذِهِ الأشْياءُ الَّتِي يَعْبُدُونَها وهي المَلائِكَةُ والجِنُّ والمَسِيحُ وعُزَيْرٌ لا يَقْدِرُونَ عَلى كَشْفِ الضُّرِّ ولا عَلى تَحْصِيلِ النَّفْعِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّها لَيْسَتْ آلِهَةً. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: هَذا الدَّلِيلُ إنَّما يَتِمُّ إذا دَلَّلْتُمْ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ لا قُدْرَةَ لَها عَلى كَشْفِ الضُّرِّ ولا عَلى تَحْصِيلِ النَّفْعِ فَما الدَّلِيلُ عَلى أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ حَتّى يَتِمَّ دَلِيلُكم ؟ فَإنْ قُلْتُمْ: لِأنّا نَرى أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ كانُوا يَتَضَرَّعُونَ إلَيْها فَلا تَحْصُلُ الإجابَةُ. قُلْنا مُعارَضَةً لِذَلِكَ: قَدْ نَرى أيْضًا أنَّ المُسْلِمِينَ يَتَضَرَّعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى فَلا تَحْصُلُ الإجابَةُ، والمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: إنَّ القَدْرَ الحاصِلَ مِن كَشْفِ الضُّرِّ وتَحْصِيلِ النَّفْعِ إنَّما يَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا مِنَ المَلائِكَةِ، وأُولَئِكَ الكُفّارُ يَقُولُونَ إنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ المَلائِكَةِ لا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالدَّلِيلُ غَيْرُ تامٍّ. والجَوابُ: أنَّ الدَّلِيلَ تامٌّ كامِلٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الكُفّارَ كانُوا مُقِرِّينَ بِأنَّ المَلائِكَةَ عِبادُ اللَّهِ، وخالِقُ المَلائِكَةِ، وخالِقُ العالَمِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أقْدَرَ مِنَ المَلائِكَةِ، وأقْوى مِنهم، وأكْمَلَ حالًا مِنهم. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: كَمالُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وكَمالُ قُدْرَةِ المَلائِكَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ولا مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، بَلِ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ أنَّ قُدْرَتَهم بِالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى قَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى أوْلى مِنَ الِاشْتِغالِ بِعِبادَةِ المَلائِكَةِ، لِأنَّ كَوْنَ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبادَةِ مَعْلُومٌ، وكَوْنَ المَلائِكَةِ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ، والأخْذُ بِالمَعْلُومِ أوْلى، وأمّا أصْحابُنا المُتَكَلِّمُونَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فَلَهم في هَذا البابِ طَرِيقَةٌ أُخْرى وهو أنَّهم يُقِيمُونَ بِالحُجَّةِ العَقْلِيَّةِ عَلى أنَّهُ لا مُوجِدَ إلّا اللَّهُ تَعالى ولا مُخْرِجَ لِشَيْءٍ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ إلّا اللَّهُ تَعالى. وإذا ثَبَتَ هَذا ثَبَتَ أنَّهُ لا ضارَّ ولا نافِعَ إلّا اللَّهُ تَعالى، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّهُ لا مَعْبُودَ إلّا اللَّهُ تَعالى، وهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لا تَتِمُّ لِلْمُعْتَزِلَةِ لِأنَّهم لَمّا جَوَّزُوا كَوْنَ العَبْدِ مُوجِدًا لِأفْعالِهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِمُ الِاسْتِدْلالُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ لا قُدْرَةَ لَها عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ وخَلْقِ الجِسْمِ. وإذا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ لَهم هَذا الدَّلِيلُ فَهَذا هو ذِكْرُ الدَّلِيلِ القاطِعِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ: ﴿فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكم ولا تَحْوِيلًا﴾ والتَّحْوِيلُ عِبارَةٌ عَنِ النَّقْلِ مِن حالٍ إلى حالٍ ومَكانٍ إلى مَكانٍ يُقالُ: حَوَّلَهُ فَتَحَوَّلَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ قَوْلُهُ: ﴿يَدْعُونَ﴾ فِعْلُ الآدَمِيِّينَ العابِدِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ فِعْلُ المَعْبُودِينَ ومَعْناهُ أُولَئِكَ المَعْبُودِينَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ، فَإنَّهُ لا نِزاعَ أنَّ المَلائِكَةَ يَرْجِعُونَ إلى اللَّهِ في طَلَبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانُوا مَوْصُوفِينَ بِالعَجْزِ والحاجَةِ، واللَّهُ تَعالى أغْنى الأغْنِياءِ فَكانَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَتِهِ أوْلى. فَإنْ قالُوا: لا نُسَلِّمُ أنَّ المَلائِكَةَ مُحْتاجُونَ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ وخائِفُونَ مِن عَذابِهِ، فَنَقُولُ: هَؤُلاءِ المَلائِكَةُ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّها واجِبَةُ الوُجُودِ لِذَواتِها، أوْ يُقالَ: مُمْكِنَةُ الوُجُودِ لِذَواتِها، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ جَمِيعَ الكُفّارِ كانُوا (p-١٨٦)مُعْتَرِفِينَ بِأنَّ المَلائِكَةَ عِبادُ اللَّهِ ومُحْتاجُونَ إلَيْهِ، وأمّا الثّانِي فَهو يُوجِبُ القَوْلَ بِكَوْنِ المَلائِكَةِ مُحْتاجِينَ في ذَواتِها وفي كَمالاتِها إلى اللَّهِ تَعالى، فَكانَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَةِ اللَّهِ أوْلى مِنَ الِاشْتِغالِ بِعِبادَةِ المَلائِكَةِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ هُمُ الأنْبِياءُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٥٥] وتَعَلُّقُ هَذا الكَلامِ بِما سَبَقَ هو أنَّ الَّذِينَ عَظُمَتْ مَنزِلَتُهم وهُمُ الأنْبِياءُ لا يَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ تَعالى ولا يَبْتَغُونَ الوَسِيلَةَ إلّا إلَيْهِ، فَأنْتُمْ بِالِاقْتِداءِ بِهِمْ أحَقُّ فَلا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعالى، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ عَلى صِحَّتِهِ بِأنْ قالُوا: المَلائِكَةُ لا يَعْصُونَ اللَّهَ فَلا يَخافُونَ عَذابَهُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا غَيْرُ لائِقٍ بِالمَلائِكَةِ وإنَّما هو لائِقٌ بِالأنْبِياءِ. قُلْنا: المَلائِكَةُ يَخافُونَ عَذابَ اللَّهِ لَوْ أقْدَمُوا عَلى الذَّنْبِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] . أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ فالمُرادُ أنَّ مِن حَقِّهِ أنْ يُحْذَرَ، فَإنْ لَمْ يَحْذَرْهُ بَعْضُ النّاسِ لِجَهْلِهِ فَهو لا يَخْرُجُ مِن كَوْنِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ الحَذَرُ عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب