الباحث القرآني

المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُ القائِلِ: لا تَقُلْ لِفُلانٍ أُفٍّ، مَثَلٌ يُضْرَبُ لِلْمَنعِ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ وأذِيَّةٍ وإنْ خَفَّ وقَلَّ. واخْتَلَفَ الأُصُولِيُّونَ في أنَّ دَلالَةَ هَذا الَّفْظِ عَلى المَنعِ مِن سائِرِ أنْواعِ الإيذاءِ دَلالَةٌ لَفْظِيَّةٌ أوْ دَلالَةٌ مَفْهُومَةٌ بِمُقْتَضى القِياسِ. قالَ بَعْضُهم: إنَّها دَلالَةٌ لَفْظِيَّةٌ، لِأنَّ أهْلَ العُرْفِ إذا قالُوا: لا تَقُلْ لِفُلانٍ أُفٍّ عَنَوْا بِهِ أنَّهُ لا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الإيذاءِ والإيحاشِ، وجَرى هَذا مَجْرى قَوْلِهِمْ: فُلانٌ لا يَمْلِكُ نَقِيرًا ولا قِطْمِيرًا في أنَّهُ بِحَسَبِ العُرْفِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذا اللَّفْظَ إنَّما يَدُلُّ عَلى المَنعِ مِن سائِرِ أنْواعِ الإيذاءِ بِحَسَبِ القِياسِ الجَلِيِّ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ الشَّرْعَ إذا نَصَّ عَلى حُكْمِ صُورَةٍ وسَكَتَ عَنْ حُكْمِ صُورَةٍ أُخْرى، فَإذا أرَدْنا إلْحاقَ الصُّورَةِ المَسْكُوتِ عَنْ حُكْمِها بِالصُّورَةِ المَذْكُورِ حُكْمُها فَهَذا عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الحُكْمِ في مَحَلِّ السُّكُوتِ أوْلى مِن ثُبُوتِهِ في مَحَلِّ الذِّكْرِ مِثْلَ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإنَّ اللَّفْظَ إنَّما دَلَّ عَلى المَنعِ مِنَ التَّأْفِيفِ، والضَّرْبُ أوْلى بِالمَنعِ مِنَ التَّأْفِيفِ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ الحُكْمُ في مَحَلِّ السُّكُوتِ مُساوِيًا لِلْحُكْمِ في مَحَلِّ الذِّكْرِ، وهَذا هو الَّذِي يُسَمِّيهِ الأُصُولِيُّونَ القِياسُ في مَعْنى الأصْلِ، وضَرَبُوا لِهَذا مَثَلًا وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ (p-١٥٢)السَّلامُ: ”«مَن أعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِن عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ الباقِي» “ فَإنَّ الحُكْمَ في الأمَةِ والعَبْدِ مُتَساوِيانِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ الحُكْمُ في مَحَلِّ السُّكُوتِ أخْفى مِنَ الحُكْمِ في مَحَلِّ الذِّكْرِ وهو أكْبَرُ القِياساتِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: المَنعُ مِنَ التَّأْفِيفِ إنَّما يَدُلُّ عَلى المَنعِ مِنَ الضَّرْبِ بِواسِطَةِ القِياسِ الجَلِيِّ الَّذِي يَكُونُ مِن بابِ الِاسْتِدْلالِ بِالأدْنى عَلى الأعْلى. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنَّ التَّأْفِيفَ غَيْرُ الضَّرْبِ، فالمَنعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لا يَكُونُ مَنعًا مِنَ الضَّرْبِ، وأيْضًا المَنعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لا يَسْتَلْزِمُ المَنعَ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا، لِأنَّ المَلِكَ الكَبِيرَ إذا أخَذَ مَلِكًا عَظِيمًا كانَ عَدُوًّا لَهُ، فَقَدْ يَقُولُ لِلْجَلّادِ إيّاكَ وأنْ تَسْتَخِفَّ بِهِ أوْ تُشافِهَهُ بِكَلِمَةٍ مُوحِشَةٍ لَكِنِ اضْرِبْ رَقَبَتَهُ، وإذا كانَ هَذا مَعْقُولًا في الجُمْلَةِ عَلِمْنا أنَّ المَنعَ مِنَ التَّأْفِيفِ مُغايِرٌ لِلْمَنعِ مِنَ الضَّرْبِ وغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمَنعِ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا في الجُمْلَةِ، إلّا أنّا عَلِمْنا في هَذِهِ الصُّورَةِ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ المُبالَغَةُ في تَعْظِيمِ الوالِدَيْنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ فَكانَتْ دَلالَةُ المَنعِ مِنَ التَّأْفِيفِ عَلى المَنعِ مِنَ الضَّرْبِ مِن بابِ القِياسِ بِالأدْنى عَلى الأعْلى، واللَّهُ أعْلَمُ. النَّوْعُ الثّانِي: مِنَ الأشْياءِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعالى العِبادَ بِها في حَقِّ الأبَوَيْنِ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْهَرْهُما﴾ يُقالُ: نَهَرَهُ وانْتَهَرَهُ إذا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلامٍ يَزْجُرُهُ. قالَ تَعالى: ﴿وأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] . فَإنْ قِيلَ: المَنعُ مِنَ التَّأْفِيفِ يَدُلُّ عَلى المَنعِ مِنَ الِانْتِهارِ بِطَرِيقِ الأوْلى، فَلَمّا قَدَّمَ المَنعَ مِنَ التَّأْفِيفِ كانَ ذِكْرُ المَنعِ مِنَ الِانْتِهارِ بَعْدَهُ عَبَثًا. أمّا لَوْ فَرَضْنا أنَّهُ قَدَّمَ المَنعَ مِنَ الِانْتِهارِ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِالمَنعِ مِنَ التَّأْفِيفِ كانَ مُفِيدًا حَسَنًا، لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ المَنعِ مِنَ الِانْتِهارِ المَنعُ مِنَ التَّأْفِيفِ، فَما السَّبَبُ في رِعايَةِ هَذا التَّرْتِيبِ ؟ قُلْنا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ المَنعُ مِن إظْهارِ الضَّجَرِ بِالقَلِيلِ أوِ الكَثِيرِ، والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْهَرْهُما﴾ المَنعُ مِن إظْهارِ المُخالَفَةِ في القَوْلِ عَلى سَبِيلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ والتَّكْذِيبِ لَهُ. النَّوْعُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا مَنَعَ الإنْسانَ بِالآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَنْ ذِكْرِ القَوْلِ المُؤْذِي المُوحِشِ. والنَّهْيُ عَنِ القَوْلِ المُؤْذِي لا يَكُونُ أمْرًا بِالقَوْلِ الطَّيِّبِ، لا جَرَمَ أرْدَفَهُ بِأنْ أمَرَهُ بِالقَوْلِ الحَسَنِ والكَلامِ الطَّيِّبِ فَقالَ: ﴿وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ والمُرادُ مِنهُ أنْ يُخاطِبَهُ بِالكَلامِ المَقْرُونِ بِأماراتِ التَّعْظِيمِ والِاحْتِرامِ. قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو أنْ يَقُولَ لَهُ: يا أبَتاهُ يا أُمّاهُ، وسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ عَنِ القَوْلِ الكَرِيمِ فَقالَ: هو قَوْلُ العَبْدِ المُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الفَظِّ، وعَنْ عَطاءٍ أنْ يُقالَ: هو أنْ تَتَكَلَّمَ مَعَهُ بِشَرْطِ أنْ لا تَرْفَعَ عَلَيْهِما صَوْتَكَ ولا تَشُدَّ إلَيْهِما نَظَرَكَ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذَيْنِ الفِعْلَيْنِ يُنافِيانِ القَوْلَ الكَرِيمَ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أعْظَمَ النّاسِ حِلْمًا وكَرَمًا وأدَبًا، فَكَيْفَ قالَ لِأبِيهِ يا آزَرُ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: (وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ آزَرُ) بِالضَّمِّ: ﴿إنِّي أراكَ وقَوْمَكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٧٤] فَخاطَبَهُ بِالِاسْمِ وهو إيذاءٌ، ثُمَّ نَسَبَهُ ونَسَبَ قَوْمَهُ إلى الضَّلالِ وهو أعْظَمُ أنْواعِ الإيذاءِ ؟ قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعالى مُقَدَّمٌ عَلى حَقِّ الأبَوَيْنِ، فَإقْدامُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ذَلِكَ الإيذاءِ إنَّما كانَ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعالى عَلى حَقِّ الأبَوَيْنِ. النَّوْعُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ المُبالَغَةُ في التَّواضُعِ، وذَكَرَ (p-١٥٣)القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تَقْرِيرِهِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الطّائِرَ إذا أرادَ ضَمَّ فَرْخِهِ إلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهُ جَناحَهُ، ولِهَذا السَّبَبِ صارَ خَفْضُ الجَناحِ كِنايَةً عَنْ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ لِلْوَلَدِ: اكْفُلْ والِدَيْكَ بِأنْ تَضُمَّهُما إلى نَفْسِكَ كَما فَعَلا ذَلِكَ بِكَ حالَ صِغَرِكَ. والثّانِي: أنَّ الطّائِرَ إذا أرادَ الطَّيَرانَ والِارْتِفاعَ نَشَرَ جَناحَهُ وإذا أرادَ تَرْكَ الطَّيَرانِ وتَرْكَ الِارْتِفاعِ خَفَضَ جَناحَهُ. فَصارَ خَفْضُ الجَناحِ كِنايَةً عَنْ فِعْلِ التَّواضُعِ مِن هَذا الوَجْهِ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ أضافَ الجَناحَ إلى الذُّلِّ، والذُّلُّ لا جَناحَ لَهُ ؟ قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ أُضِيفَ الجَناحُ إلى الذُّلِّ كَما يُقالُ: حاتِمُ الجُودِ فَكَما أنَّ المُرادَ هُناكَ حاتِمٌ الجَوادُ فَكَذَلِكَ هَهُنا المُرادُ: واخْفِضْ لَهُما جَناحَكَ الذَّلِيلَ، أيِ المَذْلُولَ. والثّانِي: أنَّ مَدارَ الِاسْتِعارَةِ عَلى الخَيالاتِ فَهَهُنا تَخَيَّلَ لِلذُّلِّ جَناحًا وأثْبَتَ لِذَلِكَ الجَناحِ ضَعْفًا تَكْمِيلًا لِأمْرِ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ كَما قالَ لَبِيدٌ: ؎إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها فَأثْبَتَ لِلشَّمالِ يَدًا ووَضَعَ زِمامَها في يَدِ الشَّمالِ فَكَذا هَهُنا. وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ مَعْناهُ: لِيَكُنْ خَفْضُ جَناحِكَ لَهُما بِسَبَبِ فَرْطِ رَحْمَتِكَ لَهُما وعَطْفِكَ عَلَيْهِما بِسَبَبِ كِبَرِهِما وضَعْفِهِما. والنَّوْعُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: إنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ في تَعْلِيمِ البِرِّ بِالوالِدَيْنِ عَلى تَعْلِيمِ الأقْوالِ بَلْ أضافَ إلَيْهِ تَعْلِيمَ الأفْعالِ وهو أنْ يَدْعُوَ لَهُما بِالرَّحْمَةِ فَيَقُولُ: ﴿رَبِّي ارْحَمْهُما﴾ ولَفْظُ الرَّحْمَةِ جامِعٌ لِكُلِّ الخَيْراتِ في الدِّينِ والدُّنْيا. ثُمَّ يَقُولُ: ﴿كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ يُعَيِّنُ: رَبِّ افْعَلْ بِهِما هَذا النَّوْعَ مِنَ الإحْسانِ كَما أحْسَنا إلَيَّ في تَرْبِيَتِهِما إيّايَ، والتَّرْبِيَةُ هي التَّنْمِيَةُ، وهي مِن قَوْلِهِمْ رَبا الشَّيْءُ إذا انْتَفَعَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ [الحج: ٥] . البَحْثُ الثّانِي: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] فَلا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِوالِدَيْهِ إذا كانا مُشْرِكَيْنِ، ولا يَقُولَ: رَبِّ ارْحَمْهُما. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، ولَكِنَّها مَخْصُوصَةٌ في حَقِّ المُشْرِكِينَ، وهَذا أوْلى مِنَ القَوْلِ الأوَّلِ لِأنَّ التَّخْصِيصَ أوْلى مِنَ النَّسْخِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ لا نَسْخَ ولا تَخْصِيصَ لِأنَّ الوالِدَيْنِ إذا كانا كافِرَيْنِ فَلَهُ أنْ يَدْعُوَ لَهُما بِالهِدايَةِ والإرْشادِ، وأنْ يَطْلُبَ الرَّحْمَةَ لَهُما بَعْدَ حُصُولِ الإيمانِ. البَحْثُ الثّالِثُ: ظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: ﴿وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ أمْرٌ وظاهِرُ الأمْرِ لا يُفِيدُ التَّكْرارَ فَيَكْفِي في العَمَلِ بِمُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ هَذا القَوْلِ مَرَّةً واحِدَةً، سُئِلَ سُفْيانُ: كَمْ يَدْعُو الإنْسانُ لِوالِدَيْهِ ؟ أفِي اليَوْمِ مَرَّةً أوْ في الشَّهْرِ أوْ في السَّنَةِ ؟ فَقالَ: نَرْجُو أنْ يُجَزِئَهُ إذا دَعا لَهُما في أواخِرِ التَّشَهُّداتِ كَما أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] فَكانُوا يَرَوْنَ أنَّ التَّشَهُّدَ يُجْزِي عَنِ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، وكَما أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿واذْكُرُوا اللَّهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣] فَهم يُكَرِّرُونَ في أدْبارِ الصَّلَواتِ. (p-١٥٤) * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكم إنْ تَكُونُوا صالِحِينَ﴾ والمَعْنى أنّا قَدْ أمَرْناكم في هَذِهِ الآيَةِ بِإخْلاصِ العِبادَةِ لِلَّهِ تَعالى وبِالإحْسانِ بِالوالِدَيْنِ، ولا يَخْفى عَلى اللَّهِ ما تُضْمِرُونَهُ في أنْفُسِكم مِنَ الإخْلاصِ في الطّاعَةِ وعَدَمِ الإخْلاصِ فِيها، فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ تَعالى مُطَّلِعٌ عَلى ما في نُفُوسِكم بَلْ هو أعْلَمُ بِتِلْكَ الأحْوالِ مِنكم بِها، لِأنَّ عُلُومَ البَشَرِ قَدْ يَخْتَلِطُ بِها السَّهْوُ والنِّسْيانُ وعَدَمُ الإحاطَةِ بِالكُلِّ، فَأمّا عِلْمُ اللَّهِ فَمُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الأحْوالِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ عالِمًا بِكُلِّ ما في قُلُوبِكم، والمَقْصُودُ مِنهُ التَّحْذِيرُ عَنْ تَرْكِ الإخْلاصِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَكُونُوا صالِحِينَ﴾ أيْ: إنْ كُنْتُمْ بُرَآءَ عَنْ جِهاتِ الفَسادِ في أحْوالِ قُلُوبِكم كُنْتُمْ أوّابِينَ، أيْ: رَجّاعِينَ إلى اللَّهِ مُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ في كُلِّ الأعْمالِ، وسُنَّةُ اللَّهِ وحُكْمُهُ في الأوّابِينَ أنَّهُ غَفُورٌ لَهم يُكَفِّرُ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ، والأوّابُ هو الَّذِي مِن عادَتِهِ ودَيْدَنِهِ الرُّجُوعُ إلى أمْرِ اللَّهِ تَعالى والِالتِجاءُ إلى فَضْلِهِ ولا يَلْتَجِئُ إلى شَفاعَةِ شَفِيعٍ كَما يَفْعَلُهُ المُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ جَمادًا يَزْعُمُونَ أنَّهُ يَشْفَعُ لَهم، ولَفْظُ الأوّابِ عَلى وزْنِ فَعّالٍ، وهو يُفِيدُ المُداوَمَةَ والكَثْرَةَ كَقَوْلِهِمْ: قَتّالٌ وضَرّابٌ، والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الآيَةَ الأُولى لَمّا دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الوالِدَيْنِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ ثُمَّ إنَّ الوَلَدَ قَدْ يَظْهَرُ مِنهُ نادِرَةٌ مُخِلَّةٌ بِتَعْظِيمِهِما فَقالَ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكُمْ﴾ يَعْنِي أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِأحْوالِ قُلُوبِكم، فَإنْ كانَتْ تِلْكَ الهَفْوَةُ لَيْسَتْ لِأجْلِ العُقُوقِ بَلْ ظَهَرَتْ بِمُقْتَضى الجِبِلَّةِ البَشَرِيَّةِ كانَتْ في مَحَلِّ الغُفْرانِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب