الباحث القرآني

(p-١٧٣) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وما يَزِيدُهم إلّا نُفُورًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهم إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ التَّصْرِيفَ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنْ صَرْفِ الشَّيْءِ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ، نَحْوَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وتَصْرِيفِ الأُمُورِ، هَذا هو الأصْلُ في اللُّغَةِ، ثُمَّ جَعَلَ لَفْظَ التَّصْرِيفِ كِنايَةً عَنِ التَّبْيِينِ، لِأنَّ مَن حاوَلَ بَيانَ شَيْءٍ فَإنَّهُ يَصْرِفُ كَلامَهُ مِن نَوْعٍ إلى نَوْعٍ آخَرَ ومِن مِثالٍ إلى مِثالٍ آخَرَ لِيُكْمِلَ الإيضاحَ ويُقَوِّيَ البَيانَ فَقَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا﴾ أيْ: بَيَّنّا ومَفْعُولُ التَّصْرِيفِ مَحْذُوفٌ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ ضُرُوبًا مِن كُلِّ مَثَلٍ. وثانِيها: أنْ تَكُونَ لَفْظَةُ ”في“ زائِدَةً كَقَوْلِهِ: ﴿وأصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: ١٥] أيْ: أصْلِحْ لِي ذَرِّيَّتِي. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ بِفَتْحِ الذّالِ والكافِ وتَشْدِيدِهِما، والمَعْنى: لِيَتَذَكَّرُوا فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الذّالِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِما، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”لِيَذْكُرُوا“ ساكِنَةَ الذّالِ مَضْمُومَةَ الكافِ، وفي سُورَةِ الفُرْقانِ مِثْلُهُ مِنَ الذِّكْرِ قالَ الواحِدِيُّ: والتَّذَكُّرُ هَهُنا أشْبَهُ مِنَ الذِّكْرِ، لِأنَّ المُرادَ مِنهُ التَّدَبُّرُ والتَّفَكُّرُ، ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ الذِّكْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ النِّسْيانِ. ثُمَّ قالَ: وأمّا قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ فَفِيها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الذِّكْرَ قَدْ جاءَ بِمَعْنى التَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] والمَعْنى: وافْهَمُوا ما فِيهِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى: صَرَّفْنا هَذِهِ الدَّلائِلَ في هَذا القُرْآنِ لِيَذْكُرُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ فَإنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسانِ قَدْ يُؤَدِّي إلى تَأثُّرِ القَلْبِ بِمَعْناهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أنْزَلَ هَذا القُرْآنَ، وإنَّما أكْثَرَ فِيهِ مِن ذِكْرِ الدَّلائِلِ لِأنَّهُ تَعالى أرادَ مِنهم فَهْمَها والإيمانَ بِها، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ أفْعالَهُ لِأغْراضٍ حَكِيمَةٍ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أرادَ الإيمانَ مِنَ الكُلِّ سَواءٌ آمَنُوا أوْ كَفَرُوا. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما يَزِيدُهم إلّا نُفُورًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الأصَمُّ: شَبَّهَهم بِالدَّوابِّ النّافِرَةِ، أيْ: ما ازْدادُوا مِنَ الحَقِّ إلّا بُعْدًا وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا﴾ [التوبة: ١٢٥] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى ما أرادَ الإيمانَ مِنَ الكُفّارِ، وقالُوا: إنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِأنَّ تَصْرِيفَ القُرْآنِ لا يَزِيدُهم إلّا نُفُورًا، فَلَوْ أرادَ الإيمانَ مِنهم لَما أنْزَلَ عَلَيْهِمْ ما يَزِيدُهم نَفْرَةً ونَبْوَةً عَنْهُ، لِأنَّ الحَكِيمَ إذا أرادَ تَحْصِيلَ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ وعَلِمَ أنَّ الفِعْلَ الفُلانِيَّ يَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ النَّفْرَةِ والنَّبْوَةِ عَنْهُ، فَإنَّهُ عِنْدَما يُحاوِلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ المَقْصُودِ يَحْتَرِزُ عَمّا يُوجِبُ مَزِيدَ النَّفْرَةِ والنَّبْوَةِ. فَلَمّا أخْبَرَ تَعالى أنَّ هَذا التَّصْرِيفَ يَزِيدُهم نُفُورًا، عَلِمْنا أنَّهُ ما أرادَ الإيمانَ مِنهم. واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَفْسِيرِهِ وجْهانِ: (p-١٧٤) الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ هو أنّا لَوْ فَرَضْنا وُجُودَ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعالى لَغَلَبَ بَعْضُهم بَعْضًا، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى دَلِيلِ التَّمانُعِ وقَدْ شَرَحْناهُ في سُورَةِ الأنْبِياءِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الكُفّارَ كانُوا يَقُولُونَ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾، فَقالَ اللَّهُ لَوْ كانَتْ هَذِهِ الأصْنامُ كَما تَقُولُونَ مِن أنَّها تُقَرِّبُكم إلى اللَّهِ زُلْفى لَطَلَبَتْ لِأنْفُسِها أيْضًا قُرْبَةً إلى اللَّهِ تَعالى وسَبِيلًا إلَيْهِ ولَطَلَبَتْ لِأنْفُسِها المَراتِبَ العالِيَةَ والدَّرَجاتِ الشَّرِيفَةَ مِنَ الأحْوالِ الرَّفِيعَةِ، فَلَمّا لَمْ تَقْدِرْ أنْ تَتَّخِذَ لِأنْفُسِها سَبِيلًا إلى اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أنْ تُقَرِّبَكم إلى اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”كَما يَقُولُونَ“ و”عَمّا يَقُولُونَ“ و”يُسَبِّحُ“ بِالياءِ في هَذِهِ الثَّلاثَةِ، والمَعْنى كَما يَقُولُ المُشْرِكُونَ مِن إثْباتِ الآلِهَةِ مِن دُونِهِ فَهو مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: ١٢] وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ كُلَّها بِالتّاءِ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ في الأوَّلِ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، وفي الثّانِي والثّالِثِ بِالياءِ عَلى الحِكايَةِ، وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ الأوَّلَيْنِ بِالياءِ، والأخِيرَ بِالتّاءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو الأوَّلَ والأخِيرَ بِالتّاءِ والأوْسَطَ بِالياءِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: لَمّا أقامَ الدَّلِيلَ القاطِعَ عَلى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشُّرَكاءِ. وعَلى أنَّ القَوْلَ بِإثْباتِ الآلِهَةِ قَوْلٌ باطِلٌ، أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى تَنْزِيهِهِ عَنْ هَذا القَوْلِ الباطِلِ فَقالَ: ﴿سُبْحانَهُ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ التَّسْبِيحَ عِبارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وتَعالى﴾ والمُرادُ مِن هَذا التَّعالِي الِارْتِفاعُ وهو العُلُوُّ، وظاهِرٌ أنَّ المُرادَ مِن هَذا التَّعالِي لَيْسَ هو التَّعالِي في المَكانِ والجِهَةِ، لِأنَّ التَّعالِيَ عَنِ الشَّرِيكِ والنَّظِيرِ والنَّقائِصِ والآفاتِ لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ بِالتَّعالِي بِالمَكانِ والجِهَةِ، فَعَلِمْنا أنَّ لَفْظَ التَّعالِي في حَقِّ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُفَسَّرٍ بِالعُلُوِّ بِحَسَبِ المَكانِ والجِهَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: جَعَلَ العُلُوَّ مَصْدَرَ التَّعالِي فَقالَ تَعالى: ﴿عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ وكانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ تَعالى تَعالِيًا كَبِيرًا إلّا أنَّ نَظِيرَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧] . فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في وصْفِ ذَلِكَ العُلُوِّ بِالكَبِيرِ ؟ قُلْنا: لِأنَّ المُنافاةَ بَيْنَ ذاتِهِ وصِفاتِهِ سُبْحانَهُ وبَيْنَ ثُبُوتِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ والشُّرَكاءِ والأضْدادِ والأنْدادِ مُنافاةٌ بَلَغَتْ في القُوَّةِ والكَمالِ إلى حَيْثُ لا تُعْقَلُ الزِّيادَةُ عَلَيْها، لِأنَّ المُنافاةَ بَيْنَ الواجِبِ لِذاتِهِ والمُمْكِنِ لِذاتِهِ، وبَيْنَ القَدِيمِ والمُحْدَثِ، وبَيْنَ الغَنِيِّ والمُحْتاجِ مُنافاةٌ لا تُعْقَلُ الزِّيادَةُ عَلَيْها فَلِهَذا السَّبَبِ وصَفَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ العُلُوَّ بِالكَبِيرِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ الحَيَّ المُكَلَّفَ يُسَبِّحُ لِلَّهِ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: بِالقَوْلِ كَقَوْلِهِ بِاللِّسانِ سُبْحانَ اللَّهِ. والثّانِي: بِدَلالَةِ أحْوالِهِ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى وتَقْدِيسِهِ وعِزَّتِهِ، فَأمّا الَّذِي لا يَكُونُ مُكَلَّفًا مِثْلَ البَهائِمِ، ومَن لا يَكُونُ حَيًّا مِثْلَ الجَماداتِ فَهي إنَّما تُسَبِّحُ لِلَّهِ تَعالى بِالطَّرِيقِ الثّانِي، لِأنَّ التَّسْبِيحَ بِالطَّرِيقِ الأوَّلِ لا يَحْصُلُ إلّا (p-١٧٥)مَعَ الفَهْمِ والعِلْمِ والإدْراكِ والنُّطْقِ وكُلُّ ذَلِكَ في الجَمادِ مُحالٌ، فَلَمْ يَبْقَ حُصُولُ التَّسْبِيحِ في حَقِّهِ إلّا بِالطَّرِيقِ الثّانِي. واعْلَمْ أنّا لَوْ جَوَّزْنا في الجَمادِ أنْ يَكُونَ عالِمًا مُتَكَلِّمًا لَعَجَزْنا عَنِ الِاسْتِدْلالِ بِكَوْنِهِ تَعالى عالِمًا قادِرًا عَلى كَوْنِهِ حَيًّا وحِينَئِذٍ يَفْسَدُ عَلَيْنا بابُ العِلْمِ بِكَوْنِهِ حَيًّا وذَلِكَ كُفْرٌ فَإنَّهُ يُقالُ: إذا جازَ في الجَماداتِ أنْ تَكُونَ عالِمَةً بِذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ وتُسَبِّحُهُ مَعَ أنَّها لَيْسَتْ بِأحْياءٍ فَحِينَئِذٍ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ الشَّيْءِ عالِمًا قادِرًا مُتَكَلِّمًا كَوْنُهُ حَيًّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا قادِرًا كَوْنُهُ حَيًّا وذَلِكَ جَهْلٌ وكُفْرٌ، لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ مَن لَيْسَ بِحَيٍّ لَمْ يَكُنْ عالِمًا قادِرًا مُتَكَلِّمًا، هَذا هو القَوْلُ الَّذِي أطْبَقَ العُلَماءُ المُحَقِّقُونَ عَلَيْهِ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ الجَماداتِ وأنْواعَ النَّباتِ والحَيَوانِ كُلَّها تُسَبِّحُ اللَّهَ تَعالى، واحْتَجُّوا عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأنْ قالُوا: دَلَّ هَذا النَّصُّ عَلى كَوْنِها مُسَبِّحَةً لِلَّهِ تَعالى ولا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذا التَّسْبِيحِ بِكَوْنِها دَلائِلَ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ تَسْبِيحَ هَذِهِ الأشْياءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنا. ودَلالَتُها عَلى وُجُودِ قُدْرَةِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ مَعْلُومٌ، والمَعْلُومُ مُغايِرٌ لِما هو غَيْرُ مَعْلُومٍ فَدَلَّ عَلى أنَّها تُسَبِّحُ اللَّهَ تَعالى وأنَّ تَسْبِيحَها غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ مُغايِرًا لِكَوْنِها دالَّةً عَلى وُجُودِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ. والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّكَ إذا أخَذْتَ تُفّاحَةً واحِدَةً فَتِلْكَ التُّفّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مَن عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأجْزاءِ الَّتِي لا تَتَجَزَّأُ، وكُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ دَلِيلٌ تامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلى وُجُودِ الإلَهِ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ الَّتِي لا تَتَجَزَّأُ صِفاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ والطَّعْمِ واللَّوْنِ والرّائِحَةِ والحَيِّزِ والجِهَةِ، واخْتِصاصُ ذَلِكَ الجَوْهَرِ الفَرْدِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ المُعَيَّنَةِ مِنَ الجائِزاتِ فَلا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاخْتِصاصُ إلّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قادِرٍ حَكِيمٍ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَدْ ظَهَرَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ تِلْكَ التُّفّاحَةِ دَلِيلٌ تامٌّ عَلى وُجُودِ الإلَهِ وكُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفاتِ القائِمَةِ بِذَلِكَ الجُزْءِ الواحِدِ فَهو أيْضًا دَلِيلٌ تامٌّ عَلى وُجُودِ الإلَهِ تَعالى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الأجْزاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وأحْوالُ تِلْكَ الصِّفاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ . والوَجْهُ الثّانِي: هو أنَّ الكُفّارَ وإنْ كانُوا يُقِرُّونَ بِألْسِنَتِهِمْ بِإثْباتِ إلَهِ العالَمِ إلّا أنَّهم ما كانُوا يَتَفَكَّرُونَ في أنْواعِ الدَّلائِلِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: ١٠٥] فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ هَذا المَعْنى. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ القَوْمَ وإنْ كانُوا مُقِرِّينَ بِألْسِنَتِهِمْ بِإثْباتِ إلَهِ العالَمِ إلّا أنَّهم ما كانُوا عالِمِينَ بِكَمالِ قُدْرَتِهِ. ولِذَلِكَ فَإنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا كَوْنَهُ تَعالى قادِرًا عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ فَكانَ المُرادُ ذَلِكَ. وأيْضًا فَإنَّهُ تَعالى قالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ فَهم ما كانُوا عالِمِينَ بِهَذا الدَّلِيلِ فَلَمّا ذُكِرَ هَذا الدَّلِيلُ قالَ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ﴾ فَتَسْبِيحُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذا الدَّلِيلِ وقُوَّتِهِ وأنْتُمْ لا تَفْقَهُونَ هَذا الدَّلِيلَ ولا تَعْرِفُونَهُ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ القَوْمَ كانُوا غافِلِينَ عَنْ أكْثَرِ دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والعَدْلِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ، فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ذَلِكَ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ كَما ذَكَرْناهُ قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فَذِكْرُ الحَلِيمِ (p-١٧٦)والغَفُورِ هَهُنا يَدُلُّ عَلى أنَّ كَوْنَهم بِحَيْثُ لا يَفْقَهُونَ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ جُرْمٌ عَظِيمٌ صَدَرَ عَنْهم وهَذا إنَّما يَكُونُ جُرْمًا إذا كانَ المُرادُ مِن ذَلِكَ التَّسْبِيحِ كَوْنَها دالَّةً عَلى كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتِهِ، ثُمَّ إنَّهم لِغَفْلَتِهِمْ وجَهْلِهِمْ ما عَرَفُوا وجْهَ دَلالَةِ تِلْكَ الدَّلائِلِ. أمّا لَوْ حَمَلْنا هَذا التَّسْبِيحَ عَلى أنَّ هَذِهِ الجَماداتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِأقْوالِها وألْفاظِها لَمْ يَكُنْ عَدَمُ الفِقْهِ لِتِلْكَ التَّسْبِيحاتِ جُرْمًا ولا ذَنْبًا، وإذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جُرْمًا ولا ذَنْبًا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ لائِقًا بِهَذا المَوْضِعِ، فَهَذا وجْهٌ قَوِيٌّ في نُصْرَةِ القَوْلِ الَّذِي اخْتَرْناهُ. واعْلَمْ أنَّ القائِلِينَ بِأنَّ هَذِهِ الجَماداتِ والحَيَواناتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ بِألْفاظِها أضافُوا إلى كُلِّ حَيَوانٍ نَوْعًا آخَرَ مِنَ التَّسْبِيحِ. وقالُوا: إنَّها إذا ذُبِحَتْ لَمْ تُسَبِّحْ مَعَ أنَّهم يَقُولُونَ إنَّ الجَماداتِ تُسَبِّحُ اللَّهَ، فَإذا كانَ كَوْنُهُ جَمادًا لا يَمْنَعُ مِن كَوْنِهِ مُسَبِّحًا، فَكَيْفَ صارَ ذَبْحُ الحَيَوانِ مانِعًا لَهُ مِنَ التَّسْبِيحِ، وقالُوا أيْضًا: إنَّ غُصْنَ الشَّجَرَةِ إذا كُسِرَ لَمْ يُسَبِّحْ، وإذا كانَ كَوْنُهُ جَمادًا لَمْ يَمْنَعْ مِن كَوْنِهِ مُسَبِّحًا فَكَسْرُهُ كَيْفَ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ، فَعُلِمَ أنَّ هَذِهِ الكَلِماتِ ضَعِيفَةٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ﴾ تَصْرِيحٌ بِإضافَةِ التَّسْبِيحِ إلى السَّماواتِ والأرْضِ وإلى المُكَلَّفِينَ الحاصِلِينَ فِيهِنَّ وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ التَّسْبِيحَ المُضافَ إلى الجَماداتِ لَيْسَ إلّا بِمَعْنى الدَّلالَةِ عَلى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى، وإطْلاقُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ عَلى هَذا المَعْنى مَجازٌ، وأمّا التَّسْبِيحُ الصّادِرُ عَنِ المُكَلَّفِينَ وهو قَوْلُهم: سُبْحانَ اللَّهِ، فَهَذا حَقِيقَةٌ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿تُسَبِّحُ﴾ لَفْظًا واحِدًا قَدِ اسْتُعْمِلَ في الحَقِيقَةِ والمَجازِ مَعًا، وأنَّهُ باطِلٌ عَلى ما ثَبَتَ دَلِيلُهُ في أُصُولِ الفِقْهِ، فالأوْلى أنْ يُحْمَلَ هَذا التَّسْبِيحُ عَلى الوَجْهِ المَجازِيِّ في حَقِّ الجَماداتِ لا في حَقِّ العُقَلاءِ لِئَلّا يَلْزَمَ ذَلِكَ المَحْذُورُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب