الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالأشْياءِ الخَمْسَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وحاصِلُها يَرْجِعُ إلى شَيْئَيْنِ: التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، والشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، أتْبَعَها بِذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ أشْياءَ: أوَّلُها: أنَّهُ تَعالى نَهى عَنِ الزِّنا فَقالَ: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا﴾ قالَ القَفّالُ: إذا قِيلَ لِلْإنْسانِ لا تَقْرَبُوا هَذا، فَهَذا آكَدُ مِن أنْ يَقُولَ لَهُ لا تَفْعَلْهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَلَّلَ هَذا النَّهْيَ بِكَوْنِهِ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا. واعْلَمْ أنَّ النّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ تَعالى إذا أمَرَ بِشَيْءٍ أوْ نَهى عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أوْ نَهى عَنْهُ لِوَجْهٍ عائِدٍ إلَيْهِ أمْ لا ؟ فَقالَ القائِلُونَ بِتَحْسِينِ العَقْلِ وتَقْبِيحِهِ: الأمْرُ كَذَلِكَ. وقالَ المُنْكِرُونَ لِتَحْسِينِ العَقْلِ وتَقْبِيحِهِ: لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ. احْتَجَّ القائِلُونَ بِتَحْسِينِ العَقْلِ وتَقْبِيحِهِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ قالُوا: إنَّهُ تَعالى نَهى عَنِ الزِّنا، وعَلَّلَ ذَلِكَ النَّهْيَ بِكَوْنِهِ فاحِشَةً فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ كَوْنُهُ فاحِشَةً عِبارَةً عَنْ كَوْنِهِ مَنهِيًّا عَنْهُ، وإلّا لَزِمَ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وهو مُحالٌ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: كَوْنُهُ فاحِشَةً وصْفٌ حاصِلٌ لَهُ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ زِنًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأشْياءَ تَحْسُنُ وتَقْبُحُ لِوُجُوهٍ عائِدَةٍ إلَيْها في أنْفُسِها، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ نَهْيَ اللَّهِ تَعالى عَنْها مُعَلَّلٌ بِوُقُوعِها في أنْفُسِها عَلى تِلْكَ الوُجُوهِ. وهَذا الِاسْتِدْلالُ قَرِيبٌ، والأوْلى أنْ يُقالَ: إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ في نَفْسِهِ مَصْلَحَةً أوْ مَفْسَدَةً أمْرٌ ثابِتٌ لِذاتِهِ لا بِالشَّرْعِ، فَإنَّ تَناوُلَ الغِذاءِ المُوافِقِ مَصْلَحَةٌ، والضَّرْبَ المُؤْلِمَ مَفْسَدَةٌ، وكَوْنُهُ كَذَلِكَ أمْرٌ ثابِتٌ بِالعَقْلِ لا بِالشَّرْعِ. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: تَكالِيفُ اللَّهِ تَعالى واقِعَةٌ عَلى وفْقِ مَصالِحِ العالَمِ في المَعاشِ والمَعادِ فَهَذا هو الكَلامُ الظّاهِرِيُّ، وفِيهِ مُشْكِلاتٌ هائِلَةٌ ومَباحِثُ عَمِيقَةٌ نَسْألُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِبُلُوغِ الغايَةِ فِيها. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الزِّنا اشْتَمَلَ عَلى أنْواعٍ مِنَ المَفاسِدِ: أوَّلُها: اخْتِلاطُ الأنْسابِ واشْتِباهُها فَلا يَعْرِفُ الإنْسانُ أنَّ الوَلَدَ الَّذِي أتَتْ بِهِ الزّانِيَةُ أهُوَ مِنهُ أوْ مِن غَيْرِهِ، فَلا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ ولا يَسْتَمِرُّ في تَعَهُّدِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ ضَياعَ الأوْلادِ، وذَلِكَ يُوجِبُ انْقِطاعَ النَّسْلِ وخَرابَ العالَمِ. وثانِيها: أنَّهُ إذا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ لِأجْلِهِ يَكُونُ هَذا الرَّجُلُ أوْلى بِهَذِهِ المَرْأةِ مِن غَيْرِهِ لَمْ يَبْقَ في حُصُولِ ذَلِكَ الِاخْتِصاصِ إلّا التَّواثُبُ والتَّقاتُلُ، وذَلِكَ يُفْضِي إلى فَتْحِ بابِ الهَرَجِ والمَرَجِ والمُقاتَلَةِ، وكَمْ سَمِعْنا وُقُوعَ القَتْلِ الذَّرِيعِ بِسَبَبِ إقْدامِ المَرْأةِ الواحِدَةِ عَلى الزِّنا. وثالِثُها: أنَّ المَرْأةَ إذا باشَرَتِ الزِّنا وتَمَرَّنَتْ عَلَيْهِ يَسْتَقْذِرُها كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ وكُلُّ خاطِرٍ مُسْتَقِيمٍ، وحِينَئِذٍ لا تَحْصُلُ الأُلْفَةُ والمَحَبَّةُ ولا يَتِمُّ السَّكَنُ والِازْدِواجُ، ولِذَلِكَ فَإنَّ المَرْأةَ إذا اشْتَهَرَتْ بِالزِّنا تَنْفِرُ عَنْ مُقارَنَتِها طِباعُ أكْثَرِ الخَلْقِ. ورابِعُها: أنَّهُ إذا انْفَتَحَ بابُ الزِّنا فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِرَجُلٍ اخْتِصاصٌ بِامْرَأةٍ، وكُلُّ رَجُلٍ يُمْكِنُهُ التَّواثُبُ عَلى كُلِّ امْرَأةٍ شاءَتْ وأرادَتْ، وحِينَئِذٍ لا يَبْقى بَيْنَ نَوْعِ الإنْسانِ وبَيْنَ سائِرِ البَهائِمِ (p-١٥٩)فَرْقٌ في هَذا البابِ. وخامِسُها: أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ المَرْأةِ مُجَرَّدَ قَضاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ أنْ تَصِيرَ شَرِيكَةً لِلرَّجُلِ في تَرْتِيبِ المَنزِلِ وإعْدادِ مُهِمّاتِهِ مِنَ المَطْعُومِ والمَشْرُوبِ والمَلْبُوسِ، وأنْ تَكُونَ رَبَّةَ البَيْتِ وحافِظَةً لِلْبابِ وأنْ تَكُونَ قائِمَةً بِأُمُورِ الأوْلادِ والعَبِيدِ، وهَذِهِ المُهِمّاتُ لا تَتِمُّ إلّا إذا كانَتْ مَقْصُورَةَ الهِمَّةِ عَلى هَذا الرَّجُلِ الواحِدِ مُنْقَطِعَةَ الطَّمَعِ عَنْ سائِرِ الرِّجالِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَحْرِيمِ الزِّنا وسَدِّ هَذا البابِ بِالكُلِّيَّةِ. وسادِسُها: أنَّ الوَطْءَ يُوجِبُ الذُّلَّ الشَّدِيدَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ أعْظَمَ أنْواعِ الشَّتْمِ عِنْدَ النّاسِ ذِكْرُ ألْفاظِ الوِقاعِ، ولَوْلا أنَّ الوَطْءَ يُوجِبُ الذُّلَّ، وإلّا لَما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، وأيْضًا فَإنَّ جَمِيعَ العُقَلاءِ لا يُقْدِمُونَ عَلى الوَطْءِ إلّا في المَواضِعِ المَسْتُورَةِ، وفي الأوْقاتِ الَّتِي لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ أحَدٌ، وأنَّ جَمِيعَ العُقَلاءِ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ ذِكْرِ أزْواجِ بَناتِهِمْ وأخَواتِهِمْ وأُمَّهاتِهِمْ لَمّا يُقْدِمُونَ عَلى وطْئِهِنَّ، ولَوْلا أنَّ الوَطْءَ ذُلٌّ، وإلّا لَما كانَ كَذَلِكَ. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا كانَ الوَطْءُ ذُلًّا كانَ السَّعْيُ في تَقْلِيلِهِ مُوافِقًا لِلْعُقُولِ، فاقْتِصارُ المَرْأةِ الواحِدَةِ عَلى الرَّجُلِ الواحِدِ سَعْيٌ في تَقْلِيلِ ذَلِكَ العَمَلِ، وأيْضًا ما فِيهِ مِنَ الذُّلِّ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالمَنافِعِ الحاصِلَةِ في النِّكاحِ، أمّا الزِّنا فَإنَّهُ فَتْحُ بابٍ لِذَلِكَ العَمَلِ القَبِيحِ ولَمْ يَصِرْ مَجْبُورًا بِشَيْءٍ مِنَ المَنافِعِ فَوَجَبَ بَقاؤُهُ عَلى أصْلِ المَنعِ والحَجْرِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ العُقُولَ السَّلِيمَةَ تَقْضِي عَلى الزِّنا بِالقُبْحِ. وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى وصَفَ الزِّنا بِصِفاتٍ ثَلاثَةٍ: كَوْنِهِ فاحِشَةً، ومَقْتًا في آيَةٍ أُخْرى، وساءَ سَبِيلًا: أمّا كَوْنُهُ فاحِشَةً: فَهو إشارَةٌ إلى اشْتِمالِهِ عَلى فَسادِ الأنْسابِ المُوجِبَةِ لِخَرابِ العالَمِ وإلى اشْتِمالِهِ عَلى التَّقاتُلِ والتَّواثُبِ عَلى الفُرُوجِ وهو أيْضًا يُوجِبُ خَرابَ العالَمِ. وأمّا المَقْتُ: فَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الزّانِيَةَ تَصِيرُ مَمْقُوتَةً مَكْرُوهَةً، وذَلِكَ يُوجِبُ عَدَمَ حُصُولِ السَّكَنِ والِازْدِواجِ وأنْ لا يَعْتَمِدَ الإنْسانُ عَلَيْها في شَيْءٍ مِن مُهِمّاتِهِ ومَصالِحِهِ. وأمّا أنَّهُ ساءَ سَبِيلًا: فَهو ما ذَكَرْنا أنَّهُ لا يَبْقى فَرْقٌ بَيْنَ الإنْسانِ وبَيْنَ البَهائِمِ في عَدَمِ اخْتِصاصِ الذُّكْرانِ بِالإناثِ، وأيْضًا يَبْقى ذُلُّ هَذا العَمَلِ وعَيْبُهُ وعارُهُ عَلى المَرْأةِ مِن غَيْرِ أنْ يَصِيرَ مَجْبُورًا بِشَيْءٍ مِنَ المَنافِعِ، فَقَدْ ذَكَرْنا في قُبْحِ الزِّنا سِتَّةَ أوْجُهٍ؛ واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ ألْفاظًا ثَلاثَةً، فَحَمَلْنا كُلَّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ عَلى وجْهَيْنِ مِن تِلْكَ الوُجُوهِ السِّتَّةِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب