الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا أئِذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهم ويَقُولُونَ مَتى هو قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ ﴿يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا تَكَلَّمَ أوَّلًا في الإلَهِيّاتِ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ شُبُهاتِهِمْ في النُّبُوّاتِ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ شُبَهاتِ القَوْمِ في إنْكارِ المَعادِ والبَعْثِ والقِيامَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا كَثِيرًا أنَّ مَدارَ القُرْآنِ عَلى المَسائِلِ الأرْبَعَةِ وهي: الإلَهِيّاتُ والنُّبُوّاتُ والمَعادُ والقَضاءُ والقَدَرُ، وأيْضًا أنَّ القَوْمَ وصَفُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِكَوْنِهِ مَسْحُورًا فاسِدَ العَقْلِ، فَذَكَرُوا مِن جُمْلَةِ ما يَدُلُّ عَلى فَسادِ عَقْلِهِ أنَّهُ يَدَّعِي أنَّ الإنْسانَ بَعْدَما يَصِيرُ عِظامًا ورُفاتًا فَإنَّهُ يَعُودُ حَيًّا عاقِلًا كَما كانَ، فَذَكَرُوا هَذا الكَلامَ رِوايَةً عَنْهُ لِتَقْرِيرِ كَوْنِهِ مُخْتَلَّ العَقْلِ. قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّفْتُ كَسْرُ الشَّيْءِ بِيَدِكَ، تَقُولُ: رَفَتُّهُ أرْفِتُهُ بِالكَسْرِ كَما يُرْفَتُ المَدَرُ والعَظْمُ البالِي، والرُّفاتُ الأجْزاءُ المُتَفَتِّتَةُ مِن كُلِّ شَيْءٍ يُكْسَرُ. يُقالُ: رَفَتَ عِظامَ الجَزُورِ رَفْتًا إذا كَسَرَها، ويُقالُ لِلتِّينِ: الرُّفَتُ لِأنَّهُ دُقاقُ الزَّرْعِ. قالَ الأخْفَشُ: رَفَتَ رَفْتًا، فَهو مَرْفُوتٌ نَحْوَ حَطَمَ حَطْمًا فَهو مَحْطُومٌ والرُّفاتُ والحُطامُ الِاسْمُ، كالجُذاذِ والرُّضاضِ والفُتاتِ، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ. أمّا تَقْرِيرُ شُبْهَةِ القَوْمِ: فَهي أنَّ الإنْسانَ إذا ماتَ جَفَّتْ أعْضاؤُهُ وتَناثَرَتْ وتَفَرَّقَتْ في حَوالَيِ العالَمِ فاخْتَلَطَ بِتِلْكَ الأجْزاءِ سائِرُ أجْزاءِ العالَمِ. أمّا الأجْزاءُ المائِيَّةُ في البَدَنِ فَتَخْتَلِطُ بِمِياهِ العالَمِ، وأمّا الأجْزاءُ التُّرابِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِتُرابِ العالَمِ، وأمّا الأجْزاءُ الهَوائِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِهَواءِ العالَمِ، وأمّا الأجْزاءُ النّارِيَّةُ فَتَخْتَلِطُ بِنارِ العالَمِ وإذا صارَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ اجْتِماعُها بِأعْيانِها مَرَّةً أُخْرى. وكَيْفَ يُعْقَلُ عَوْدُ الحَياةِ (p-١٨٠)إلَيْها بِأعْيانِها مَرَّةً أُخْرى ! فَهَذا هو تَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ. والجَوابُ عَنْها: أنَّ هَذا الإشْكالَ لا يَتِمُّ إلّا بِالقَدْحِ في كَمالِ عِلْمِ اللَّهِ وفي كَمالِ قُدْرَتِهِ. أمّا إذا سَلَّمْنا كَوْنَهُ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ فَحِينَئِذٍ هَذِهِ الأجْزاءُ وإنِ اخْتَلَطَتْ بِأجْزاءِ العالَمِ إلّا أنَّها مُتَمايِزَةٌ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى ولَمّا سَلَّمْنا كَوْنَهُ تَعالى قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ كانَ قادِرًا عَلى إعادَةِ التَّأْلِيفِ والتَّرْكِيبِ والحَياةِ والعَقْلِ إلى تِلْكَ الأجْزاءِ بِأعْيانِها، فَثَبَتَ أنّا مَتى سَلَّمْنا كَمالَ عِلْمِ اللَّهِ وكَمالَ قُدْرَتِهِ زالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِالكُلِّيَّةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ فالمَعْنى أنَّ القَوْمَ اسْتَبْعَدُوا أنْ يَرُدَّهم إلى حالِ الحَياةِ بَعْدَ أنْ صارُوا عِظامًا ورُفاتًا. وهي وإنْ كانَتْ صِفَةً مُنافِيَةً لِقَبُولِ الحَياةِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ لَكِنْ قَدَّرُوا انْتِهاءَ هَذِهِ الأجْسامِ بَعْدَ المَوْتِ إلى صِفَةٍ أُخْرى أشَدَّ مُنافاةً لِقَبُولِ الحَياةِ مِن كَوْنِها عِظامًا ورُفاتًا مِثْلَ أنْ تَصِيرَ حِجارَةً أوْ حَدِيدًا، فَإنَّ المُنافاةَ بَيْنَ الحَجَرِيَّةِ والحَدِيدِيَّةِ وبَيْنَ قَبُولِ الحَياةِ أشَدُّ مِنَ المُنافاةِ بَيْنَ العَظْمِيَّةِ وبَيْنَ قَبُولِ الحَياةِ، وذَلِكَ أنَّ العَظْمَ قَدْ كانَ جُزْأً مِن بَدَنِ الحَيِّ. أمّا الحِجارَةُ والحَدِيدُ فَما كانا البَتَّةَ مَوْصُوفَيْنِ بِالحَياةِ، فَبِتَقْدِيرِ أنْ تَصِيرَ أبْدانُ النّاسِ مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الحَجَرِيَّةِ والحَدِيدِيَّةِ بَعْدَ المَوْتِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يُعِيدُ الحَياةَ إلَيْها ويَجْعَلُها حَيًّا عاقِلًا كَما كانَ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ أنَّ تِلْكَ الأجْسامَ قابِلَةٌ لِلْحَياةِ والعَقْلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذا القَبُولُ حاصِلًا لَما حَصَلَ العَقْلُ والحَياةُ لَها في أوَّلِ الأمْرِ. وإلَهُ العالَمِ عالِمٌ بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ فَلا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ أجْزاءُ بَدَنِ زَيْدٍ المُطِيعِ بِأجْزاءِ بَدَنِ عَمْرٍو العاصِي. وقادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ عَوْدَ الحَياةِ إلى تِلْكَ الأجْزاءِ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ وثَبَتَ أنَّ إلَهَ العالَمِ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، كانَ عَوْدُ الحَياةِ إلى تِلْكَ الأجْزاءِ مُمْكِنًا قَطْعًا، سَواءٌ صارَتْ عِظامًا ورُفاتًا أوْ صارَتْ شَيْئًا أبْعَدَ مِنَ العَظْمِ في قَبُولِ الحَياةِ وهي أنْ تَصِيرَ حِجارَةً أوْ حَدِيدًا، فَهَذا تَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ القاطِعِ، وقَوْلُهُ: ﴿كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ الأمْرَ بَلِ المُرادُ أنَّكم لَوْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ لَما أعْجَزْتُمُ اللَّهَ تَعالى عَنِ الإعادَةِ، وذَلِكَ كَقَوْلِ القائِلِ لِلرَّجُلِ: أتَطْمَعُ فِيَّ وأنا فُلانٌ فَيَقُولُ: كُنْ مَن شِئْتَ كُنِ ابْنَ الخَلِيفَةِ، فَسَأطْلُبُ مِنكَ حَقِّي. فَإنْ قِيلَ: ما المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ﴾ ؟ قُلْنا: المُرادُ أنَّ كَوْنَ الحَجَرِ والحَدِيدِ قابِلًا لِلْحَياةِ أمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ، فَقِيلَ لَهم: فافْرِضُوا شَيْئًا آخَرَ أبْعَدَ عَنْ قَبُولِ الحَياةِ مِنَ الحَجَرِ والحَدِيدِ بِحَيْثُ يَسْتَبْعِدُ عَقْلُكم كَوْنَهُ قابِلًا لِلْحَياةِ وعَلى هَذا الوَجْهِ فَلا حاجَةَ إلى أنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءُ، لِأنَّ المُرادَ أنَّ أبْدانَ النّاسِ وإنِ انْتَهَتْ بَعْدَ مَوْتِها إلى أيِّ صِفَةٍ فُرِضَتْ وأيِّ حالَةٍ قُدِّرَتْ وإنْ كانَتْ في غايَةِ البُعْدِ عَنْ قَبُولِ الحَياةِ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ عَلى إعادَةِ الحَياةِ إلَيْها، وإذا كانَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ هَذا المَعْنى فَلا حاجَةَ إلى تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ مِنهُ المَوْتُ، يَعْنِي لَوْ صارَتْ أبْدانُكم نَفْسَ المَوْتِ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يُعِيدُ الحَياةَ إلَيْها، واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ إنَّما يَحْسُنُ ذِكْرُهُ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ مِثْلَ أنْ يُقالَ: لَوْ كَنْتَ عَيْنَ الحَياةِ فاللَّهُ يُمِيتُكُ ولَوْ كَنْتَ عَيْنَ الغِنى فَإنَّ اللَّهَ يُفْقِرُكَ، فَهَذا قَدْ ذُكِرَ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، أمّا في نَفْسِ الأمْرِ فَهَذا مُحالٌ، لِأنَّ أبْدانَ النّاسِ أجْسامٌ والمَوْتَ عَرَضٌ والجِسْمَ لا يَنْقَلِبُ عَرَضًا ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَنْقَلِبَ عَرَضًا فالمَوْتُ لا يَقْبَلُ الحَياةَ لِأنَّ أحَدَ الضِّدَّيْنِ يَمْتَنِعُ اتِّصافُهُ بِالضِّدِّ الآخَرِ، وقالَ مُجاهِدٌ: يَعْنِي السَّماءَ والأرْضَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ والمَعْنى أنَّهُ لَمّا قالَ لَهم: كُونُوا حِجارَةً أوْ (p-١٨١)حَدِيدًا أوْ شَيْئًا أبْعَدَ في قَبُولِ الحَياةِ مِن هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَإنَّ إعادَةَ الحَياةِ إلَيْهِ مُمْكِنَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا: مَن هَذا الَّذِي يَقْدِرُ عَلى إعادَةِ الحَياةِ إلَيْهِ ؟ قالَ تَعالى قُلْ يا مُحَمَّدُ: الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ؛ يَعْنِي أنَّ القَوْلَ بِصِحَّةِ الإعادَةِ فَرْعٌ عَلى تَسْلِيمِ أنَّ خالِقَ الحَيَواناتِ هو اللَّهُ تَعالى. فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: إنَّ تِلْكَ الأجْسامَ قابِلَةٌ لِلْحَياةِ والعَقْلِ وإلَهُ العالَمِ قادِرٌ لِذاتِهِ عالِمٌ لِذاتِهِ فَلا يَبْطُلُ عِلْمُهُ وقُدْرَتُهُ البَتَّةَ، فالقادِرُ عَلى الِابْتِداءِ يَجِبُ أنْ يَبْقى قادِرًا عَلى الإعادَةِ، وهَذا كَلامٌ تامٌّ وبُرْهانٌ قَوِيٌّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ قالَ الفَرّاءُ يُقالُ: أنَغَضَ فُلانٌ رَأْسَهُ يُنْغِضُهُ إنْغاضًا إذا حَرَّكَهُ إلى فَوْقُ وإلى أسْفَلُ وسُمِّيَ الظَّلِيمُ نَغْضًا لِأنَّهُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ، وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا أُخْبِرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ إنْكارًا لَهُ قَدْ أنْغَضَ رَأْسَهُ فَقَوْلُهُ: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ يَعْنِي يُحَرِّكُونَها عَلى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ والِاسْتِبْعادِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ مَتى هُوَ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا السُّؤالَ فاسِدٌ لِأنَّهم حَكَمُوا بِامْتِناعِ الحَشْرِ والنَّشْرِ بِناءً عَلى الشُّبْهَةِ الَّتِي حَكَيْناها، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ بِالبُرْهانِ الباهِرِ كَوْنَهُ مُمْكِنًا في نَفْسِهِ، فَقَوْلُهم ”مَتى هو“ كَلامٌ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالبَحْثِ الأوَّلِ، فَإنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ كَوْنُهُ مُمْكِنَ الوُجُودِ في نَفْسِهِ وجَبَ الِاعْتِرافُ بِإمْكانِهِ، فَأمّا أنَّهُ مَتى يُوجَدُ فَذاكَ لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ مِن طَرِيقِ العَقْلِ، بَلْ إنَّما يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ فَإنْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ المُعَيَّنِ عُرِفَ وإلّا فَلا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِهِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في القُرْآنِ أنَّهُ لا يُطْلِعُ أحَدًا مِنَ الخَلْقِ عَلى وقْتِهِ المُعَيَّنِ، فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤] وقالَ: ﴿إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ [الأعراف: ١٨٧] وقالَ: ﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها﴾ [طه: ١٥] فَلا جَرَمَ. قالَ تَعالى: ﴿قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ مَعْناهُ أنَّهُ قَرِيبٌ. فَإنْ قالُوا: كَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا وقَدِ انْقَرَضَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ ولَمْ يَظْهَرْ ؟ قُلْنا: إذا كانَ ما مَضى أكْثَرَ مِمّا بَقِيَ كانَ الباقِي قَرِيبًا قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ خِطابٌ مَعَ الكُفّارِ بِدَلِيلِ أنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ كُلُّهُ خِطابٌ مَعَ الكُفّارِ، ثُمَّ نَقُولُ انْتَصَبَ يَوْمًا عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ قَرِيبًا، والمَعْنى عَسى أنْ يَكُونَ البَعْثُ يَوْمَ يَدْعُوكم أيْ: بِالنِّداءِ الَّذِي يُسْمِعُكم وهو النَّفْحَةُ الأخِيرَةُ كَما قالَ: ﴿يَوْمَ يُنادِي المُنادِي مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: ٤١] يُقالُ: إنَّ إسْرافِيلَ يُنادِي أيَّتُها الأجْسادُ البالِيَةُ والعِظامُ النَّخِرَةُ والأجْزاءُ المُتَفَرِّقَةُ عُودِي كَما كُنْتِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وبِإذْنِهِ وتَكْوِينِهِ، وقالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُو الدّاعِي إلى شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ [القمر: ٦] وقَوْلُهُ: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ أيْ: تُجِيبُونَ والِاسْتِجابَةُ مُوافَقَةُ الدّاعِي فِيما دَعا إلَيْهِ وهي الإجابَةُ إلّا أنَّ الِاسْتِجابَةَ تَقْتَضِي طَلَبَ المُوافَقَةِ فَهي أوْكَدُ مِنَ الإجابَةِ، وقَوْلَهُ: ﴿بِحَمْدِهِ﴾ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَخْرُجُونَ مِن قُبُورِهِمْ ويَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ ويَقُولُونَ: سُبْحانَكَ وبِحَمْدِكَ، فَهو قَوْلُهُ: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ وقالَ قَتادَةُ بِمَعْرِفَتِهِ وطاعَتِهِ، وتَوْجِيهُ هَذا القَوْلِ أنَّهم لَمّا أجابُوا بِالتَّسْبِيحِ والتَّحْمِيدِ كانَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مِنهم وطاعَةً ولَكِنَّهم لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ في ذَلِكَ اليَوْمِ. فَلِهَذا قالَ المُفَسِّرُونَ: حَمِدُوا حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ الحَمْدُ، وقالَ أهْلُ المَعانِي: تَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. أيْ: تَسْتَجِيبُونَ حامِدِينَ كَما يُقالُ: جاءَ بِغَضَبِهِ أيْ: جاءَ غَضْبانَ ورَكِبَ الأمِيرُ بِسَيْفِهِ أيْ: وسَيْفُهُ مَعَهُ وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: بِحَمْدِهِ حالٌ مِنهم أيْ: حامِدِينَ، وهَذا مُبالَغَةٌ في انْقِيادِهِمْ لِلْبَعْثِ كَقَوْلِكَ لِمَن تَأْمُرُهُ بِعَمَلٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ سَتَأْتِي بِهِ وأنْتَ حامِدٌ شاكِرٌ، أيْ: (p-١٨٢)سَتَنْتَهِي إلى حالَةٍ تَحْمَدُ اللَّهَ وتَشْكُرُهُ عَلى أنِ اكْتُفِيَ مِنكَ بِذَلِكَ العَمَلِ وهَذا يُذْكَرُ في مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ يُرِيدُ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ الأُولى والثّانِيَةِ فَإنَّهُ يُزالُ عَنْهُمُ العَذابُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في سُورَةِ يس: ﴿مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا﴾ [يس: ٥٢] فَظَنُّهم بِأنَّ هَذا لُبْثٌ قَلِيلٌ عائِدٌ إلى لُبْثِهِمْ فِيما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وقالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ تَقْرِيبُ وقْتِ البَعْثِ فَكَأنَّكَ بِالدُّنْيا لَمْ تَكُنْ وبِالآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ فَهَذا يَرْجِعُ إلى اسْتِقْلالِ مُدَّةِ اللُّبْثِ في الدُّنْيا، وقِيلَ المُرادُ اسْتِقْلالُ لُبْثِهِمْ في عَرْصَةِ القِيامَةِ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَتْ عاقِبَةُ أمْرِهِمُ الدُّخُولَ في النّارِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ في بَرْزَخِ القِيامَةِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الكَلامَ مَعَ الكُفّارِ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ وأمّا قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ فَهو خِطابٌ مَعَ المُؤْمِنِينَ لا مَعَ الكافِرِينَ لِأنَّ هَذا الكَلامَ هو اللّائِقُ بِالمُؤْمِنِينَ لِأنَّهم يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ بِحَمْدِهِ، ويَحْمَدُونَهُ عَلى إحْسانِهِ إلَيْهِمْ، والقَوْلُ الأوَّلُ هو المَشْهُورُ، والثّانِي ظاهِرُ الِاحْتِمالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب